د. هادي حسن حمودي
رسالة من الصديق الدكتور أحمد نعمة تحمل نصا نشره أحد الدكاترة الأفاضل في مواقع التواصل ينعى فيها على من يكتبون رسائل جامعية عن شعراء وباحثين وعلماء أحياء لأن (تجربتهم لم تكتمل).
ولم يكتف الدكتور الفاضل بذلك بل أخذ على الأساتذة المكتوب عنهم أنّهم يزودون الطلاب بالمصادر ثم يطبعون تلك الرسائل الجامعية على نفقتهم ويهدون نسخا منها إلى تلامذتهم (المدللين)... إلخ..
وطلب الصديق الدكتور أحمد منّي تقويمًا.
** فأقول:
تذكرني رسالتك أيها العزيز بواقعات عديدة ذات دلالة، منها:
//1//
حين أصدر الشيخ الحويزي تفسيرا للقرآن بالروايات، ولم يكن ذلك المنهج مُعتمدًا لدى المفسرين، سأل بعضُ الناس مفسّرا معاصرا للحويزي عن رأيه بالتفسير، فأجاب:
ما دام الشيخ الحويزي حيًّا، فلا يساوي تفسيره فلسا واحدا، أما إذا مات فأول من يكتبه أنا. وأنشد:
ترى الفتى يُنكر فضلَ الفتى
ما دام حيًّا، فإذا ما ذهبْ
لجّ به الحرصُ على فِكْرَةٍ
يكتبها عنه بماء الذهبْ
//2//
وأذكر أن المرحوم مصطفى جواد أصيب بجلطة قلبية نجا منها، وكان يقول: إنها غلطة قلبية لا جلطة قلبية، فاقترح أحد طلاب كلية الآداب أن يكتب رسالة جامعية عنه، فقال له الأستاذ الدكتور (.....) انتظر إلى أن يموت واكتب رسالة عنه وأنا سأشرف عليك.
//3//
والذي أعرفه أن جامعات عريقة عديدة في أوروبا الغربية، وأمريكا، وروسيا، أجازت رسائل ماجستير ودكتوراة عن باحثين كانوا أحياء حينها، منهم ألبير كامو (تـ 1960) وأندريه مالرو (تـ 1976) وآرثر ميللر (تـ 2005) ولويس أراغون (تـ 1981) الذي حظي ديواناه (Les Yeux d'Elsa) و(Le fou d'Elsa) باهتمام خاص. وغيرهم.
//4//
ومن الجدير بالذكر أن البحث الممنهج ليس تجربة، بل هو بحث قائم بذاته مكتمل بأدواته، قد يكون في أعلى ذرى الجودة، وقد يكون دون ذلك. ويمكن بحثه - شكلا ومضمونا - في رسالة جامعية متسمة بروح العلم والحياد الموضوعي وتراعى تلك الروح وذلك الحياد الموضوعي في تقويم الرسالة، أيضا، سواء كانت للماجستير أم للدكتوراة، أم كانت بحثا حرّا.
//5//
أما مسألة طباعة الكتب على نفقة المكتوب عنهم فلا أعرف عنها شيئا.
وعلى فرض حدوث ذلك ما الضرر منه؟ خاصة أنها دراسات يُفترض أن تكون علمية نافعة لا قصائد مديح، هذا علما أن الشعراء ينشرون دواوينهم وفيها (لا المديح الصادر عن محبة حقيقية) بل قصائد التملق والنفاق والارتزاق، وغالبا ما يكون النشر، وتكون المكافآت الدسمة، من أموال الدولة، غالبا. فلا إنكار ولا استنكار ولا هم يحزنون، بل هم فرحون مسرورون مستبشرون.
//6//
غير أنّ الذي أعرفه أن كثيرا من الأساتذة الجامعيين والعلماء والأدباء والمفكرين ليس لديهم من القدرات المالية ما يسيّرون به شؤون حياتهم، إلا بشقّ الأنفس. فهل لي أن أتمنّى (والتمنّي رأس مال المفلسين) أنْ تتوفر لهم القدرات المالية التي يساعدون بشيء منها طلابهم ومريديهم على نشر ما جاد من مؤلفاتهم، بعد أن أصيبت المؤسسات الثقافية العربية بالعقم، وعمى الألوان؟!
أما أن المؤلف المكتوب عنه أو الشاعر المكتوب عن شعره يوفر مؤلفاته أو دواوينه لطالب أو باحث.. فأراه واجبا على جميع الأساتيذ تجاه جميع الطلاب المحتاجين للمصادر والمراجع.
//7//
أمّا أن يمضي العلماء والمبدعون في شتى العلوم والآداب والفنون، بلا اهتمام ولا عناية ولا رعاية، بانتظار موتهم، فإذا مات أحدهم أغدقنا عليه كريم الثناء والتحميد، وألبسناه آيات الإعجاب والتمجيد.. فهذا دليل على صدق البيتين السابقين، وعلى التشبث بحضارة الـموت والأموات.