العراقيون وثنائية الهدم والبناء للقيم
    الجمعة 5 أغسطس / آب 2022 - 09:26
    أ. د. عبد علي سفيح
    مستشار وباحث لوزارة التربية والتعليم الفرنسية
         دراسة مختصرة حول الشخصية العراقية والعراق المميزة اقليميًا وعالميًا، وهذه الدراسة ماهي الا استمرار لدراسة العلامة العراقي الدكتور علي الوردي عن الشخصية العراقية الا اني استعملت منهجًا بحثيًا يستند على نظرية الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا والتي تسمى بنظرية التفكيك أو الهدم، وهي ليست نظرية مايكل ليدن الأميريكي المسمات بالفوضى الخلاقة والتي هي تعبيرًا عن الهدم والبناء لكن بصناعة الهدم.
         وتتلخص نظرية جاك دريدا بحصول المستحيل الذي يهدم القيم القديمة ويبني قيمًا جديدة مثل الثورة الفرنسية في عام(1789م) التي هدمت قيم السلالات والاقطاعيات والدين وبنت قيم جديدة من المساواة والحرية والاخاء، بالنسبة للشخصية العراقية وجدت كما وجد الدكتور علي الوردي بأنها شخصية ازدواجية تحمل قيم متناقضة؛ ولكن على خلاف علي الوردي وجدت هذا التناقض ليس سببه صراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة بل هذه الازدواجية ناتجة من تراث وثقافة الماء وليست الصحراء، ثقافة الماء تمثل قاعدة ملموسة بالغة الأهمية في الثقافة ومنظومة القيم للشخصية العراقية، لأن الماء المكون الأساس لبنية المجتمع العراقي في المجالات العلمية والمعتقدات الروحية من الأساطير والديانات السماوية، تراث الماء تجذر في اللاوعي الجمعي والتي جذورها تمتد إلى أكثر من(6000) عام ويعود بالدرجة الأولى إلى هوية العراق التي هي ناتج  ثقافي أكثر من كونه حربي، هويته ناتجة من التصادم بين الخارج (عالمي) مع الداخل (محلي) والذي يولد من هذا التصادم (الهدم) بناءً جديدًا مميزًا، تصادم نهري دجلة والفرات والروافد السبعة التي تنبع من خارج العراق وتصب في داخله، أنعكس هذا الواقع الجغرافي على سلوك العراقيين منذ آلاف السنين. التحدي والهدم الذي يسببه مياه الانهار، أدى إلى بناء الحضارات الإنسانية الأولى لأن هذا التحدي ولد من رحمه العلوم والمعتقدات الروحية‘ لتوضيح جوهر هذه الفرضية نأخذ بعض الأمثلة:
    1 تصادم الاسلام العربي الخارجي القادم من الجزيرة العربية مع العراق المسيحي السرياني المحلي مما أدى إلى هدم قيم الماضي (المسيحية والسريانية واللغة) وبناء قيم ورموز ودلالات جديدة (استبدلت المسيحية بالاسلام واللغة السريانية بالعربية)، والتبني السريع للعربية سمح لهم منذ بداية الفتح أن يشاركوا بنحو فعال في صنع الحضارة الاسلامية، بل أن العراقيين هم من وضع اللغة العربية نحوها وبلاغتها وتنقيطها وحركاتها وسكونها من خلال ميراث الحرف البابلي واللغة السريانية، ثم برزت في هذا المجال مدرستي الكوفة والبصرة، أما استبدالهم الدين المسيحي بالدين الاسلامي، أصبح العراقيون رواد المدارس والمذاهب الدينية، هذا المثال يعبر بنحو واضح عن نظرية الهدم ثم البناء، هدمت في العراق قيم وأعراف ورموز ودلالات قديمة بغيرها جديدة، بعد توقف قليل خلال حكم السلالة الأموية، وبعد أن اتخذوا دمشق عاصمة لهم بدلا عن الكوفة، أحس العراقيون بأن الأمويين سرقوا جهودهم واقتنوا ثمار جهدهم.
    2 الهدم والبناء الثاني: بعد أقل من ثمانين عامًا، فتح العراقيون ابوابهم نحو جيوش أبا مسلم الخراساني القادمة من بلاد فارس لاسقاط الحكم الأموي واعادة تجربة التلاقح الخارجي الداخلي وأصبحت بغداد حاضرة العالم ومنارها مازجين المحلي هو ارث أكد وسومر وبابل حمورابي وآشور الذي ورثوه من أسلافهم في نينوى وبابل وسومر مع الخارجي العالمي الفارسي والاغريقي والهندي والمصري والشامي وهدمت القيم القديمة وبنت قيما جديدة الرموز والدلالات والمعاني منها مثال على ذلك:
    1التزاوج: منذ العصر العباسي الأول (750م-846م) برزت ظاهرة التمازج الحضاري السكاني بين الجماعات العربية التي استقرت في ربوع النهرين من سكان العراقيين الأصليين من الذين دخلوا الاسلام، فمثلا بالنسبة للخلفاء العباسيين، من بين سبعة وثلاثين خليفة عباسي لم يكن من بينهم من هو عربي الأم الا ثلاثة هم أبو العباس السفاح والمهدي بن المنصور ومحمد الأمين بن هارون الرشيد، وهذا خلاف ما جرى على العرف أيام الأمويين حيث كان لا يستخلفون أبناء الاماء.
    3 الجواري: في العصر العباسي تحول المجتمع العراقي إلى أكبر المجتمعات في التاريخ الذي يملك هذا العدد من الجواري والرقيق من جميع أنحاء العالم العربي والأعجمي، وكثير من هؤلاء الرقيق قد أستثمروا أوضاعهم الجديدة فصعدوا بالسلم الاجتماعي وأصبحوا أعضاء في الطبقة الحاكمة، بل أن بعضهم أصبحوا سلاطين، ومن أشهرهم كافور الأخشيدي في مصر، كذلك أمهات وزوجات الخلفاء اللواتي كن جواري، ومن أشهرهن الخيزران أم هارون الرشيد، لم يقتصر أمر الجواري على نشر الخلاعة والمجون بل كان لهن تأثير ايجابي وواضح يتمثل بمساهمتهن في نشر الثقافة والفنون المجلوبة من مجتمعاتهم الأصلية، سواء الموسيقى والغناء وفن الطبخ والأزياء والأدب والشعر، وكان لهن تأثير على الأدباء، ولهذا أنتشر شعر الغزل بصورة تفوق أي عصر، وأنقسم إلى غزل عفيف وغزل ماجن، ومن أشهر القصص المعروفة على هذا الصعيد قصة (بشار بن برد وعبدة، والعباس بن الأحنف وفوز، أبي العتاهية وعتبة، وأبي نواس وجنان).
     4 الهدم والبناء الثالث: ـبعد اقصاء العراقيين من فن الادارة والحكم ولمدة جاوزت السبعة قرون منذ سقوط بغداد عام (1258م) إلى بداية القرن العشرين، حدثت عملية هدم وبناء ثالثة بين الخارج الانكليزي والداخل المحلي وحدثت ثورة عارمة وهي ثورة العشرين وكان من بعد هذا التصادم العنيف تأسيس الدولة العراقية الحديثة، حصلت فيها أكبر عملية هدم للقيم القديمة وبناء قيم حضرية جديدة، وكان كل شيء إلى التجدد ماض، هذا التصادم في مبتداه هدم عالم الأمبراطوريات والخلافات والسلاطين والأمراء وعالم الولايات (البصرة، بغداد، والموصل) إلى عالم الدولة المركزية الحديثة وعاصمتها هي قلب التاريخ الذي عمره أكثر من (6000) عام وهي بغداد، بغداد العباسي الملتصقة ببابل حمورابي، بغداد بالنسبة إلى اللاوعي الجمعي للعراقيين هي الأم التي تعطيهم الحنان والدفيء والجمال، وتعطيهم العزة والفخر والشموخ، هذا الهدم امتد إلى الأدب والفن، تحول الشعر العمودي إلى الشعر الحر ومن رواد هذا الهدم والبناء الأدبي (بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي)، كذلك في الفن، تحول الرسم والنحت الكلاسيكي إلى الحديث الشبيه بفن بيكاسو، ومنها لوحة الحرية للفنان جواد سليم، اما اجتماعيًا، الدعوة إلى حرية المرأة، ومن رواد هذه الدعوة الشاعر جميل صدقي الزهاوي بقوله:
    اسفري فالحجاب يا ابنت فهر    هو داء في الاجتماع وخيم
    5 الهدم والبناء الرابع: لماذا لم يحدث بناء بعد التصادم الأخير الخارجي الأمريكي مع الداخلي المحلي بعد غزو أمريكا للعراق في سنة (2003)؟ حسب دراستنا سوف يحدث تغيرا وبناء؛ لأن هذا هو سلوك العراقيون تاريخيًا، في حالة دخول الاسلام للعراق، ولدت الحداثة منهم وليس من غيرهم، استعملوا اللغة السريانية والحرف البابلي لتطوير اللغة العربية وتنقيطها، وفي عصر هارون الرشيد أيضًا الحداثة نبعت من بيئتهم والأمم الأخرى تبنتها، في الدولة العراقية الحديثة عام (1920) على رغم ان البرلمان والديمقراطية والدستور غريبة عليهم الا أنهم وبشطارتهم وقدرتهم العالية حولوا المضيف العشائري إلى برلمان والقرآن بقيمه العادلة إلى دستور يضمن كرامة الإنسان من دون تميز، وحولوا الله إلى سلطة الملك أو الدولة، أي الحداثة شبه عراقية، أما في(2003م) يحاول العراقيون أن يخلقوا الحداثة من واقعهم مثلا البصرة تريد ان تعيد مجدها كولاية بارزة كما كانت في التاريخ ولكن باسم اقليم، وهذا قد يأخذ وقتا ولكن النتيجة هي بناء.
         أختم قولي، بأن رمز العراق هي النخلة، والنخلة شجرة وحيدة المسكن، أي الاعضاء الذكرية على شجرة والانثوية على شجرة ثانية، أي لا يتم التلقيح الذاتي كما في باقي الأشجار، لذا يتطلب دخول خارجي يسمح بالتلقيح، والذي يقوم بالتلقيح هو متسلق (صاعود النخل) يصل إلى قمتها، الشخصية العراقي تعيش في القمم وبعدها تعمل التلقيح بين مايأتي من الخارج مع الداخل.

    د. عبد علي سفيح
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media