للتراث خنساؤه.. وللشعر الحديث وجيهته
    الجمعة 23 ديسمبر / كانون الأول 2022 - 18:36
    أ. د. هادي حسن حمودي
    باحث وأستاذ جامعي عراقي - لندن
    إذا كان لتاريخ الشعر العربي خنساؤه، فلحاضر الشعر العربي وجيهته. ولكن لا يجمع بينهما إلا بعض أمر.

    فلئن انصرفت الخنساء إلى رثاء أخيها والبكاء عليه، فالدكتورة وجيهة السطل، ترمي غروب الوطن بعين تتطلع للفجر. فالمرء يموت، ولكن الأوطان لا تموت، قد تذوي وتنهار، ولكنها تستعيد مسيرتها حين تصدق النيات وتتوحد الإرادات. أما متى يتم ذلك؟ فهو كيوم القيامة (عسى أن يكون قريبا).

    تقول في قصيدتها (نعيم الروح)

    ١-توالى الكربُ ياوطني

    فمَنْ لقَساوةِ الزمن

    ٢- ومن يمحو بهمَّته

    دروبَ اليأس والحزَن

    ٣- ومَنْ بحنانِهِ يأتي

    يعيدُ الروح للبدن

    فكأن الشاعرة تجعل الوطن يتماهى مع البدن، فكما البدن لا شيء سوى اللحم والعظم بدون الروح، فالوطن لا شيء بدون الحرية والاستقرار.. ولكنها تطلب الحنان طريقا لإعادة الروح وما بعد إعادتها، حيث تطلب الصدق، وإزالة عوامل الفُرقة والاختلاف والفتن.

    ٤-ويملأُ يومَنا نَغَمًا

    يزيلُ مرارةَ الفِتَن

    ٥- ويصدُقُ كي نرى عهدًا

    لنا في العمرِ، لم يكنِ

    أما وأن ذلك لم يتحقق فلا مفر من الحزن، من الدمع العزيز الذي لا هوان له. غير أن هموم البُعد عن الوطن تستنزف القوى فتغرق الشاعرة في الأحزان التي تفرض غياب الحلم بالوطن. وتلك هي المأساة الكبرى أن يفقد المرء أحلامه. فهذا يعني نضوب الحياة:

    ٦-ألا يا دمعةً سالَتْ

    من الأعماقِ، لم تهُنِ

    ٧-همومُ البُعدِ تعصِفُ بي

    وبالأحزانِ تغرقُني

    ٨-وتمضي في أعِنّتها

    منَ الأحلامِ تسرقُني

    فهي تخاطب الليل كمن يقف على أطلال الأحلام: هيا أيها الليل أعد لي ولو حلما يُسمعني صوت الأهل، فيحملني مع النجوم إلى أحبابي. فكأن ذلك الصوت يرسل الغيث، ليروي الروض والأغصان:

    ٩- أما للَّيلِ من حُلُمٍ

    لصوتِ الأهلِ يُسمِعُني

    ١٠- يُباغِتُني على عجلٍ

    وللأحبابِ يحملُني

    ١١-ويرسلُ غيثَهُ نِعَمًا

    لحضنِ الروضِ والفنَن

    ١٢-فيورقُ في العروقِ دمٌ

    وتُزهرُ في اللقا غُصُني

    وهناك هناك فقط يغمرها الرضا، وتنسى الجراح، جراح الكذب والفتن، وتحيا بنعيم الروح في وطنها، حيث يطاوعها ذلك النعيم:

    ١٣- ويغمرُني الرضا وَكَأَنْ

    جراحُ الأمسِ لم تكنِ

    ١٤- وأحيا إذْ يطاوِعُني

    نعيمَ الروحِ في وطني

    وللشاعرة وجيهة وحهة أخرى هي نشاطها الاجتماعي الثقافي، فتراها من منتدى إلى حوار، ومن ملتقى إلى قصيدة، ومن قصيدة، إلى منشورات نحوية، وعلى ضوء القناديل يشرق يومها بالمحبة:

    مَازالَ في القِنديلِ زيتٌ يُحرقٌ

    مازالَ يومي بالمَحبَّةِ يُشرقُ

    وما هذه المحبة إلا ما يتجلى في تواصل (الأحباب) الذين يرسلون لها شذا مديحهم وثنائهم، الذي هو عطر يتجلى في سؤالهم عنها، واهتمامهم بها. وتجعل تلك الأسئلة عطرا يترقرق بالندى:

    مازالتِ الأحبابُ تُرسِلُ عِطرَها

    وسؤالُهم عني ندًى يترقرق

    وهم يُعنَون بحروفها التي تصدح بالجمال، و(الكل) يصغي ليراعها الذي يخط تلك الحروف. ولذلك (يُزهر) قلبها بهم، إذ يأتون متحلقين من حولها، يحمّلون حروفهم رسائلهم الحانية عليها:

    (هذا يَراعي صادحًا بحروفِه )

    والكلُّ يُصغي إذ يَراعي يَنطِق

    والقلبُ يُزهِرُ بالأحبَّةِ مورِقًا

    ويقولُ ها هم أقبلُوا وتحَلَّقوا

    جاؤوا إليكِ قلوبُهم خَفّاقَةٌ

    وحُروفُهم تحنو عليك وتُغْدِق

    هكذا تكتمل دائرة الحنان. ذلك الحنان الذي تنشده وجيهة السطل في كل (مَن) حولها، وتغدقه على كل (ما) حولها.

    والحنان، عندها، طريق السعادة. وهي ترى السعادة لا تتحقق إلا بالتوحيد، بالإيمان بما جاء به النبي الكريم، فتستنشده الري بعد الظمأ. قالت في قصيدتها:

    ⚘أمة به تسعد⚘

    ظَمِئَتْ نفوسُ الخلقِ،عزَّ الموردُ

    فأضاءَتِ الدنيا، وجاءَ محمَّد

    وهدى إلى التوحيدِ لم يعبَأْ بما

    فعلتْ وقالتْ عصبةٌ

    تتهدَّد

    وعرضت في القصيدة لشيء كثير من السيرة النبوية المباركة. ورأيتها تتابع تلك السيرة العطرة من غار حراء إلى آفاق العالم:

    وحِراءُ غارٌ كمْ تعطَّر باسمه

    يأوي إليه مفكِّرًا

    يتعبَّد

    وعلى ضفاف الأربعين رسالةٌ

    (اِقرأ) بها جبريلُ جاء يردّد

    ( اِقرأ) وباسمِ اللهِ ربِّكَ خالقًا

    قد علّمَ الإنسانَ، علمًا يُرشِد

    وتكرّرَ الوحيُ الأمينُ يزورُه

    تترى رسائلُ ربِّهِ

    تتنَضَّد

    وتعرض لأذى المشركين له ولأتباعه من قريش والطائف وغيرهم كلما عرض على قوم رسالته.

    وترصد الشاعرة بألم ذلك الأذى الذي تضاعف في عام الحزن:

    عامٌ حزينٌ، مات فيهِ عمُّه

    وقضَتْ خديجةُ، فاستباهُ المشهد

    وعلى الرغم من ذلك الحزن وتلك الفجيعة واصل عرض رسالته ةتحمل الأذى محتسبا.

    والشاعرة تفتبس من ذلك التاريخ الخضل النديّ ما ينفع عصرنا هذا بعد أن فرّقت السبل الجائرة أبناء هذه الأمة، فتخاطب النبي الكريم وأمّته:

    يا خيرَ خَلقِ اللهِ إنّا أمةٌ

    قد أسرَفتْ في الغيِّ باتتْ تجحَد

    ونبيُّها الهادي محمدُ نورُه

    شمسٌ لمن رامَ الهدى تتوقَّد

    ونبيُّها للرُّوحِ رَوحٌ دائمٌ

    وبنوره كمْ يستضيءُ مُسهَّد

    ورسولُ ربِّ العالمين شفيعُنا

    يومَ الحسابِ وفي

    الجنان سنخلُد

    صلى عليه الله في عليائه

    و لكلِّ مَن صلّى عليه سيشهّد

    من سيرةِ المختارِ نقبِسُ شعلةً

    وإلى رضا ربِّ البريَّةِ نحفِد

    ندعوهُ أن نلقى الحبيبَ محمدًا

    نرجو الشفاعةَ في حِماهُ ونحمَد

    ربَّاهُ رشفةَ كوثرٍ من كفّه

    نحيا بها وبنورِه نتجدّد

    أكتفي بهذا فشعر الدكتورة وجيهة، والكشف عن فنون التعبير فيه وأساليبه في قصائدها الوفيرة الغزيرة بحاجة إلى دراسات (أكاديمية) معمقة. وما هذه السطور إلا محاولة التذكير بما ينبغي الالتفات إليه من جميل الشعر الجدير بصفته.

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media