بين العراق ويهوده السّابقين: عندما لا يكون الحنين مجدياً (1 من 5)
    الثلاثاء 29 مارس / أذار 2022 - 06:12
    د. عقيل عباس
    أستاذ جامعي
    في السنوات الأخيرة برزت رغبة شعبية عراقية بمراجعة تاريخ البلاد مع اليهود العراقيين، خصوصاً في إطار تعامل الدولة الجائر معهم الذي اضطرهم الى مغادرة العراق، وطنهم الأم. هذه الرغبة صحية وصحيحة، لكنها لسوء الحظ ظلت تراوح بين مشاعر الندم والحنين، من دون أن تتحول إلى أفعال ملموسة لتصحيح بعض أخطاء الماضي الفظيعة بهذا الصدد. 

    جاء اليهود إلى العراق قسراً، وبقوا فيه طوعاً، وتفاعلوا معه وتعلموا منه وساهموا في إثراء ثقافته، قبل أن يغادروه هرباً جراء تواطؤ الدولة والمجتمع ضدهم في لحظة عراقية مأزومة طويلة، هيمن فيها الكره الديني والتعصب العرقي والغضب السياسي على منطق المؤسسات وحكم القانون.

    سبق وصول اليهود إلى العراق وصول المسلمين اليه بـ11 قرناً ضمن ما عُرف بالسّبي البابلي ضمن صراعات العالم القديم. في القرن السادس قبل الميلاد حاصر الملك البابلي نبوخذنصّر الثاني، مرات عدة في خلال أعوام قليلة، عاصمة مملكة اليهود، القدس، وهدمها، بينها الهيكل المقدس الذي كان يقدم اليهود الأضاحي فيه، بسبب  رفضها دفع الأتاوة السنوية المقررة لبابل وإعلانها العصيان المسلح ضدها، بتحريض من مصر القديمة عدوّة الإمبراطورية البابلية.
     
    وعلى أساس تقاليد الحرب الشائعة في العالم القديم المتعلقة بتدمير المدن "العاصية" كلياً أو جزئياً، وترحيل بعض سكانها أو كلهم، عادةً الى العاصمة الإمبراطورية، خصوصاً الطبقة العليا، قام نبوخذنصّر بجلب آلاف اليهود معه الى بابل (تختلف التقديرات بخصوص الأعداد، لكن أعلاها تبلغ 20 ألفاً، أي أقل من ثلث السكان اليهود في القدس حينها). سُمح للمرحلين، كما هو معتاد حينها، بالعمل والسكن والزواج وشراء الأرض، بحيث اندمج بعض اليهود بالمجتمع البابلي وفقدوا يهوديتهم. استمر السبي بضعة عقود (تراوح التقديرات عموماً بين 48 و70 عاماً) قبل أن ينهي الملك الفارسي الأخميني قورش الإمبراطورية البابلية ويحتل بابل، ليسمح لليهود فيها بالعودة إلى فلسطين إذا أرادوا. عاد بعضهم، فيما اختار البعض الآخر البقاء. الذين قرروا البقاء أصبحوا نواة مجتمع يهودي في العراق، عاش أحفادهم فيه نحو ألفي عام، وأصبحوا عراقيين يهوداً قبل أن تجبرهم الإجراءات والقوانين التمييزية للدولة العراقية في النصف الثاني من القرن العشرين على الرحيل من موطنهم الأصلي نحو إسرائيل ودول أخرى. 
     
    كانت عقود السبي البابلي في العراق حاسمة في تشكيل الهوية والديانة اليهوديتين. ففي بابل، وفي سياق تفاعلهم مع الثقافة البابلية تأثراً بها ورداً عليها، تحوّل اليهود، على يد الطبقة اليهودية الدينية العليا التي جلبها نبوخذنصّر معه من فلسطين، من استخدام الأبجدية القديمة الفينيقية الى الأبجدية الآرامية، السائدة في العراق، التي كتبوا فيها التلمود (أو ما يُعرف بالتلمود البابلي تمييزاً له عن نسخة أسبق وأقصر تُعرف بالتلمود الفلسطيني). كوثيقة مركزية في الحياة الدينية اليهودية، يتضمن التلمود شروحات وقصصاً حاخامية تراكمت على مدى القرون، تتناول قواعد السلوك والفقه ومسائل حياتية وعقائدية وتاريخية مختلفة. في أثناء هذا السّبي تحولت اليهودية، من دين محلي طقوسي لمجموعة معزولة من الناس إلى منظومة دينية ذات قيم كونية أخلاقية عبر تطويرها لمفاهيم التوحيد والخير والشر، واستبدالها الأضحيات بالصلوات والأدعية، لتصبح كل هذه تالياً أساسية في المسيحية والإسلام اللذين ورثا هذه القيم من اليهودية وأضافا إليها. 
     
    في العراق الإسلامي الذي تشكل بعد أكثر من ألف عام على وجود اليهود في البلد وتجذرهم فيه، تكيّف اليهود مع الحضارة الجديدة الآتية ضمن منظومة قانونية دينية جديدة أقرّت بحقوقهم الأساسية عبر التزامات متبادلة، قامت على أساس التفاضل لا المساواة، أي علوية المسلم على غير المسلم. لكن حتى في هذا الإطار غير المتكافئ، استطاع اليهود الاحتفاظ بخصوصيتهم الدينية والثقافية، والمضي بحياة مستقرة عموماً، فيما كانت المسيحية الأوروبية، خصوصاً في القرون الوسطى، تنظر إليهم بارتياب كأعداء للسيد المسيح، وتفرض عليهم أنواع العقوبات المختلفة في إطار بروز العداء الديني المسيحي لليهود، وصناعة صورة نمطية شريرة لشخصية اليهودي، بعض أمثلتها حاضرة أيضاً في التراث الإسلامي وانتقلت إلى الثقافة العربية العامة.

    في تناول التاريخ العراقي بعد إنشاء الدولة الحديثة في القرن العشرين، تختفي معظم قصة السبي البابلي وتعاطي اليهود معه، كما تختفي أشياء كثيرة أخرى، ولا تظهر إلا في سياق سياسي تعبوي محدد صاغته القومية العربية، في سياق تشكيلها ما عُرف بخطاب التحرير (تحرير فلسطين من البحر الى النهر) الذي وظفه الإسلام السياسي تالياً، وحظي بشعبية واسعة في العالم العربي. ضمن هذا الخطاب، تصير قصة السبي الواردة على نحو عابر في القرآن الكريم، نبوءة سياسية - دينية لتدمير آتٍ ومؤكد لدولة إسرائيل المتشكلة بعد عام 1948 وانتصار حاسم للعرب على هذه الدولة، وعودة الفلسطينيين إلى أراضيهم التي انتزعوا منها. 

    أضاع خطاب التحرير، بتوظيفه الانتقائي للنصوص الدينية، المسافة المهمة والفاصلة بين اليهود كمواطنين أصليين في دول عربية، والصهيونية كحركة سياسية قومية يهودية، ليدمج الاثنين في إطار شيطنة عامة لكل ما هو يهودي ضمن صراع أوسع عربي - إسرائيلي بخصوص فلسطين. باستثناء حكم عبد الكريم قاسم، رسخت الأنظمة الجمهورية المتتالية في العراق هذه الشيطنة العامة كجزء طبيعي من الثقافة السياسية ومعنى الوطنية والانتماء القومي. ما سهّل هذه الشيطنة في العهود الجمهورية، وخاصة في عقود حكم البعث الطويلة، هو قلة عدد اليهود في البلد بعد هجرتهم الاضطرارية الواسعة في الخمسينات، فشيطنة الغائبين أسهل كثيراً من شيطنة الحاضرين في المجتمع، والمُمثلين في نواحيه المختلفة بأعداد معقولة.

    سمحت إطاحة الولايات المتحدة نظام صدام حسين، وانفتاح البلد على معارف جديدة في ظل الحرية النسبية الآخذة بالبروز، وتراخي سطوة القومية العربية، بأن يراجع العراقيون شيئاً من تاريخهم الحديث، خصوصاً بعد فشل نموذج الإسلام السياسي في الحكم. تضمن جزءٌ من هذه المراجعة تناولَ تاريخ اليهود العراقيين في سياق تعاطي الدولة العراقية معهم. أنتجت هذه المراجعة فهماً إنسانياً لليهود العراقيين، بعيداً من شيطنتهم المعتادة السابقة في سياقات دينية وقومية. هذا تطور إيجابي بلا شك، أي التحرر من هيمنة النظرة النمطية والمغلوطة لليهود ككائنات شريرة في الثقافة العربية.
     
    لكن لم يقطع هذا التطور شوطاً أبعد من مشاعر عامة بالندم على أفعال، شعبية ومؤسساتية، ظالمة بحق اليهود العراقيين، ومن إنتاج حس بالحنين الى ماض جميل متخيل، لم يشعره الذين عاشوه حينها جميلاً. ليس ثمة سعي عراقي شعبي أو مؤسساتي للتعاطي مع المظالم التي تعرض لها اليهود العراقيون، وإصلاح ما يمكن إصلاحه منها.  

    (يتبع)
    © 2005 - 2025 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media