أ. د. عبد علي سفيح
في هذا المقال لست بصدد السرد التاريخي للمعتزلة، الذي يعتمد على النصوص والوثائق التي هي مادة التاريخ الأولى ودعامة الحكم القوية، بل اخترت هذا العنوان لأني قرأت ومن دواعي الصدف كتاب للباحث حسين مروة بعنوان "النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية"، وجدتها قراءة بمنهجية علمية دقيقة لم يسبق لأحد من قبله رغم غزارة الكتب التي كتبت عن المعتزلة، التي جاوزت المائة كتاب، فسعيت جاهدا بالحفر والتفكيك لهذه الظاهرة الفريدة في التاريخ العربي الاسلامي ومحاولة تحديد جذورها، فهي لن تظهر بصورة عفوية وفجائية، ولن تقارن بفعل فردي من واصل بن عطاء مؤسس هذه المدرسة، وليست ردة فعل فكرية نتيجة نقاش دار بين واصل بن عطاء مع استاذه الحسن البصري، بل نجد جذور هذه الظاهرة واصولها بما سبقها من تطور المجتمع العربي الاسلامي.
هناك أكثر من قول ورأي في سبب تسميتهم بالمعتزلة الا أن الرأي الأكثر شيوعا هو أن تسميتهم جاءت بعد اعتزال واصل بن عطاء في البصرة لأنه سأل استاذه الحسن البصري عن عصاة موحدين فقال له الحسن البصري"هم تحت المشيئة أن شاء الله عذبهم وان شاء غفر لهم"، فرد واصل بن عطاء "بل هم في منزلة بين المنزلتين"، ثم اعتزل الحلقة فقال الحسن البصري"اعتزلنا واصل" ، فسميت فرقته منذ ذلك الحين بالمعتزلة.
المعتزلة فرقة عقلانية تنسب إلى الإسلام نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، ويمكن أن يطلق على هذه الحقبة بانها حقبة المعتزلة لما كان لها من أثر بالغ في الحياة العامة والخاصة، سياسية أو علمية أو عملية، فقد تأثر الخلفاء من بني العباس بافكارهم واستعانوا بهم على ولاياتهم، فقد كان ظهورها في أيام الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك، وكانت لهم آراء انفردوا فيها عن غيرهم من الطوائف الاسلامية.
ازدهر مذهب المعتزلة بسبب تعاملها الإيجابي مع الفكر البشري، خاصة عندما نشطت الترجمة في عهد المنصور وبلغت ذروة ازدهارها في عهد المأمون العباسي، الذي كان معتقلين وأصبح الاعتزال المذهب الرسمي للدولة العباسية في بغداد، وبعد المأمون جاء المعتصم فالواثق وقد تبنيها مذهب المعتزلة؛ بعد وفاة الواثق فول المتوكل الخلافة، ثم انقلب على مذهب الدولة، فاظهر الميل إلى "اهل الحديث"، وقد كان انقلاب المتوكل على المعتزلة قد اورث الدولة العباسية سلسلة انقلابات وتعرض المعتزلة للقتل والسجن من قبل السلطة والاشاعرة وأهل الحديث، فحرقت كتبهم ووصفوا بالزندقة والكفر، بعدها بدأ العد العكسي للحضارة العربية الاسلامية.
بعد هذه المقدمة السريعة أعود إلى جوهر الفكرة وهي: ماهي الجذور الحقيقية التي أدت إلى ولادة ونمو وتمدد ظاهرة المعتزلة؟.
قبل الإجابة على هذا السؤال، يقدر بنا وقبل كل شيء أن نسأل سؤال وهو: لماذا هذه الظاهرة الفكرية الفريدة ظهرت في البصرة ولم تظهر في الكوفة، علما كانت الكوفة عاصمة الخلافة الاسلامية في زمن الامام علي، والحيرة (النجف حاليا) كانت مدينة تمثل مركز إشعاع ثقافي وعاصمة المناذرة قبل الاسلام؟.
الجواب يأتي من الجغرافية. الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ؛ البصرة مدينة تقع على رأس الخليج والذي كان يسمى في العهد العثماني بخليج البصرة، وهي مدينة ساحلية حالها حال معظم المدن الساحلية في العالم التي تشهد بالتنوع الثقافي والاثني والديني، ولقد سجل التاريخ تواجد هذا التنوع البشري منذ آلاف السنين لأن البصرة منطقة إتصال بلاد الرافدين بالحضارات الأخرى وصولا إلى الهند والسند.
مع الأسف يجهل الكثير من الناس ماضي البصرة القديم، إذ تقتصر معظم الدراسات على سرد تاريخ البصرة بعد الاسلام ولا تتطرق ذكر تاريخها الغابر.
أكدت البحوث العلمية بأن سر تطور الأمم وتقدمها يكمن في حسن إدارتها لهذه التعددية العرقية والدينية، ولدعم فرضية الجغرافيا في صنع التاريخ ودور البصرة في صنع ظاهرة الاعتزال، نسلك منهج البحث المقارن لدعم فرضيتنا فوجدنا مدينة في جنوب أفريقيا تسمى بيترماريزبورغpietermaritzburg التي يقطنها اقلية هندية كبيرة، ومن هذه المدينة ولدت فلسفة وثقافة اللاعنف (الساتياغراها) لغاندي والتي أثرت على التطورات السياسية في جنوب أفريقيا ومنها تبناها القائد نيلسون مانديلا في صراعه ضد التمييز العنصري الذي تبناه البيض.
للجغرافيا أثر كبير في صناعة التاريخ، والبصرة نقطة وصل بين الأمم المختلفة لوجود ممر مائي، جعلت من البصرة مركز تنافس وصراع لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا. جاء الاسلام والايمان من الجزيرة العربية إلى العراق عن طريق البصرة، حاملا معه ارثا ثقافية وتاريخيا مليء بالصراعات والتعصب القبلي، وقد تعامل الامويون مع الأمم خارج الجزيرة العربية تعاملا عنصريا ميزوا بين العرب وبين الموالي وهم غير العرب، وعند دراسة ظاهرة الاعتزال وجدنا معظمهم كانوا من تلك الفئة الاجتماعية التي يسمى أفرادها بالموالي؛ الحسن البصري كان ابوه مولى زيد بن ثابت الانصاري، وواصل بن عطاء من موالي بني مخزوم، وعمر بن عبيد ولد في بلخ (افغانستان)، كذلك ابراهيم النظام، إضافة إلى العلاف ابي الهذيل مولى لعبد القيس، اما الجاحظ فكان أصله من الزنج وجده مولى لأحد رجال بني كنانة.
هؤلاء الموالي كانوا يشعرون بانتقاص في مكانتهم الاجتماعية ، وهذا الشعور الدفين هو الذي دفعهم إلى ولادة الفكر المعتزلي الذي يستند على قاعدة عقائدية وحددوا أصولها الخمسة وهي العدل والوحدانية والوعد والوعيد ومابين المنزلتين، أي أثر هذا الشعور بالدونية في اتجاههم الفكري والعقائدي كما حصل مؤخرا لليهود في العالم فتبنوا الأفكار السياسية العالمية كالشيوعية والاشتراكية، والعلوم العالمية مثل علم النفس عند فرويد، والاجتماع عند كارل ماركس، وعلم وراثة الجينات. فالاصول الخمسة عند الاشاعرة كانت تعبر بوضوح عن اللاوعي الجماعي لهذه الشريحة الاجتماعية من مجتمع البصرة.
بعد أن بينا بأن الجغرافيا هي التي تصنع تاريخ الأمم وتحدد سلوكها وافكارك وتطلعاتها، ننتقل إلى سؤال آخر وهو: هل ممكن أن يلعب الفكر كوسيلة للتحول الحضاري؟، اذا كان الجواب بنعم، فهل ممكن القول بأنه لولا الفكر الاصلاحي المعتزلي لما شهدت بغداد والحضارة العربية الإسلامية هذا التقدم والرقي في جميع المجالات؟، أي بمعنى أدق، هل الاعتزال كان شرطا مسبقا لبناء الحضارة العربية الإسلامية؟.
للإجابة على هذا السؤال أود أن أرصد أوجه الشبه بين الفكر الاصلاحي المعتزلي في القرن الثامن الميلادي والفكر الاصلاحي البروتستانتي في القرن السادس عشر ميلادي.
المعتزلة وعلى رأسهم مؤسس الفرقة واصل بن عطاء، والبروتستانتية وعلى رأسها مؤسسه الراهب مارتن لوثر، انشاوا حركات تنويرية ربطت الدين بالفلسفة، وتصالح العقل الديني مع العقل الفلسفي، وهذا التصالح أفضى إلى التزاوج مع السياسة. المعتزلة والبروتستانتية كانت حركات قائمة على اخضاع النصوص الدينية لسلطة العقل، وهذا ما انقذ المجتمع العربي الاسلامي من استمرار الانشقاق والصراع، كذلك انقضت البروتستانت المجتمع الأوربي المسيحي آنذاك من التدهور.
شجعت الحركتان الاصلاحيتان المجتمع على الانخراط في الاوساط الفكرية وأصبح المجتمع يهتم بالمجالات العلمية، وعمل جاهدا لاكتساب مقومات الحضارة.
المناظرة والنقاش والحوار في العقيدة والمفاهيم اللاهوتية مع أبناء نفس الدين أو مع الآخرين لإثبات الحجة والدليل العلمي، كانت نقطة ابتداء المعتزلة والبروتستانتية. في بغداد كان حكام بني العباس ورجال السياسة والأدب والفلسفة والدين يعقدون مجالس للنقاش والحوار، وفي هذه الفترة شكلت الحضارة العربية الإسلامية شعاع فكري عالمي لامع. كذلك رصدنا من ناحية السياسة تشابه بين المعتزلة والبروتستانتية، بنمو الشعور الوطني ولم يكتفوا بكونهم مصدر للشريعة الدينية بل اصبحا سلطة دنيوية تملي خطوات سياسية.
د.عبد علي سفيح