روح العصر
    الأثنين 5 ديسمبر / كانون الأول 2022 - 11:26
    أ. د. عبد علي سفيح
    مستشار وباحث لوزارة التربية والتعليم الفرنسية
    قال تعالى "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم الا قليلا". 
       في هذا المقال لم أقصد المعنى اللغوي للروح، بل أقصد المعنى الاصطلاحي؛ ومصطلح الروح يحمل طابعا دينيًا وفلسفيًا وثقافيًا؛ لأن لكل دين من الأديان، أو فلسفة من الفلسفات " نموذج معرفي" يلخص المعالم الكبيرة والمواقف الأساسية من الكون والحياة ومن المقدس، وهذا "النموذج المعرفي" وما يسمى "بالروح"، يرتكز على مفهوم أساس هو اللب والجوهر؛ فمصطلح "روح العصر" هو مفهوم من الفلسفة الألمانية من القرن التاسع عشر، وهذا المفهوم يشير إلى عامل غير مرئي يسيطر على خصائص عصر لحقبة زمنية معينة.
        انتهج علماء الغرب ومفكريهم وفلاسفتهم نهجًا للإجابة على سؤال وهو: كيف يمكننا ابتكار طريقة صحيحة للتفكير لكي نتوصل إلى نتائج صحيحة؟ أجاب العلماء، بأنه يحصل من طريق البحث عن نقطة البداية؛  عند نيوتن كانت نقطة الابتداء هي الجاذبية، وعند دارون اصل الانواع، وعند ماركس الصراع الطبقي، وعند فرويد الوعي واللاوعي، وعند علماء الفلك البينغ بونغ؛ وسمى بعض العلماء نقطة الابتداء بالروح، فقال هيغل روح الزمن هو الاستمرار والتغيير، وماكس فيبر قال روح الراسمالية هي حرية الاستثمار، وعلماء اللاهوت الديني قالوا روح اليهودية الانتقال والمشاركة، وروح المسيحية المحبة، وروح الاسلام الشهادة.
    هذه المقدمة البسيطة المرمى منها توضيح معنى "روح العصر" أي عصر الحداثة والتغيير.

    كانت الثقافة العالمية قبل القرن العشرين، ثقافات محلية أو اقليمية أو وطنية، أو دينية، ولكل منها رموزها الخاصة؛ في بداية القرن العشرين حدثت أكبر ثورة ثقافية وانجبت مجتمع السوق الحرة، وهذه الثورة دفعت البشرية إلى سلك طرق مشتركة جديدة ترتكز على الاهتمام بالنفس الفردية والى استهلاك وقت الفراغ، وهذا الاستهلاك يتم بإستخدام وسائل مشتركة مثل الراديو، والتلفزيون، والسينما، والصحافة، أي اختراع وقت للذات يحقق سعادة ورفاهية فردية؛ هذا الاختراع أدى إلى بناء عالم يستمد شرعيته من الممارسات الفردية.

    هذه الثورة الثقافية ولدت مذهبًا جديدًا وهو مذهب المتعة والاستهلاك الشخصي، مما ولدت الفردية المعاصرة، ومنها تغيرت قيم الفرد ورؤيته للعالم؛ هذه الثورة الجديدة أدت كذلك إلى شبه التجانس الاجتماعي البشري، وخير دليل على ذلك اليوم هو مشاهدة العالم لمباريات كأس العالم في قطر.

    اللافت للنظر أن هذه الحداثة حصلت في الغرب المسيحي وليس في الشرق، وقائد هذه الثورة والتغيير هم المسيحيون البروتستانت وليس الكاثوليك، قال الفيلسوف والاديب الفرنسي فيكتور هيغو "ان أفضل شعوب العالم في إنتاج الغنى هم الانجلوساكسون (بروتستانت) الا أن عيبهم في توزيع الغنى، اما الشعوب اللاتينية (كاثوليك) هي أفضل شعوب العالم في توزيع الغنى"؛ وذكر المؤرخ الفرنسي كوينيت في كتابه "المسيحية والثورة الفرنسية " وهو كاثوليكي، قال بأن قيم الثورة الفرنسية هي قيم مسيحية الا أن الثورة استطاعت أن تلغي التقاليد الدينية في عصمة رجال الدين وهيمنتهم المادية والسياسية، فانجبت الديمقراطية كرمز للمساواة بين الناس وإلغاء هيمنة طبقة على أخر؛ بينما الفيلسوف الفرنسي ادغار موران يبين سبب فشل الكاثوليك في قيادة الحداثة لأن الكاثوليك يعطون الأولوية إلى التواضع على أن المسيح كان يسير بين الناس ولا يختلف عنهم في ملبسه ومشربه ومسكنه، فالتفاخر بما يملكه الفرد صفة غير مستحبة، بينما شيد الكاثوليك الكنائس الكبيرة والكاتدراليات العملاقة مثل نوتردام وغيرها؛ على عكس البرتستانت، نراه يفتخر بما كسبه ويتباهى أمام العالم في مسكنه وملبسه ومرتبه الشهري لأنه يعتقد بأنها نعمة من الله والفرد يذكر نعمة ربه عليه، ولذلك لم يشيد البروتستانت كنائس كبيرة.

    ختامًا، أن هناك سؤال طرأ على بالي وهو: هل ممكن ان تفسر  لنا فرضية الفيلسوف ادغار موران سبب فشل ايران بمواكبة الحداثة والتغيير مثل الكاثوليك بينما نجحت تركيا؟ لم يظهر الايراني غناءه ويحبذ اخفاءه بإستخدام التقية، نجده يبني ويعمر الاضرحة بالذهب والفضة مثلما عمر الكاثوليك الكنائس والكاتدراليات الضخمة، بينما نجح الأتراك مثل البروتستانت الذين لا يعظمون القبور بمواكبة الحداثة، وقد يكون أحد أسباب فتح الأتراك شباكهم نحو الغرب بينما فتحت ايران شباكها نحو الشرق.

    د.عبد علي سفيح
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media