العواقب غير المتوقعة والفشل العربي (1-2)
    الجمعة 10 يونيو / حزيران 2022 - 17:12
    د. عقيل عباس
    أستاذ جامعي
    تشير العواقب غير المتوقعة أو غير المقصودة إلى ظاهرة معروفة في الأفعال والقرارات الإنسانية وكيفية التخطيط لها، إذ يهدف الفعل مثلاً إلى تحقيق هدف معين عادةً ما يكون معلناً، وقد يحققه، لكن تظهر أيضاً عواقب لم يتوقعها المُخطط أو يأخذها بالحسبان.
    أحد الأمثلة الشهيرة هي استخدام السائق حزام الأمان الذي ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه قَلل الوفيات بين السائقين والراكبين معهم عند حصول حوادث الاصطدام على الطرقات.
    على هذا النحو يكون قرار إلزام السائقين والراكبين معهم باستخدام أحزمة الأمان صحيحاً وحقق الهدف المقصود منه، أي الحفاظ على سلامة الذين في السيارة. لكن أحد العواقب غير المتوقعة من هذا القرار، كما أظهرت دراسات واحصائيات، هي زيادة الوفيات بين المشاة وراكبي الدراجات في الشوارع لأن السواق، بسبب شعورهم بالأمان والحماية جراء استخدامهم أحزمة الأمان، يلجؤون إلى قيادة سياراتهم بسرعة أعلى ما سبب خطراً على حياة مستخدمي الشارع الآخرين من المشاة وأصحاب الدراجات.
    تكشف هذه النتيجة غير المتوقعة أن السلطة التي قررت فرض حزام الأمان، لم تنتبه أو تتوقع، عند تخطيطها للقرار، هذه النتيجة الجانبية السلبية التي تقوض معنى الهدف الأصلي المُخطط له. يتطلب التعاطي مع هذا الجانب السلبي قرارٌ آخر يتعلق بتخفيض السرعة الأعلى المسموح بها للسائق وضمان تنفيذه عبر آليات تطبيق تضيف المزيد من التكاليف والموارد على السلطة تحملها (نشر سيارات شرطة مرور متخصصة لمتابعة وإيقاف السيارات التي تتجاوز السرعة القانونية ونصب كاميرات مراقبة وجلب موظفين للعمل عليها الخ الخ)
    العواقب غير المتوقعة أو المخطط لها أوضح حضوراً في السياسة وأكثر تأثيراً على حياة المجتمع عبرها، خصوصاً على المدى البعيد عند فشل السلطة المعنية في تنبؤ النتائج الجانبية السلبية المحتملة والاستعداد لها في حال بروزها. لعل المثال الكلاسيكي الأشهر بهذا الخصوص هو ما عُرف بحظر الكحول في الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
    فقد تَشَكل تحالفٌ عريض من جمعيات نسوية ودينية وسياسية عارضت استهلاك الكحول باعتبار أن تعاطيه المتزايد يؤدي إلى مشاكل صحية واجتماعية وأمنية كثيرة كالإدمان، والعنف المنزلي، وتحطم العوائل، وارتفاع معدلات الجرائم، وصناعة مجتمع مفكك يستطيع الساسة الفاسدون التحكم فيه بسهولة.
    استطاع هذا التحالف، الذي تعود جذور قواه المختلفة لعقود طويلة سابقة، أن يسبب زخماً شعبياً هائلاً قاد الكونغرس في 1920 لتعديل الدستور الأميركي حُظر بموجبه إنتاج الكحول ونقله وبيعه.
    قد يكون التعديل ساهم في معالجة بعض العلل الاجتماعية والصحية المستهدفة حينها، لكنه تدريجياً قاد إلى عواقب غير متوقعة سلبية كقيام الناس بصناعة الكحول في بيوتهم، وأحياناً بشكل غير صحي ما تسبب بالكثير من حالات التسمم والمرض وحتى الوفاة، وازدياد تهريبه وانتشار العصابات الإجرامية التي كانت تتولى التهريب وتتصارع بينها، فضلاً عن تصاعد تحدي المعترضين للحظر، خصوصاً في المدن الكبرى، وقيامهم أحياناً بالشرب علناً في الشوارع كأحد أنواع الاعتراض.

    احتاج الرد على كل هذه العواقب غير المتوقعة الكثير من الموارد والجهود الحكومية التي لم يكن سهلاً إدامتها خصوصاً بعد اتساع المعارضة للحظر وشعور الكثيرين من سكان المدن أنه يمثل هيمنة القيم الريفية والدينية المتشددة على القيم المدنية والليبرالية. في آخر المطاف، قرر الكونغرس إلغاء هذا التعديل للدستور في 1933.
    لكن العواقب غير المتوقعة، التي أصبحت قانوناً في العلوم الاجتماعية، ليست بالضرورة سلبية دائماً، بل يمكن ان تكون إيجابية. في حقل الاقتصاد، حيث ظهرت فكرة المصطلح للمرة الأولى في إطار اعتراض الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في القرن السابع عشر على قانون لتخفيض نسبة الفائدة على القروض، يقوم ازدهار الرأسمالية الكلاسيكية على مفهوم العواقب غير المتوقعة. يشير الاقتصادي الإنجليزي، آدم سميث الذي يعُتبر المنظر الاول للرأسمالية في القرن الثامن عشر في كتابه التأسيسي "ثروة الأمم" أن تحقيق المنفعة الشخصية، أو حب الذات، كهدف أعلى للتجار ومنتجي البضائع المختلفة يقود الى ازدهار المجتمع اقتصادياً من دون تخطيط أو سعي من هؤلاء التجار والمنتجين. يقول سميث: "لا نحصل على طعام عشائنا بسبب طيبة روح القصاب او الخباز، بل بسبب تلبية مصلحتهم الشخصية، فنحن لا نخاطب انسانيتهم وانما حب ذواتهم، كما أننا لا نحدثهم على أساس احتياجاتنا بل على أساس مصالحهم. لا أحد يعتمد في عيشه بشكل أساسي على إنسانية الآخرين سوى الشحاذ".
    ما يشير إليه سميث هنا هو مفهوم الربح، فإنشاء الخباز مخبزه في المقام الأول مرتبط برغبة بتحقيق الربح الشخصي. تقود هذه الرغبة والعمل عليها الخباز إلى التعاون بشكل مباشر أو غير مباشر مع الفلاح الذي يزرع القمح والتاجر الذي يشتريه والطحان الذي يطحنه والناقل الذي ينقله وصولاً إلى مخبز الخباز الذي يحوله بدوره خبزاً يبيعه كي يحقق الربح. عبر هذا كله أفاد الخباز كل هؤلاء واستفاد منهم، عبر إضافته لأرباحهم كي يحقق هو ربحه. بشكل بسيط، هذه ما تُسمى في الاقتصاد "اليد الخفية،" وهي الصياغة التي جاء بها سميث كي يصف تفاعل قوى السوق من دون قدرة أي طرف على توقع سلوك هذه القوى بشكل دقيق ومستقر. فمثلاً، قد يسعى التاجر إلى احتكار بضاعة لضمان ارتفاع سعرها، لكن قد تكون النتيجة غير المتوقعة ليس إقبال المستهلكين على شرائها بسعرها المرتفع وإنما الاستعاضة عنها بسلعة أخرى بديلة أقل سعراً.
    "العواقب غير المتوقعة" التي أصبحت قانوناً في الحقول المختلفة للعلوم الاجتماعية كالاقتصاد والسياسة والقانون وعلم الاجتماع وعلم النفس وسواها، كاشفة عن الوعي والتأني لدى مخططي السياسات ومعدي القوانين، وحتى الأفراد في اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهم الشخصية. لكنها ايضاً كاشفة عن مواطن العجز في فهم المستقبل والتخطيط البارع له. ينطبق هذا على العالم العربي عموماً.
    يتعلق الفشل الأكبر الذي عاشه العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين بالعجز العام عن إدراك العواقب غير المتوقعة. عندما قرر هذا العالم مثلاً أن استعادة فلسطين هي قضيته المركزية، وأنه لا سبيل لذلك إلا السلاح والحرب وتقديس الموت استشهاداً واعتبار تحمل الفلسطينيين العناء بطولةً وصناعة خطاب عاطفي وشعبوي مهيمن لا يميز بين الخسارة والتضحية، فَقَد معظمُ العالم العربي حسه بمعنى الفشل في تحقيق الهدف ليصبح أسيراً طويل الأمد لعواقب غير متوقعة رفض الإقرار بها رغم كثرة الشواهد والأدلة عليها.
    تمثلت هذه العواقب بفشل التنمية الاقتصادية والسياسية والإنسانية وصعود الديكتاتوريات العسكرية وتكلس المجتمع حول أوهام انتصار بهي لم تتوفر ادواته المادية واستسلام العقل العام لتفسيرات المؤامرة وتمجيد الذات على أسس ماضوية هروباً من حاضر بائس. حصيلة كل هذا هي أن فلسطين لم تستفد من جعلها قضية مركزية، كما لم يستفد العالم العربي من تحويلاً هماً دائماً له بعد ظهور علائم عجزه المبكر عن الانتصار في المعركة الدائمة لاستعادتها التي أعلنها واختَطف السياسة والمجتمع بحجة خوضه لها. عبر الفشل في الانتباه للعواقب غير المتوقعة، خَسَر العالم العربي الكثير تنموياً وسياسياً وإنسانيا وما يزال عاجزاً عن التعويض عن هذه الخسارات. 
    التفكير المتأني واكتشاف مسارات بديلة لحل المشكلات ليس دليلاً على التخاذل، بل هو تأكيد شجاع على معنى العقل واتخاذ القرارات على أساس المنطق وليس العاطفة.

    يتبع

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media