د. حميد الكفائي
السياسة هي فن الممكن، القابل للتحقق، وفن الأفضل المتيسر، كما قال الزعيم الألماني، أوتو بسمارك، قبل أكثر من 150 عاما، لكنها في العراق فن إزاحة المنافس، بأي وسيلة، بما فيها الخداع والتزوير والقتل.
وبنظرة سريعة لتأريخ العراق السياسي خلال قرن من الزمن، لا يجد المرء سوى الصراع والاقتتال على السلطة، الذي قاد إلى خسائر بشرية فادحة كلفت البلد غاليا، دون أن يتعلم المتصارعون، أو أبناؤهم أو أحفادهم وأسباطهم، الدروس من صراعات الماضي، القديم والحديث.
وهذا يعني ببساطة أن ثقافة "اجتثاث الآخر" راسخة سياسيا واجتماعيا، ولا يوجد أي تحدٍ لها، أو تشكيكٍ بجدواها، أو سعيٍ للتخلص منها، من قبل قادة المجتمع ومفكريه وحكمائه، ولا توجد حتى الآن مراجعة للخسائر التي تكبدها الشعب العراقي خلال قرن، جراء هذه الثقافة التدميرية، وكم هو عدد السياسيين والمفكرين والناشطين والضباط والخبراء والشعراء والصحفيين الذين خسرهم العراق، سواء عبر تصفيتهم جسديا، أو إلقائهم في السجون أو دفعهم إلى الهجرة.
ما لم تتغير هذه الثقافة، أو يتوصل الفرقاء، وهم أكثر مما نتصور، فحتى أعضاء الحزب الواحد هم في الحقيقة فرقاء وليسوا حلفاء، لكنهم متهادنون إلى أن تبرز الفرصة المناسبة للانقضاض على بعضهم بعضا، ما لم يتوصلوا إلى تفاهم حول تبادل السلطة، أو صيغة لتداولها سلميا، واحترام حقوق المخالفين في العيش والعمل بحرية ودون خوف، فإن العراق سيواصل سيره القهقرى، الذي بدأ منذ رحيل مؤسس الدولة الحديثة، الملك فيصل الأول عام 1933.
منذ أكثر من ثمانية أشهر والفرقاء الأعداء في العراق يتصارعون على السلطة، وقد مارسوا كل ما في وسعهم من حجج دستورية وقانونية وسياسية، وعززوها بالصواريخ والطائرات المسيرة والتهديد بالمزيد منها أحيانا، كي "يقنعوا" بعضهم بعضا بأن الحل الوحيد هو أن يقتسم المسلحون منهم، فائزين كانوا أم خاسرين، كعكعة العراق، وليذهب الآخرون، أي غالبية الشعب، إلى المصير الذي ينتظرهم، وهو الفقر والتهميش وضياع الفرص وانعدام الأمل.
آخر ما حصل في العراق، أن الفائز الأكبر في الانتخابات، وهو الكتلة الصدرية، قرر الانسحاب من العملية السياسية، بل هدد زعيمها، مقتدى الصدر، بأنه لن يشترك حتى في الانتخابات المقبلة "إن اشترك فيها الفاسدون"، وبالتأكيد لا أحد يستطيع أن يمنع الفاسدين من المشاركة في الانتخابات، أولا لأنهم مسلحون، وثانيا لأنهم يتمتعون بدعم دولة أخرى، حريصة جدا على سيادة العراق واستقلاله ورفاهية شعبه، ولم تسعَ يوما إلى إضعافه، فهذا هو ديدنها مع كل الدول المجاورة لها، خصوصا في ظل نظامها "الإسلامي" الذي يعتبِر زعيمها "وليا لأمر المسلمين" في العالم، ويوكِل إلى قواتها المسلحة "مهاما إلهية" لنصرة "المستضعفين في الأرض"!
المرجعية الدينية الشيعية، التي تدعي الجماعات المسلحة باتباع إرشاداتها وإطاعة نصائحها، سارعت لأن تبرِّئ نفسها مما حصل في العراق من فشل وفساد وصراع على السلطة. وقال أحمد الصافي، وكيل المرجع على السيستاني، في كلمة أخيرة له، إن نصائح المرجعية كانت واضحة "لكن هناك من أدار لها الأذن الصماء"، في إشارة فُسِّرت بأنها تشير إلى رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، الذي يُعتَقَد بأنه يرشح نفسه لولاية جديدة، رغم أنه لم يعلن ذلك شخصيا.
الخبير في الشؤون الدينية، رحيم أبو رغيف، قال في مقابلة أخيرة بثتها قناة الشرقية العراقية، إن المرجعية الدينية لا تتبع مبدأ (ولاية الفقيه) السائد في إيران، وهي لا تتدخل في الشؤون السياسية، بل تقدم النصح في الأوقات التي تدخل فيها الأوضاع السياسية في "مناطق الخطورة"، والأمر متروك للأفراد أن يتبعوا تلك النصائح إن أرادوا، وإن المرجع السيستاني لا يزج رأيه في الشؤون السياسية "على سبيل الإلزام، لكنه يلامس الشأن السياسي فيما يخص النصح والإرشاد... ولا يتصدى أو يصدر كلاما إلا عندما يستشعِر وجود خطر داهم".
لكن المشكلة التي يواجهها العراقيون أن الجماعات التي تدعمها إيران تتشدق بالدين والمذهب، وتدعي اتباع إرشادات ونصائح المرجعية الدينية، وترفع صور المرجع السيستاني في مقارها ولافتاتها، وتستخدمها للدعاية في الانتخابات، وتحديدا الانتخابات الأولى والثانية، الأمر الذي دفع ناخبين كثيرين إلى الاعتقاد بأن المرجع الديني يؤيد هذه الجماعات فعلا، وينصح بالتصويت لها، وهذا ما ادعته هذه الجماعات في خطاباتها ومنشوراتها، ولذلك أقدم ملايين الناخبين، على التصويت لهذه الجماعات التي لم تكن معروفة، إذ كانت في إيران وسوريا لأكثر من عقدين.
ففي الانتخابات الأولى، التي رُفِعَت فيها صور السيستاني ضمن الدعاية الانتخابية للتحالف الشيعي، صار زعيم حزب الدعوة الإسلامية، إبراهيم الجعفري، رئيسا للوزراء. وكان من بين منشوراته الدعائية بوستر نشر فيه دعاء، إلى جانب صورته، رافعا يديه بالدعاء، كدليل على التقوى والورع، بينما حمل بوستر آخر صورته وإلى جانبها الآية الكريمة "وخير من استأجرت القوي الأمين"، مشبها نفسه بالنبي موسى. ولم يكن الجعفري الوحيد بين مرشحي التحالف الشيعي من وضع هذه الآية أو غيرها إلى جانب صورته ورقمه الانتخابي، فحتى العلماني أحمد الجلبي وضع صورة السيستاني في دعايته الانتخابية بعد إخراجه من التحالف الشيعي.
وفي الانتخابات الثانية، استُخدِمت الرموز الدينية بكثافة أكبر، علما أن القانون يمنع استخدام الرموز الدينية، وكان البوستر الرئيسي للدعاية الانتخابية للتحالف الشيعي يحمل صورة كبيرة للسيستاني، مع رقم القائمة المميز 555، والذي يفترض بأنه جاء عبر القرعة، ولكن يبدو أنه اختير بعناية، بينما استخدمت القرعة لخداع الرأي العام.
وكنتيجة لذلك، صوت كثيرون للتحالف الشيعي، وصار القيادي في حزب الدعوة الإسلامية، نوري المالكي، رئيسا للوزراء، بعد أشهر من الصراع على السلطة بين القوى الشيعية، وبقي لدورتين متتاليتين، وفي عهده وصل الخطاب الطائفي إلى أشده، خصوصا بعد أن أطلق على نفسه لقب "مختار العصر" وصرح من كربلاء بأن الصراع في العراق هو بين "أحفاد يزيد وأحفاد الحسين"!
أما الانتخابات الرابعة فقد أفرزت القيادي في حزب الدعوة، حيدر العبادي، رئيسا للوزراء، بعد صراع بينه وبين المالكي بدأ بعد الانتخابات واستمر طوال فترة وجوده في السلطة، وقد تمكن المالكي عبر نفوذه في البرلمان من إقالة وزيري المالية والدفاع في حكومة العبادي، هوشيار زيباري وخالد العبيدي. ولكن يسجل للعبادي أنه تمكن من إعادة التماسك الوطني واسترجاع المناطق التي وقعت تحت سيطرة الجماعات الإرهابية. غير أنه بقي أسيرا للصراعات السياسية، وفي عهده تغولت المليشيات وأصبح وجودها رسميا، إذ شرَّع البرلمان قانونا لاستيعابها في جهاز "الحشد الشعبي"، فأصبحت ممولة من المال العام، على الرغم من أنها تتصرف خارج إطار الدولة.
في الانتخابات الخامسة، اختير القيادي في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، عادل عبد المهدي، رئيسا للوزراء، وحتى الآن لا أحد يعلم كيف اختير، وأي كتلة رشحته! وكان المجلس الأعلى، قد تأسس في إيران مطلع الثمانينيات وترأسه محمود الشاهرودي، الذي أصبح لاحقا رئيسا للسلطة القضائية في إيران. وقد غيَّر المجلس اسمه بعد عودته إلى العراق بخمس سنوات إلى (المجلس الأعلى الإسلامي العراقي)، ثم تغير الاسم مرة أخرى إلى (تيار الحكمة) عام 2017، بينما احتفظ بعض أعضائه بالاسم السابق ومنهم عادل عبد المهدي. وهذه الجماعة، كباقي الجماعات، تغير اسمها وقت الانتخابات، فمن (تيار شهيد المحراب)، إلى (المواطن) ثم (الحكمة)!
وفي عهد حكومة عبد المهدي، انتفض الشعب على الفساد والفشل والتبعية، ما دفعه إلى الاستقالة، ولكن بعد أن تدخل المرجع السيستاني، إثر مقتل مئات الشبان المتظاهرين في ساحات بغداد والبصرة والناصرية والنجف وكربلاء والحلة والديوانية ومدن أخرى، وقال وزير الدفاع حينها إن "طرفا ثالثا" هو الذي قتل المتظاهرين، بينما نفى رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، في مقابلة أخيرة أن يكون هناك طرف ثالث، قائلا إن هناك طرفين فقط هما المتظاهرون والأجهزة الأمنية.
وهذا دليل تقدمه أعلى سلطة قضائية في العراق بأن الأجهزة الرسمية العراقية هي التي قتلت المتظاهرين، وأنها بالتأكيد لم تفعل ذلك دون أوامر من أعلى سلطة في الدولة، ألا وهي رئيس الوزراء. مع ذلك، لم يُحاسَب قتلةُ الشبان، ولم يساءلوا، وكأن الأمر ليس مهما.
لقد تمكنت القوى المتشدقة بالدين والمذهب، التي تمارس الخداع والسرقة والقتل والابتزاز والفساد، منذ توليها السلطة عام 2005، من ترسيخ سلطتها ونفوذها في العراق وأخذت تنشر مسلحيها في أي مكان تشاء وتقتل وتخطف وتبتز المواطنين الذين يرفضون نهجها وهيمنتها على مقدرات الدولة. وقد أصرت على المشاركة في السلطة رغم رفض الشعب لها، فأوصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود، الأمر الذي دفع نواب الكتلة الصدرية إلى الاستقالة من البرلمان وإدخال البلد في أزمة أعمق من السابقة.
لقد أفرغت هذه الاستقالة العملية السياسية من أي شرعية شعبية اكتسبتها عبر الانتخابات، فالفائز الأول هَجَر العمل السياسي، واعتبر خصومه فاسدين لا يمكن العمل معهم. صحيح أن بالإمكان استبدال المستقيلين بنواب بدلاء من الخاسرين، ما يُمَكِّن البرلمان من الاكتمال، لكن الجميع يعلمون بأن البدلاء غير فائزين، وهم لم يكونوا خيارا أولَ للشعب، لذلك فإنهم لا يمتلكون الشرعية المعنوية ولن يقتنعَ أحد بأن من حقهم أن يحكموا باسم الشعب.
الحلول المقنعة والمقبولة لهذه الأزمة قليلة، أولها أن تتفق القوى الباقية في البرلمان على تشكيل حكومة من الخبراء الأكْفاء، المتمرسين في العمل الحكومي والمطلعين على العلاقات الدولية، والذين لا يطمحون إلى تولي مناصب سياسية مستقبلا، كي تقودَ البلاد في المرحة المقبلة وتهيئها لانتخابات نزيهة وشفافة، لا تشترك فيها الجماعات المسلحة، وكل جماعة تمتلك ذراعا مسلحا، فحملُ السياسيين السلاح مخالفٌ للدستور، وتجاوز على القيم الديمقراطية وحرية الناخبين في الاختيار دون إكراه.
لا شك أن موقف المرجعية الدينية بعدم التدخل في الشؤون السياسية أمر مرحب به على نطاق واسع، وهو يتسق تأريخيا وفقهيا مع مواقفها السابقة، وهو محلُ تقدير معظم العراقيين، ولكن تقع عليها مسؤولية إضافية هذه المرة، فهذه الجماعات وصلت إلى السلطة وتمكنت من الهيمنة على البلد بسبب تعكزها على الدين والمذهب، وادعائها السير على نهج المرجعية.
لذلك أصبح ضروريا أن تتدخل المرجعية، باعتبارها السلطة الروحية التي تمثل الدين، لحماية الشعب العراقي والدولة العراقية من الضياع، ولا ننسى أن هذه الجماعات تعمل لصالح دولة أخرى تتعارض مصالحها مع مصالح العراق. كلام المرجعية مسموع، فهي التي أخرجت الجعفري والمالكي وعبد المهدي من السلطة، ويمكنها أن تجرد الجماعات المسلحة من الشرعية الدينية التي تدعيها. وفي خلاف ذلك، فإن الازمة العراقية سوف تتفاقم، خصوصا مع اشتداد الغضب الشعبي من مواقف هذه الجماعات وصراعِها على السلطة، دون اكتراث للمصلحة العامة أو مستقبل العراق.
"سكاي نيوز عربية"