مصطفى الكاظمي: براعة أن يكون الرّئيس ضعيفاً (1 من 3)
    الثلاثاء 5 يوليو / تموز 2022 - 07:07
    د. عقيل عباس
    أستاذ جامعي
    قد تكون هذه الأيام من بين الأصعب التي يمر بها رئيس الوزراء العراقي السيد مصطفى الكاظمي، إذ انهار التحالف الثلاثي الذي فيه أهم حلفاء الرجل السياسيين الداعمين لترؤسه حكومة أغلبية سياسية، تمنحه حيزاً لتنفيذ بعض أفكاره الإصلاحية التي لم يكن بالمقدور تنفيذها في ظل الحكومة الحالية. كما أن على الكاظمي الآن أن يتعاطى مع بعض أشد خصومه، وهم حالياً في موقع قوة، ويستطيعون التأثير كثيراً على مستقبله السياسي، بعد انسحاب التيار الصدري من البرلمان، وفسح المجال لصعود التحالف السياسي الذي ينضوون فيه: "الإطار التنسيقي"، التحالف الشيعي الأكبر الآن، الذي سيختار رئيس الوزراء ويحدد مسارات السياسة حكومياً في المستقبل.

    على مدى أكثر من عامين من حياة حكومته، شَيطَن هؤلاء الخصوم الكاظمي وهاجموه وسخروا منه وتحدوا سلطته سراً وعلانيةً، وبعضهم يُتهم بأنه وراء محاولة اغتياله بطائرات مسيرة مفخخة في تشرين الثاني (نوفمبر) العام الماضي. حتى وإن كان هؤلاء الخصوم لا يمثلون أغلبية "الإطار"، فإنهم الطرف الأشد شراسة فيه، والأكثر استعداداً للتحدي واستخدام السلاح لإيصال رسائلهم وتحقيق أهدافهم.

    على الأكثر يستعين الكاظمي في هذه الأيام الصعبة بمهارة فيه، كانت غائبة عموماً أو ضعيفة في رؤساء الوزراء السابقين، باستثناء عادل عبد المهدي: رئيس الوزراء الضعيف الذي لا يشكل تهديداً حقيقياً لأحد. الفارق بين عبد المهدي والكاظمي هي أن الأول كان منقاداً، بل كسولاً أيضاً، على نحو مقلق، وفاقداً لمهارة المناورة، فيما يبرع الكاظمي في الاستفادة من ضعفه عبر تحوله وسيطاً بين قوى متصارعة كي يكسب مساحة للتحرك تسمح له باستخدام بعض سلطاته من دون تحدي الخصوم له والتخلص من ضغوط الآخرين.

    بعض ضعف الكاظمي بنيوي أملته اضطرارات السياسة، فالرجل من دون كتلة برلمانية رصينة تدعمه أو حزب سياسي قوي يسانده في الشارع. من موقع الضعف هذا، واستفادةً من رغبة الآخرين بالحفاظ على مصالحهم وتقوية مواقعهم في الدولة، دخل الرجل في تحالفات مشروطة، غير معلنة، مع بعض الكتل، لإمضاء بعض "الإصلاحات" التي استبدلت خطراً شديداً بآخر ربما أقل خطورة، كما في تفكيكه ما يطلق عليه العراقيون "الدولة العميقة" التي أنشأها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وأفقدت العراقيين ما تبقى لهم من ثقة ضعيفة أصلاً بدولتهم. بالاستناد إلى دعم التيار الصدري أساساً، حل صدريون كثيرون، وبعض المستقلين وتابعون لتيارات سياسية أخرى، في المناصب التي أخلاها "المالكيون".

    لكنّ الجزء الآخر من ضعف الكاظمي ناتج من خيارات شخصية ارتبطت بمزاج حذر سياسياً وخوف، مبالغ فيه أحياناً، من خوض ما يعتبره مغامرات أو المضي إلى آخر الشوط في صراعات غير مضمونة النتائج. كان هذا واضحاً في الأشهر الأولى من حكم الرجل: يبدأ بخطوة جريئة ومهمة، ثم تالياً تحت وطأة خليط من الضغوط والمخاوف، يتراجع عن معظم هذه الخطوة أو كلها.

    ظهرت البوادر الأولى لهذا السلوك في البصرة في الأسابيع الأولى من حياة حكومته، في أيار (مايو) 2020، حين أطلق أفراد من جماعة مسلحة، "ثأر الله"، النار على متظاهرين احتجوا أمام مقر الحركة ليقتلوا محتجاً ويجرحوا آخرين. أمر الكاظمي بإغلاق مقر الحركة واعتقال مطلقي النار وإحالتهم على القضاء، وعددهم خمسة بحسب الإعلان الرسمي العراقي حينها. كان سلوكاً حكومياً نادراً وشجاعاً خصوصاً في إطار التململ الشعبي المتصاعد من التغول الميليشيوي على الحياة العامة وحقوق المواطنين والمصلحة العامة والإحساس السائد شعبياً، والدقيق في محتواه، أن الدولة ضعيفة أمام الميليشيات وتخضع لابتزازاتها الكثيرة. لكن لم يستغرق الأمر طويلاً قبل أن تُفرغ هذه الخطوة المهمة من محتواها: أعيد المقر للحركة، وتدريجياً أطلق سراح المُعتقلين الميليشيويين.

    تكرر هذا السلوك بعد ذلك بشهرين في تموز (يولويو) 2020، في مشهد كان أكثرَ أهمية سياسياً وإثارةً للانتباه إعلامياً عندما أمر الكاظمي قوات مكافحة الإرهاب باعتقال مطلقي صواريخ تابعين لـ"كتائب حزب الله" في ما عرف حينها بحادثة الدورة أو البوعيثة، وإحالتهم على القضاء. جاء أمر الاعتقال بعد عمليات قصف قامت بها قوى ميليشيوية بعد تشكيل حكومة الكاظمي. أثار أمرُ الاعتقال حماسةً شعبية واسعة وسريعة دعماً للكاظمي الذي بدا حينها بوصفه الزعيم القوي الذي يحتاجه البلد لكبح الميليشيات واستعادة هيبة الدولة المهدورة باستمرار على يد هذه الميليشيات وحركات سياسية متواطئة معها. بعدها بأيام أطلق سراح المعتقلين الـ 14 في مشهد استعراضي قصد عبره منظموه الميليشيويون إهانة رئيس الوزراء، إذ ظهر المُطلق سراحهم وهم يدوسون على صورة رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة الذي ينبغي أن يكون قائدهم الأعلى بوصفهم عناصر من "الحشد الشعبي" بحسب ادعائهم، وليسوا ميليشيويين بحسب تأكيدات الحكومة. ذكرت مصادر صحافية حينها أن قوى ميليشيوية اقتحمت المنطقة الخضراء وحاصرت منزل رئيس الوزراء لإجباره على التراجع عن قراره.

    قد يكون حادث الدورة وتفاعلاته الكثيرة تالياً نقطة التحول المهمة في فهم الكاظمي لنفسه سياسياً ولدوره كرئيس للوزراء وللحدود الحقيقية لمنصبه، في بلد تخضع فيه وقائع السلطة المؤسساتية وصلاحياتها لتقاسم وابتزازات وصراعات المتنافسين السياسيين الأقوياء على النفوذ والموارد أكثر بكثير من خضوعها لاشتراطات القانون والتوصيفات الرسمية للمناصب. هذا السياق الشاذ القائم على علاقات القوة وليس حكم القانون هو الذي يضع رئيس وزراء غير حزبي في موقع الضعف المؤسساتي، ويُسهّل للشركاء السياسيين التخلي، عند الحاجة، عن "حكم القانون" لمصلحة الطرف الأقوى، كما حصل في حادثة الدورة عندما اصطفّ معظم الطبقة السياسية مع سردية الطرف الآخر بخصوص كون المعتقلين منتسبين شرعيين في "الحشد الشعبي" جرى اعتقالهم ظلماً وأن رئيس الوزراء تصرف بخلاف القانون!

    كان بمقدور الكاظمي في تلك اللحظة الحاسمة أن يصر على إنفاذ حكم القانون ورفض إطلاق سراح المعتقلين والخضوع لابتزازات ميليشيوية وحزبية، لكن قلقه من عواقب غير مضمونة لا يمكن السيطرة عليها قاده إلى درب آخر مختلف تماماً عكَس عجزه المؤسساتي ورفضه الشخصي لخوض مغامرة صحيحة من أجل استرداد الدولة. كانت هذه رسالة فهمتها الأطراف الأخرى، خصوصاً الميليشيوية منها، على أنها ضعف شخصي ينبغي استغلاله الى أقصى حد ممكن.

    تعكس حادثتا البصرة بخصوص حركة "ثأر الله" والدورة بخصوص "كتائب حزب الله" سياقاً أوسع أعاد الكاظمي عبره موضعة نفسه في مشهد السياسة في العراق وفهمه لدوره في إطار لحظة انتقالية صعبة وطويلة يعيشها البلد فرضتها وقائع حركة احتجاج تشرين في 2019. أثارت حركة الاحتجاج هلع الطبقة السياسية الى حد دفعها للقبول برئيس وزراء من خارج الطبقة السياسية وغير حزبي، بوصفه وجهاً جديداً يمكن أن يمتص غضب الشارع ويُقدم على أنه استجابة من هذه الطبقة لبعض مطالب هذا الشارع بالتجديد والإصلاح. في إطار صراع مصالح معقد ومناورات سياسية وقانونية استغرقت بضعة أشهر، أصبح الكاظمي، المجهول شعبياً، والمعروف سياسياً وصحافياً، رئيساً للوزراء. كان التحدي حينها لرئيس الوزراء الجديد أن يحدد موقعه في الصراع الصعب بين المجتمع والطبقة السياسية. أرادته الأخيرة لحظة تهدئة للمجتمع لامتصاص غضبه المتصاعد، فيما أراده الأول نصيراً له على هذه الطبقة المتغوّلة والأنانية.

    يبدو أن الكاظمي انحاز في أشهره الأولى للمجتمع، وهو الانحياز الصحيح الذي كان عليه أن يواصله ويطوره، لكنه تدريجياً بدأ يكتشف الثمن الباهظ الذي عليه أن يدفعه إذا واصل هذا الانحياز. لم يكن الرجل مستعداً لدفع هذا الثمن، خصوصاً في سياق مغامرة نتائجها ليست مضمونة ولا واضحة. بدأ يتراجع عن هذا الانحياز الأولي، لكن من دون أن يكون في صف الطبقة السياسية، براعة اكتشاف موضع ما مقبول بين الطرفين: المجتمع والطبقة السياسية. قد يكون الكاظمي نجح في العثور على مثل هذا الموضع بالكثير من الصبر ومهارة التوسط وابتداع الحلول الوسط. لكن الخطأ الأكبر للرجل هو أنه أبقى هذا الموضع "الوسط" استثماراً فردياً يدور حول براعته الشخصية، وليس تمثلاً مؤسساتياً أو حزبياً أو سياسياً أبعد منه.

    في هذه الأيام التي يهيمن فيها "الإطار التنسيقي" على التشكيل الرسمي للسياسة والحكومة، يتقلص كثيراً حيز المناورة المتاح للكاظمي للحفاظ على موضعه الوسط بين المتنازعين: السلطة التي يهيمن عليها الذين خرج المجتمع ضدهم، والمجتمع المستاء من تراجع فسحة الإصلاح المحدودة التي بدأتها "تشرين" بالكثير من الدم والتضحيات.

    "النهار العربي"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media