أ. د. عبد علي سفيح
الغاية من كتابة هذا المقال هو معرفة فيما اذا توجد علاقة تكاملية بين تاريخ المعرفة وتاريخ القيم والأخلاق، وهل المعرفة والأخلاق وجهان لعملة واحدة؟
للإجابة على هذا السؤال يتطلب الأمر معرفة التطور القيمي والاخلاقي للبشرية عبر التاريخ حتى يمكن أن نتصور المرحلة الأخيرة للانسانية التي تجمع بين كل هذه المراحل، ومن طريق دراسة تاريخ الأخلاق، يمكن دراسة تاريخ الفن البشري بافكاره، وكذلك ممكن معرفة فيما لو تغيرت أخلاق البشر عبر الزمن، وهل كان الزمن في صالح الأخلاق ام لا؟.
قبل البدء بالموضوع، أود أن أوضح مفهوم القيمة ومفهوم الأخلاق والذي على أساسه يستند محتوى هذا المقال.
القيمة (value) او الفضيلة (vertue)، هي أفكار ورؤى يحبذها الإنسان، وهي فكرة توجد عند البشر مثل قيمة العدالة، والحرية، والمساواة، والسلام، والكرم ، والنظام، وغيرها من القيم، الا ان هذه القيم تصبح اخلاق (Ethics)، عندما يطبقها الإنسان في سلوكه أو يشرع فيها قانون، ولهذا قال الرسول الأكرم (ص) " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ولم يقل مكارم القيم.
عند العودة للموضوع، وهو تاريخ القيم والأخلاق. عندما نقرأ التاريخ الإنساني، نجد أن الإنسانية مرت بمراحل مختلفة في نظامها القيمي والأخلاقي، من ولادتها وليومنا هذا وهي أربع قيم وهي:
1. القيم الارستقراطية: هذه القيم وجدت منذ قديم الأزل وظهرت على يد النخب الإجتماعية التي سيطرت على المجتمعات البشرية في الشرق والغرب حتى وقت قريب نسبيا. نخبة أو طبقة ذات تسلسل هرمي تتمتع بمكانة النبيلة الوراثية وامتيازات تعطيها الحق في الحكم والهيمنة سواء لأنهم أنصاف آلهة أو لأنهم نخب مختارة من الالهة أو الإله وأصبحوا اباطرة، أو ملوك، أو أمراء، أوسادة أو شرفاء أو نبلاء، وهذه الطبقة أو الملة لا تعمل بل الناس يخدموها ويطيعوها كخلية النحل تخدم الملكة.
2. القيم الدينية (اليهودية، والمسيحية والاسلام): هذه القيم موصوفة في الكتب الدينية المقدسة، وهذه القيم ألغت القيم الارستقراطية الشرقية والغربية، وأكدت على أن أفضلية الإنسان لا تأتي من نسبه أو انتماءه العنصري أو الديني أو الجنسي أو العشائري، بل تأتي من عمله للخير في صالح الناس، وأكدت الديانات التوحيدية هذه القيم، ومنها "خير الناس من نفع الناس"، وكذلك "لا فرق بين عربي واعجمي الا بالتقوى".
من اللافت للنظر أن الأديان لم تتخلص كليا من إرث القيم الارستقراطية، بل نجد تفضيل نسب أو آل على الآخر، الا أن الخط العام للقيم الدينية كانت في اتجاه هدم القيم الارستقراطية.
3. قيم الجمهورية: ولدت هذه القيم مؤخرا اي في القرن الثامن عشر مع ولادة الثورة الفرنسية في عام 1789، وقبلها بعقود، وكانت تحمل أول خطاب عالمي لحقوق الإنسان، ومنها بنى الفلاسفة والمفكرين الرؤية التفائلية للعالم، وهذه القيم كانت في آن واحد ثورة على القيم الارستقراطية وعلى القيم الدينية.
هذه الرؤية التفائلية نجدها عند فلاسفة النور في القرن الثامن عشر، كان اعتقادهم بأن العالم يسير نحو الأفضل نتيجة التراكم المعرفي العلمي والتقني، وهو كفيل ببناء جيل ذا قيم وخلق عالية يحفظ الإنسان فيها كرامته وانسانيته. هذه الرؤية التفائلية كان يعتقد بها الفيلسوف الاغريقي سقراط بقوله "المعرفة مصدر كل خير وكل فضيلة".
أختلف في هذه الحقيقة الفلاسفة والمفكرين وأصبح هناك توجهان، أحدهم متفائل يرى المعرفة والأخلاق احدهما يكمل الآخر، والتوجه الثاني متشائم لا يرى علاقة بين العلم والأخلاق وعبر عن هذا التوجه الفيلسوف الاغريقي ارسطو الذي كان يشك في هذه العلاقة، ولهذا السبب رأى المجمع العلمي في مدينة ديجون (Dijon) الفرنسية في عام 1749 أن يدعو المفكرين والفلاسفة والادباء إلى مناقشة قضية علاقة المعرفة بالحكمة، وطرحت المسألة اللآتية: هل أفضى ارتقاء العلوم والفنون إلى ارتقاء الأخلاق وتزكيتها من شوائب والمفاسد؟ وقرر المجمع المذكور منح جائزة مالية لأحسن الردود التي سيتلقاها على هذه المسألة، فاجاب جان جاك روسو بمقال عنوانه "خطبة في العلوم والفنون والآداب"، وكان متشائم في رده.
ان فلسفة التفائل كانت عند معظم الفلاسفة والمفكرين في القرن الثامن عشر ومنها أنجب مشروعين كبيرين ساهما في ديمقراطية المعرفة وأصبحت في متناول معظم طبقات المجتمع دون تمييز؛ المشروع الأول هو الانسيكلوبيديا Encyclopédie، وهي موسوعة أو قاموس مرشد للعلوم والفنون والمهن، رأى النور في فرنسا في عام 1751 وشارك في إعداده نخبة من الفلاسفة والمفكرين والادباء ومنهم فولتير، وديدرو، وجان جاك روسو، وكوندياك، إما المشروع الثاني وهو انشاء المتاحف، متحف اللوفر L'œuvre في فرنسا في عام 1692، والمتحف البريطاني British Museum في بريطانيا في عام 1735، ومتحف ديل برادو Del Prado في أسبانيا في عام 1819، بينما في تلك الفترة كان قليل من الفلاسفة والمفكرين المتشائمين، ومنهم جان جاك روسو ذهب بالقول بأن العلوم والآداب والفنون من أقوى دعائم الظلم والاستبداد لأنها تغطي الأغلال الحديدية التي تكبل أيادي الإنسان بباقات الزهور التي تبهر الأبصار، وسابقا الفيلسوف الإغريقي أرسطو كان يشك كثيرا في أن العلم والمعرفة مصدر للفضيلة، وكان يرى أن العلم لا علاقة له بالأخلاق.
4. قيم الهدم: تيار قيم الهدم بدء في مطلع القرن التاسع عشر، حيث علت أصوات الفلاسفة والمفكرين من اللورد جورج غولدن بيرون في بريطانيا، وليوباردي في إيطاليا، وبوشكين في روسيا، وشوبنهاور في المانيا، واستمر إلى منتصف القرن العشرين مع الفيلسوف نيتشة وهايدغر في المانيا، وسارت وسيلين في فرنسا، وتبعهم دريدا وفوكو، ورواد قيم الهدم مثلوا منعطفا حقيقيا في اساليب وطرائق التفكير، إذ قلبوا فيها أنماط التفكير القديمة، عبر الشك في القيم والأخلاق السائدة وفي جدواها.
بدأ هذا التيار بعد أن شككوا في القيم والأخلاق لاسيما عندما لاحظوا اشكالية فلاسفة النور ومفكريها مثل فولتير وغانط Kant، كان لهم خطابا عنصريا ضد السود واليهود، كذلك الفيلسوف الفرنسي توكفيل Tocqueville وجول فيري Jules Ferry مؤسس المدارس الوطنية الفرنسية شرعوا الاستعمار وكان لهم خطاب ضد الاسيويين الصفر.
ازداد تيار قيم الهدم في القرن العشرين ، كان قرن حروب كونية مدمرة لم تشهد الإنسانية لها مثيل، وكان الشعب الألماني في بدايات القرن العشرين من أكثر شعوب العالم ثقافة وتطور في مجالات السياسة والتعليم، والفلسفة والأدب والعلوم، كل هذه العلوم لم تمنع هذا الشعب من شن حربين كونيتين مدمرتين. هذا التيار كان يعد التطور العلمي والثقافي والتكنولوجي وهم( أوهام)، وكان يتعاطف معهم في هذا الوهم ادباء الرومانسية وكانوا ضد الديمقراطية وضد الثورة الفرنسية، الا أن الأديب الرومانسي فيكتور هيغو فلت منهم وأصبح من كبار المصلحين والثوار، وليس عجبا أن نرى الفيلسوف الألماني هايدغر الذي يعد من أكبر فلاسفة التاريخ بعد سقراط، والاديب الفرنسي سيلين الذي هو أكبر ادباء فرنسا بعد فولتير، كلاهما أيد النازية والديكتاتورية.
ممكن أن نختم هذا المقال بالقول، بأن التاريخ مليء بالشواهد التي تدل على وجود علاقة تكاملية بين المعرفة والقيم الخلقية، كذلك التاريخ مليء بالشواهد التي تثبت عكس ذلك، ويبقى السؤال مفتوحا للنقاش والبحث والدراسة.
د.عبد علي سفيح