د. حميد الكفائي
لا يمكن اعتبار التدهور في العلاقات الأميركية الصينية شأنا ثنائيا، يخص أمريكا والصين فحسب، بل هو شأن عالمي لأنه يلحق أضرارا كبيرة بالاقتصاد العالمي الأوسع، ويؤجج الصراعات الإقليمية والدولية، التي يمكن أن تتفاقم وتتحول إلى حروب ونزاعات مدمرة ومعرقلة للتطور العالمي.
الاقتصادان الأميركي والصيني هما الأول والثاني عالميا من حيث الحجم، إذ يشكلان سوية 35 بالمئة من الناتج الإجمالي العالمي، وإن أضفنا إليهما الهند، القريبة من الولايات المتحدة سياسيا، ومن الصين جغرافيا، فسوف تشكل الدول الثلاث نصف الناتج الإجمالي العالمي، و40 بالمئة من سكان الكرة الأرضية.
العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على الصين أضرت بالاقتصاد الصيني دون شك، وسوف تلحق المزيد من الأضرار به مستقبلا، لكن هذه الأضرار لن تبقى في حدود الصين. الولايات المتحدة هي الأخرى سوف تتضرر، وكذلك الدول الأخرى، بما فيها الحليفة للولايات المتحدة، في أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية. وتشير تنبؤات صندوق النقد الدولي إلى أن السعي لشل الاقتصاد الصيني سوف يقلص الناتج الإجمالي العالمي بنسبة 7بالمئة.
ولم تتوقف العقوبات الامريكية عند حظر تصدير أشباه الموصلات إلى الصين، ورفع التعرفات الجمركية على الصادرات الصينية، بل تعدته إلى منع استقدام الكفاءات الصينية إلى الولايات المتحدة، التي تقدمت وازدهرت بسبب استقبالها للكفاءات والعقول من مختلف أنحاء المعمورة عبر السنين. هذا الإجراء سوف يضر الولايات المتحدة دون شك، وفي الوقت نفسه فإنه ينفع الصين كما هو واضح.
مع ذلك فإن الاقتصاد الصيني سوف ينمو بمعدل 5.4بالمئة هذا العام، لكن النمو سوف يتقلص إلى 3.5 بالمئة في العام 2028، حسب تنبؤات صندوق النقد الدولي. غير أن النمو الاقتصادي سوف يتقلص في الولايات المتحدة الأمريكية أيضا، وتشير التنبؤات التي نشرتها منصة (Statista) للبيانات الاقتصادية، إلى أن نمو الاقتصاد الأمريكي لن يتجاوز 1.5 بالمئة هذا العام، وسوف ينخفض أكثر في العام المقبل إلى 1بالمئة، ثم يعاود الارتفاع إلى 1.7 بالمئة عام 2025، ثم إلى 2.05 بالمئة في عام 2026، و2.12 بالمئة في عامي 2027 و2028.
صحيح أن الإجراءات العقابية الأميركية سوف تُباطئ التوسع الاقتصادي الصيني، وقد أدت، بين أسباب أخرى، إلى تقليص الاستثمارات الأجنبية في الصين، التي تدنت إلى السالب، لأول مرة منذ عام 1998، مع ذلك فإن التنبؤات تشير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الصيني سوف يتجاوز نظيره الأمريكي بحلول عام 2050، وفق مجلة الإيكونوميست، رغم أن بنك غولدمان ساكس كان قد تنبأ قبل سنوات بأن الاقتصاد الصيني سوف يتجاوز نظيره الأمريكي بحلول عام 2035، لكنه تراجع عن هذا التنبؤ لاحقا بسبب تغير الظروف الدولية، وأهمها تدهور العلاقات الامريكية الصينية.
الإجراءات الحمائية المتصاعدة في الولايات المتحدة وعدد من حلفائها تتعارض مع مبادئ الاقتصاد الحر الذي تقوم عليه الاقتصادات الغربية، وهي لن تزيد الصين إلا تمسكا بنظامها السياسي ومعارضة القيم اللبرالية التي تدعيها الدول الغربية، على الأقل في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. الصين لن تقفز إلى الديمقراطية كما تتمنى الولايات المتحدة، فهذا لن يحصل في الأمد المنظور، على الأقل في عهد الرئيس الحالي، شي جينبينغ، الذي ركَّز السلطة بين يديه وأحاط نفسه بالموالين له. والرئيس شي شيوعي منذ الطفولة، وكان والده عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، لذلك من غير المتوقع أن يتخلى عن هذا الإرث الذي يستمد منه الشرعية، إضافة إلى تأييد قواعد الحزب له.
الرئيسان جو بايدن وشي جينبينغ سيلتقيان في لوس أنجلس الأسبوع المقبل، حسب ما أعلنه البيت الأبيض، وكذلك وزير الخارجية الصيني، ونقلته وكالات الأنباء في العاشر من الشهر الجاري. الهدف الرسمي لزيارة الرئيس شي هو المشاركة في مؤتمر قمة الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC). ولكن المرجح أنه جاء كي يلتقي بالرئيس جو بايدن، ولو لم يكن هذا هو الهدف الأساسي للزيارة، لكان قد بعث مندوبا عنه، كما فعل في مؤتمر قمة مجموعة العشرين الذي عقد في دلهي في سبتمبر الماضي.
لا شك أن لقاء رئيسي الدولتين العظميين في غاية الأهمية، خصوصا وأنه يأتي وسط حروب وأزمات عالمية متأججة وخطيرة ويمكن أن تتفاقم وتخرج عن السيطرة. سوف يبحث الرئيسان مواضيع عديدة، أهمها الحرب الدائرة في كل من غزة وأوكرانيا، وكذلك العلاقات المتنامية بين كوريا الشمالية وروسيا، وقضية تايوان، والعلاقات الاقتصادية بينهما، والتعامل التجاري "المنصف"، إضافة إلى مواضيع أخرى منها استخدامات الذكاء الاصطناعي وتأثيراته المحتملة، ومكافحة المخدرات.
إن تمكن الرئيسان من التوصل إلى تفاهم حول المشاكل الثنائية العالقة بينهما ابتداءً، فإنهما لا شك سيجدان السبل للتفاهم حول كيفية العمل معا لحل المشاكل العالمية المتزايدة، خصوصا الحرب في غزة، التي يتساقط فيها المدنيون الأبرياء يوميا، والحرب الروسية الأوكرانية، والخلاف حول تايوان، التي تشير المعلومات الاستخبارية الأميركية، وفق ما نشرته مجلة الإيكونوميست، إلى أن الرئيس شي يعتزم ضمها بالقوة عام 2027.
الصين تتسلح منذ سنين، وتنفق 225 مليار دولار سنويا على الجيش، الذي بلغ تعداده مليوني عنصر حتى الآن، وتتوقع مصادر أن الصين ستمتلك ألف رأس نووي بحلول عام 2030، حسب مجلة الإيكونوميست. التهديد الصيني لتايوان مستمر أيضا، وكذلك للفلبين، حليفة الولايات المتحدة، كما إن المناوشات العسكرية على الحدود مع الهند قد تتجدد، كما حصل في ديسمبر 2022.
والأخطر من ذلك هو أن الطائرات المقاتلة الصينية صارت تحلق قريبا من الطائرات الأميركية في بحر الصين الجنوبي، ما يؤشر إلى خطورة الموقف، فأي خطأ أو توهم يحصل عند أي من الطرفين يمكن أن يقود إلى مواجهة عسكرية قابلة للتوسع.
وكلما ازداد الضغط الاقتصادي والسياسي على الصين، فإن خياراتها ستتجه نحو المواجهة العسكرية، خصوصا في ظل قيادة الرئيس شي، المصمم على ضم تايوان، حتى بالقوة العسكرية. ومن هنا تأتي أهمية اللقاء بين الرئيسين في قمة لوس أنجلس بَيْ.
الولايات المتحدة ما تزال تمتلك اليد العليا، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، خصوصا وأنها نسجت تحالفات فاعلة في آسيا، مع اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، وأوروبا وأستراليا، وطورت علاقاتها مع الهند، وحتى مع عدوها السابق، فيتنام الشيوعية، التي قال الرئيس بايدن أثناء زيارته هانوي في سبتمبر الماضي إن العلاقة بين البلدين "دخلت مرحلة جديدة"، بينما يرى محللون أن فيتنام مستعدة لتحدي طموحات الصين الإقليمية، وفق ما ذكرته جريدة الغارديان.
لكن مشاكل أميركا الداخلية والخارجية تتزايد باستمرار، خصوصا مع اندلاع الحرب في غزة، وإصرار إسرائيل على مواصلتها، متحدية الرأي العام العالمي، وعلى الرغم من تزايد أعداد الضحايا المدنيين، والذي تسبب في تصاعد الاستنكار الشعبي والرسمي العالمي لاستمرار القصف الإسرائيلي في غزة، ولمواقف الدول المؤيدة لها، خصوصا الولايات المتحدة.
كما أن استمرار الحرب في أوكرانيا، دون تحقيق أي تقدم، باستثناء إيقاف تقدم روسيا للاستيلاء على مزيد من الأراضي، صار يشكل عبئا ماليا وسياسيا.
اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها، هو الآخر يقلق الرئيس بايدن والحزب الديمقراطي، خصوصا مع تصاعد التذمر من كلفة الحرب التي تدفعها أميركا بالدرجة الأولى، وتنامي الرؤى المؤيدة للتركيز على الداخل الأميركي بين مرشحي الحزب الجمهوري، والتخلي عن لعب دور عالمي إلا بحدود تعلق الامر بالمصالح الأميركية.
في ضوء كل هذه المشاكل والأزمات العالمية، لم تعد الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تمارسها الولايات المتحدة والصين ضد بعضهما بعضا منذ سبع سنوات، مجدية، ولا يمكن أن تكون سبيلا ناجعا لحل المشاكل العالقة بينهما. وبعد مرور كل هذه الفترة من الشد والجذب، عرف كل منهما حدود قدراته، وحان الآن وقت الحلول التفاوضية والعمل المشترك.
من المرجح أن الحلول المقترحة قد نوقشت باستفاضة في اللقاءات السابقة بين المسؤولين الأميركيين والصينيين، وأن مهمة الرئيسين سوف تتركز على حسم ما تبقى من نقاط خلافية، ثم وضع اللمسات النهائية عليها. الكثير من دول العالم تعقد الأمل على نجاح هذا اللقاء، فهناك مصلحة دولية في تقارب الدولتين، أو على الأقل، وضع خريطة طريق للعمل المشترك بينهما، بدلا من المقاطعة والتهديد باستخدام القوة العسكرية