العراق... ورحلة الانتحار
    الأثنين 13 فبراير / شباط 2023 - 21:16
    أ. د. عبد علي سفيح
    مستشار وباحث لوزارة التربية والتعليم الفرنسية
    "إن الأمم لا تموت قتلا، ولكن تموت انتحارا" Arnold Twinbi صاحب نظرية تاريخ الحضارات. التاريخ مليء بالامثلة لحضارات وشعوب بوعي أو من دون وعي اقدمت على الانتحار، فكيف كان العراق بلدً مهابًا، نزل من العزة والاباء إلى الامتثال والخضوع؟
    أن الانتحار أما أن يكون فرديًا، أو جماعيًا، أو انتحار أمة أو شعب، أو عالمي كوني.
    يكون الانتحار فردًيا عندما يضع شخص نهاية لحياته بوعي أو من دون وعي؛ وجد عالم الآثار الألماني Adolf Erman أقدم خطاب انتحار في مصر يعود إلى 1500ق.م. نتيجة يأس الشخص من الحياة، بينما يرى الأديب المصري محمد لطفي المنفلوطي في كتابه " النظرات " أن الانتحار عادة مستهجنة رمتنا بها المدنية الغربية.
    أو انتحار طوعي جماعي، كما شهد العالم اكبر حالة انتحار في التاريخ عام 1978 في شمال غرب غيانا Guyana، انتحر 908 شخص ينتمون إلى طائفة تطلق على نفسها " معبد الأمة" وهم من أتباع القس الأميركي جيم جونس Jim Jone؛أو انتحار أمة أو شعب على يد مغامر كما حدث في فرنسا على يد نابليون بونابرت الذي استولى على السلطة عام 1804 وكانت فرنسا من أقوى دول اوربا واكثرها ازدهارًا، وكان يشن أربعة حروب في السنة، فسلم فرنسا محتلة ومقسمة وفقيرة بعد هزيمته في معركة واترلو التي اطاحت بعنجيته، ونصب الحلفاء والروس لويس الثامن عشر ملكًا على فرنسا؛ كذلك في المانيا، انتحر الشعب الألماني في عام 1945 على يد المغامر هتلر الذي استولى على السلطة وكانت المانيا من أكثر دول اوربا قوة وازدهارا في مجال التكنولوجيا والتعليم والفلسفة، وسلم المانيا محتلة ومقسمة ومدمرة ونصب الحلفاء  Adenauer مستشارا لإدارة البلاد؛ واخيرًا وليس اخرًا انتحار الشعب العراقي على يد مغامر صدام حسين، استولى على الحكم في العام 1980، وكان العراق موحدًا ومن أقوى دول المنطقة في المفاصل جميعها، الصحية والعسكرية والتعليمية والادبية، وسلمها في عام 2003 دولة مقسمة محتلة ومدمرة بعد أن قصمت ظهره الحروب وهوت به من فوق قامات المجد إلى سراديب وحفر الهزيمة والذل، ونصبت امريكا السيد غازي عجيل الياور رئيسًا للعراق.
       من هذه المقدمة السريعة، أدخل إلى جوهر الموضوع وهو: هل نزول العراق العزة والاباء إلى الامتثال والخضوع؛ لأن العراقيين أمة على طريق الانتحار، أم هناك من يدفع العراق لذلك؟ التاريخ يشهد بأن العراق استجاب للفوضى ولم يتمكن إلى الآن الاستجابة الفعلية لجوهر التحدي.
    لتسهيل نقل الفكرة للقاريء الكريم، سوف اذكر ثلاث حكايات (امثلة) توضح رحلة الانتحار على شكل ثلاث مراحل، الأولى نقطة البداية والثانية مرحلة الحروب، والثالثة هي مرحلة السقوط.
    المرحلة الأولى نقطة البداية: شاركت في عام 2017 في مؤتمر لحوار الحضارات في فيينا(النمسا)، افتتحت المؤتمر وزيرة خارجية النمسا Karin Kneiss، وخلال المؤتمر التقيت بشخصيات عراقية وعربية ومنهم الدكتور محمد السماك كاتب وصحفي لبناني وحصل حوار طويل معه خارج اروقة المؤتمر وحكى لي حكاية وقال: "في أيلول 1978 زار صدام حسين فرنسا وكانت هناك رغبة صريحة عند العراق وفرنسا بناء علاقات استراتيجية كنوع من التوازن في العلاقات الخارجية؛ توجت هذه الزيارة بتعاون اقتصادي وعسكري وثقافي واسع بين البلدين، وكان من ضمن برنامج الزيارة مشاهدة عرضا للطائرات الحربية في مطار بورجيه Bourget في باريس مع رئيس وزراء فرنسا آنذاك جاك شيراك، أما الصحفيون وأنا منهم نتابع العرض من طريق حافلة موجودة خارج المطار. وبينما نحن نتابع العرض واذا بقدوم شخصين احدهما فرنسي والآخر عراقي صعدا داخل الحافلة ونادى احدهما، من هو السيد محمد السماك؟ فقلت له انا، فقال تفضل معنا. ذهبت معهما إلى المقصورة التي تجمع كل من صدام حسين وجاك شيراك وبعد انتهاء العرض اخذ صدام بيدي وقال لي: استاذ محمد اريد أن أعرف ما هي الحدود المسموحة عالميا لبلد أن يستخدم سلاحا ليس له بصانع؟ وطلب مني أن اقدم هذه المعلومات له شخصيا"، انتهت حكاية الدكتور السماك. من المعروف دوليا، أن كل دولة لها الحق في الدفاع عن نفسها عند حصول اعتداء عليها حتى وان لم تكن صانعة للسلاح.
    ممكن القول بأن نقطة بداية مرحلة الانتحار بدأت في العام 1975؛ وقد أكد الاستاذ صلاح عمر العلي في لقاء تلفزيوني في برنامج شاهد على العصر بأن صدام حسين اخبره على هامش مؤتمر دول عدم الانحياز في عام 1980، " الان فرصة تاريخية ان نسترجع كافة حقوقنا وسوف اضرب ايران ضربة اجعل كل الكرة الأرضية تسمع صوتهم".
    المرحلة الثانية مرحلة الحروب الثلاثة: وهنا أيضا اسرد حكاية ثانية رواها الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلة خلال زيارته للعراق في عام 1991 لمساعدة اوربا في تحرير بعض الرهائن الذين اتخذهم صدام حسين كدروع بشرية لتفادي الحرب ضده، جاءت للعراق شخصيات عالمية لأجل نفس الغرض منهم من أميركا الملاكم محمد علي كلاي، والنائب البريطاني السابق George Galloway ، ورئيس حزب اليمين المتطرف الفرنسي جون ماري لوبين، كذلك الرئيس أحمد بن بلة، والذي عمل لقاء صحفي في سويسرا وفرنسا وقال: " التقيت بالرئيس العراقي صدام حسين وقلت له، سيادة الرئيس انك رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة ومسؤول عن حماية الجيش القابع في الكويت والعالم قرر ضرب الجيش العراقي في الكويت وابادته أن لم تسحبه، واذا حصلت الضربة فسوف تفقد حب الجيش لك، فيقول اجابني الرئيس صدام: " اخي احمد، انا لن انتظر من الجيش أن يحبني بل انتظر منه الطاعة لي" ، انتهى الحوار مع احمد بن بلة.
      هذه الرؤية للحكم لشخص مثل صدام حسين تعزز انفصاله عن الشعب والجيش وعدم حماية شعبه وجيشه له من اي اعتداء، وتوجت المرحلة الثانية لانتحار العراق في الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003.
    المرحلة الثالثة بعد عام 2003: العراق مأساة بلد يطفو على المقابر الجماعية ومن أكبر بلدان العالم بالمفقودين حسب تقارير هيئة الأمم المتحدة وما كتبته الصحف العالمية ومنها مجلة الكاردينال البريطانية، شهد العراق من 2004-2009  آلاف التفجيرات إذ ذهب ضحيتها أكثر من 109 آلاف ضحية، إما خلال بروز داعش وحسب تقرير هيئة الأمم المتحدة فقد تم تحديد أكثر من 200 مقبرة جماعية.
       أو انتحار عالمي كوني، عبر عنها الأمين العام للأمم المتحدة Antonio Guterres بقوله" البشرية أمام طريقين، أما العمل معًا أو الانتحار الجماعي بسبب الحالات الملحة للمناخ".
    اختم هذا المقال بالسؤال هو:
      هل اسرائيل في رحلة الانتحار الجماعي لليهود بعد تحولها من الضحية إلى الجلاد  في فلسطين؟  وقد حذرت مسبقا منظمة ناطوري كارتا اليهودية الدولية من الانتحار ورفعت شعار يجب أن تعود الأرض المقدسة بالكامل إلى الفلسطينيين، وقبل اسبوع حذر Jacques Attali المستشار السابق للرئيس ميتران، قال ان اسرائيل في طريق الانتحار الجماعي.
    وهل الشيعة العرب في العراق في رحلة الانتحار بعد معاناة طويلة وتحويلهم اليوم من الضحية إلى الجلاد، وقد حذر من ذلك السيد السيستاني المرجع الديني في العراق وقال:" لقد بح صوت المرجعية"، وقبل اسابيع قليلة حذر السيد عمار الحكيم من الانحرافات الخطيرة والتي تفضي إلى انقسامات شيعية حادة، واقترح " مشروع الوطنية الشيعية".
    تبقى هذه الأسئلة مفتوحة لعشاق المعرفة والخير.

    د. عبد علي سفيح
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media