قراءات في فهم حرب بوتين على اوكرانيا -1
    الخميس 23 فبراير / شباط 2023 - 13:45
    د. لبيب سلطان
    أستاذ جامعي/ كاليفورنيا
    القسم الاول: قراءات في فهم جذور وظروف الحرب 
    يمر عاما كاملا هذه الأيام على أول حرب حقيقية تجري في وسط اوروبا منذ الحرب العالمية الثانية ، أي بعد قرابة ثمانين عاما منها، وهي اطول فترة سلم  مستمرة عرفها التاريخ الحديث لهذه القارة بعد الحرب الباردة  التي خاضتها على خط يمتد من الشمال الى الجنوب على  طول نصفها ،شمل دول مرصوصة على جانبيها  شرقا وغربا، ولكنها لم تكن حربا او تصعيدا ساخنا، بل كانت حربا ايديولوجية ، تهريجية واعلامية ، ولم تتطور يوما الى ساخنة حقيقية كالحرب التي شنها الرئيس بوتين على اوكرانيا في يوم 24 فبراير 2022.
    سيتم طرح محاولة في فهم اسباب هذه الحرب ودوافعها في نقاط مركزة ووفق قراءات منفصلة تمس جذورها المختلفة.

    1.قراءة في احقية وضع الحروب على كاهل حكام الصدفة المتسلقة 
    اجد ان هناك أحقية بشخصنة هذه الحرب وربطها بشخصية الرئيس بوتين تحديدا ، ومنه اصحاح  تسمية هذه الحرب  انها حرب بوتين على اوكرانيا ، وليست حرب روسيا على اوكرانيا ، وذلك يعود لسببين، أولهما ان بوتين قد بدأها بقرار واجتهاد شخصي منه ( وسنأتي الى تفصيل ذلك لاحقا) ،  واطلق عليها انها عملية عسكرية خاصة ، فهي ليست اعلان حرب حرب،وحتى انه اصدر قانونا يجيز الحكم لمدة 15 عاما لمن يجرؤ من شعبه على تسميتها حربا . واذ تطورت العملية الى حرب حقيقية كما نراها اليوم ، فربما يكون  الحق مع منتقديه الروس بوجوب محاكمته نفسه وفق هذه المادة نفسها ، كما نادوا به بعد اعترافه بها حربا جاءت على لسانه في كلمته المتلفزة في 23 ديسمبر عام 2022 ، وقيل انها كانت زلة لسان ، ولكنه نطق الواقع كونها على الارض هي حربا حقيقية طالت ودمرت مدنا بكاملها ووصل ضحايها لليوم من الطرفين قرابة نصف مليون من الضحايا ، وعشرة ملايين مهجر اوكراني، وان لم تكن هذه حربا ،فكيف هي الحرب اذن ؟. ان العالم يعرف ما لايعترف به الديكتاتوريون، ان اي بادئ للحرب كان يعتقد انها مسألة أيام ، وربما اسابيع ، لتمتد بعدها لأشهر ، وبعدها ربما لسنوات ، وهذا هو مانراه في هذه الحرب، وهو نفس الخطأ الذي وقع به بوتين.
    والسبب الآخر لدقة تسميتها  بحرب بوتين وربطها بشخصه ،  ان كلا الشعبان تفاجئا بهذه الحرب ، كما تفاجأ بها كل العالم .  ولايمكن تصورقيام حرب بين شعبين تجمعهما مثل هذه الاواصر التاريخية والثقافية والعائلية كما هي بين الشعب الروسي والاوكراني ، فهي تشبه الى حد بعيد علاقة الاخوة القائمة بين الشعوب العربية ، فغزو صدام للكويت هي ليست حربا عراقية كويتية ، بل حرب صدام على الكويت . والواقع ان غزو بوتين لأوكرانيا يكاد يكون مثالا مكررا باسبابه ودعواته  ومنهجه لغزو صدام للكويت ، حيث تتطابق الأدعاءات ان الكويت واوكرانيا هما كيانان وهميان وكانا  يوما ما مقاطعات في الدولة الأم  ، الأكبر وألأقوى ، ليشرعنا ضمها ، كما وتتطابق طريقة الغزو وطريقة اعداده وطبخه، فبوتين مثل صدام بقي وحتى اليوم الاخير ينفي ان تكون هناك اية نية في شن الغزو او حتى التخطيط له ، هذا مانفاه صدام ، وهو ما نفاه بوتين امام شعبه ، وامام قادة الغرب بزياراتهم المكوكية او المحادثات او المكالمات معهم والتي جرى الكشف عنها لاحقا ، ومنها اعلان وزير خارجيته لافروف امام الملأ وامام أغلب قادة العالم المجتمعين في مؤتمر ميونيخ  للامن في شباط عام 2022  أي قبل الغزو باسبوع، بانه هو خيال اميركي محض هدفه تحريض اوربا والعالم على روسيا، وما هي الا عدة ايام حتى حدث الغزو، ومنه لم يعد عاقلا يصدق ما يقوله او يأتي به لا بوتين ولا اركانه سواء داخل روسيا اوخارجها .ولكن الأهم من كل ذلك ، ان واحدة من أهم نقاط التطابق ان كلا الغزوتين تمت تحت ادعاآت قومية وبأسم المصالح العليا للامة ، وكلتاهما تمت في ظروف دولية غير مؤاتية ما بعد الحرب الباردة ، حيث تطلع العالم الى قطف ثمار السلم والتوجه للتركيز على الاقتصاد والتنمية والتعاون ورفض خوض حروبا جديدة حتى باردة، ومنه فهي حروبا شخصية  لصدام وبوتين واليهما يرجع قرار شنها ومنه ربطها بهما. الملاحظ هنا انه مشترك اخر، حيث اعتقد كلا من هتلر وصدام وبوتين انه بعث لأنقاذ الامة وارجاع مجدها ، ولكنهم جميعا صعدوا للسلطة عن طريق الصدفة التاريخية وظروفها الشعبوية، وجميعهم ورطوا شعوبهم بحروب يصح ربطها بهم وبشخصياتهم  وباسمائهم ، فجوهر الظاهرة واحد ويمكن تلخيصه بمقولة بسيطة : عندما يصل للسلطة ، وعن طريق الصدفة التاريخية ،ديكتاتورا مشبعا بالنرجسية الشخصية ومعتقدا بدوره انه بعث ( بضم الباء) لأنقاذ الامة ،وانه القائم على مصيرها ، فانه سيشن حربا تحت إرجاع مجدها ، وبدلا من بعثها سيدمرها " . وألحيز هنا ليس مناسبا لمناقشة ظروف الصدفة التاريخية في تسلق هتلر وصدام وبوتين ، ولكني احيل القارئ الى حقيقة  ان أيا منهم لم يكن معروفا لشعبه ، فهوليس مفكرا وطنيا ولا قائدا شعبيا، مثل غاندي او مانديلا مثلا ، ولم يعرفهم احد قبل تسلقهم للسلطة ، بل حملتهم اليها موجة الشعبوية المتأدلجة ، وهذا هو خطر التأدلج على الدول والمجتمعات، انها تحمل متسلقين وبلطجية سلطوية ونرجسية مع عقدها لقيادتها ومنها توريطها ، وهذا ماحصل ويحصل اليوم.

    2.قراءة في الظروف الدولية الغير مؤاتية لحرب بوتين 
    اتت هذه الحرب في ظروف غير مؤاتية لشن حربا او غزوا لبلد اوربي تماما،  خصوصا بعد الحرب الباردة، حيث ترسخت بعدها لدى الناس والشعوب من كلا الطرفين قناعة ، كما هم المحللون والسياسيون والقادة ، ان القارة ليست ولن تكون مستقبلا مكانا  للحروب والتدمير ،  بل مكانا للاستقرار ، ولفتح الابواب امام دولها ومجتمعاتها لتطوير الاقتصاد والتجارة الحرة والمصالح المشتركة وتحطيم الحواجز امام تفاعل شعوبها وثقافاتها وتشجيع التبادل الثقافي والسياحي بينها احتفالا بالسلم ومنجزاته، بل وأن تكون القارة مثالا  ليمتد الى العالم باجمعه ، حتى ظهر مصطلحا جديدا قبل نهاية  القرن العشرين  بأسم  "العولمة " ،  وبها  اريد النظر للعالم وكأنه اصبح بلدا واحدا كبيرا مكونا من قرى و مدنا ، صغيرة أوكبيرة ، ستزال الحواجزبينها وتتحطم امام احلال نظم الديمقراطية والحريات والمصالح الاقتصادي المشتركة وازالة الحواجز امام تفاعل الشعوب كبديل عن صراعها الايديولوجي.  هذه وغيرها من الافكار الحالمة والمتفائلة هو ماطغى على العالم منذ انتهاء الحرب الباردة ، وفعلا حصلت الكثير من النجاحات في العالم، ليس اقلها على الصعيد السياسي تحول كل انظمة الحكم في اوربا الى نظم ديمقراطية ، ومثلها في امريكا اللاتينية حيث اختفت معظم الديكتاتوريات . اما على الصعيد الاقتصادي فشهد العالم النمو السريع لدول نامية استفادت من العولمة وتحولت خلال عشرين عاما الى اقتصاديات متطورة ، كالصين والهند وكوريا وتركيا والبرازيل وغيرها ، عدا  دولا اوربية هامة مثل بولندا وجيكوسلوفاكيا مثلا،استفادت من اجواء "العولمة" بسرعة تمولها  للاستقرار السياسي بأقامة نظما ديمقراطية فيها ،ومنه انطلقت مباشرة الى التنمية وتطوير اقتصادها وقدراتها. لقد استمرت العولمة بالنجاحات ، كونها حاجة طبيعية للحياة وقت السلم، وللتحول من الصراع الايديولوحي الى التحول للتركيز على التنمية الاقتصادية ووالأخذ بالنظم  الديمقراطية كنماذج كانت سابقا مغلقة بسبب الحرب الباردة.
    من هذه القراءة العامة للاجواء التفاؤلية التي سادت العالم لما بعد الحرب الباردة، يمكن القول ان غزو بوتين لاوكرانيا يوم 24فبراير 2022  جاء عكس التيار وعكس هذا الجو الدولي والشعبي العام المتفائل الذي ساد اوربا خصوصا . 
    لابد وان هناك اسبابا جعلت بوتين يقف ضد هذا التيار ويمكن فهم الغزو  كمحاولة مضادة منه لقلب معادلات العولمة رأسا على عقب التي تبدو حضارية ومنطقية ومفيدة للعالم ،بما فيها للشعبين الروسي والاوكراني،. ومحاولة بوتين للغزو هي اما ان تكون احتجاجية على الوضع القائم، أي احتجاجا على عدم عدالة العولمة ، ويترجمه " عالم أحادية القطبية " ويقصد به هيمنة النموذج الاميركي او الاوربي الليبرالي على العالم  ( وسأوضح اسباب احتجاجه  عليها ادناه ) ، أوهي منهجية عقائدية استحقت شن الحرب على اوكرانيا سعيا لنسف هذا الواقع الجديد في العالم المبني على العولمة الاقتصادية والفكرية.
    يميل الكثيرون ، وأنا منهم ،  ان قرار الغزو يقوم على كليهما ، فهي احتجاج اتى وفق منهج عام ، بان واحد. هي محاولة اراد بها بوتين قطف ما يستطيعه من خلال الغزو وفق سيره ضمن محاولة منهجية لأنهاء العولمة سواء الفكرية او الاقتصادية .
     والمشكلة ان محاولة الاحتجاج هذه تطورت، لسوء حساباته، من محاولة توسع جزئي لتحقيق مكسب الى حرب حقيقية مع الشعب الاوكراني ومع العالم وباتت تهدد امن العالم باجمعه . فهي لاتشبه المحاولات التوسعية السابقة والتي كانت  ضيقة ومحدودة ، بما فيها غزوه واحتلاله لاجزاء من ارض جيرانه ( قرابة 20 بالمئة من أراضي مولدافيا ، ومثلها في جورجيا عام 2008 ،وبعدها عام 2014 من اوكرانيا ، وحتى توسعه الى سوريا  لنصرة نظام الاسد عام 2015 ) . جميعها كانت محدودة ولم تهدد السلم الدولي كما غزوه لأوكرانيا.
    ساحاول ادناه التفصيل اكثر في معرفة اسباب احتجاج بوتين على العولمة من جانبيها الأقتصادي والفكري ـ السياسي .   ولكن قبل الخوض في هذه الامور لمناقشة اسباب معارضة بوتين لها وجذور واسباب هذه الحرب، لابد من التأكيد ان ما أتي به بوتين من مبررات الغزو والحرب لاتصلح جميعها اطلاقا لشن وبدء هذه الحرب الهمجية  المعادية لمصالح الشعبين الروسي والأوكراني  ،اضافة لتهديدها امن العالم واستقرار شعوبه التي طالما تطلعت لأنهاء الحروب وحتى الصراعات الأيديولوجية الدولية للانصراف الى شؤونها الداخلية وتطوير مجتمعاتها وبلدانها واقتصادها ، ومنه فتناول قضايا فكرية هو اساسا لمعرفة العناصر الحقيقة التي هيأت للحرب ، اما قرارها فهو ناتج عن عجز سياسي بمعالجتها، ومنه لجوء الديكتاتوريين في شن حروبا عدوانية خارجية لعجز داخلي، ومنه مسؤوليتهم عنها.

    3.قراءة في فشل نموذج العولمة الاقتصادية في روسيا كسبب للتوجه لغزو اوكرانيا
    يمكن قراءة نتائج العولمة الاقتصادية خلال ثلاثين عاما منذ انتهاء الحرب الباردة الى الغزو لأوكرانيا بفشلها في روسيا ، حيث تحول العالم الى اشبه بكعكة من ثلاثة طبقات اقتصادية العليا تمثل التفوق التكنولوجي ( أميركا واوربا الغربية واليابان) وهي تحاول مغادرة التصنيع وتوجيهه للطبقة الثانية من الدول التي استفادت منه ،وهي عديدة  ،مثل الصين والهند وكوريا وتركيا والبرازيل وماليزيا واندونيسيا وغيرها من الدول المستقرة سياسيا،  وحققت قفزات سريعة باقتصادياتها بعد تحويل التصنيع واستثماراته  الضخمة اليها ، وبهذا التركيز الصناعي فيها تم شبه تدمير للصناعات المحلية واليدوية في الطبقة الثالثة من الدول، ومنها دولنا العربية ، الغير قادرة على المنافسة الأقتصادية مع الثانية، ولم يتوجه لها الاستثمار الصناعي لاسباب بسبب عدم استقرارها السياسي وعدم وعي حكامها السلطويين ، ومنه عدم تهيؤها  لأستقبال واستقطاب الاستثمارات الصناعية الاجنبية اليها. هذا هو حال اغلب دول العالم الثالث ومنه زاد تضررها ، خصوصا الضرر على صناعاتها المحلية واليدوية التي لاتستطيع منافسة الصينية مثلا او التركية ، ولم تسلم منه الا الدول الريعية . ومن سوء الحظ ان روسيا  كانت بينها  ،  فهي لم تتمكن ،مثل بلدان اوربية اخرى ، بولندا وجيكوسلوفاكيا كأمثلة ، التكيف السريع في التسعينات وتحويل نظامها السياسي الى الاستقرار ، ومنه لم تجذب الستثمار الصناعي اليها ، ومنه فقدت المنافسة لاحقا مع المنتج الصيني اوالتركي اوالكوري ، وهذه جميعا كانت تتمتع ومنذ الثمانينات باستقرار سياسي وجذبت الاستثمارات الصناعية اليها، وهو الامر الذي افتقدته روسيا حتى خلال التسعينات ، بسبب الفوضى وشيوع الفساد السياسي والاداري في الدولة وسيطرة اوليغارخية الحزب الحاكم ومتنفذيه على المؤسسات والثروات الطبيعية، ومنهما لم تستطع روسيا لا جذب الاستثمارات الصناعية اليها ولا الى التحول التدريجي لمؤسساتها الصناعية الكبرى  لأقتصاد السوق ، رغم ان روسيا اكثر تطورا وقدرات صناعية وعلمية بشرية من الصين وكوريا وتركيا والهند ، ولكن الفوضى والفساد منعها ومنع الغرب معها من دمجها بالنظام العالمي الجديد . ومنه بقيت روسيا دولة شبه ريعية واقتصادها الصناعي شبه محطم ، والجزء المالي والريعي والخدمي بيد الاوليغارخ الحزبي الفاسد، ولم تسلم سوى بعض الصناعات الثقيلة الحربية والتي ضعفت ايضا بفقدان عملاء هامين في دول اوربا الشرقية ،وانظمة صدام والقذافي ، ومصر، كأكبر مستوردي الاسلحة السوفياتية ، ومنه عانت حتى الصناعات الحربية المتطورة من ضعف وكساد، ومنه اعتبر الرئيس بوتين ان النظام العالمي الجديد ليس الا أداة لجعل روسيا بلدا تابعا وضعيفا اقتصاديا. ولكن في الواقع الواقع ان روسيا ضيعت  الفرصة عليها بسبب مشاكلها وفساد اجهزتها ومصاعبها الداخلية، ولو تم خلال التسعينات التحول مثل بولندا وجيكوسلوفاكيا للاستقرار السياسي  واعادة تأهيل المؤسسات بدل سيطرة الاوليغارخ الحزبي عليها ، كما جرى في الثمانينات اعادة تأهيل المؤسسات في الصين بالشراكة مع اميركا واليابان مثلا ، لاستطاعت روسيا التغلب على دول لا تمتلك حتى جزء من مقومات نهوضها الاقتصادي، ومنها حتى الصين وكوريا والهند والبرازيل. 
    المهم ان بوتين وجد نفسه عام 2000 ، سنة انتخابه رئيسا ، انه بين انقاض لمصانع من الحقبة السوفياتية، الناجح منها استولى عليه الاوليغارخية ، والفاشل منها عبئ عليه ولم تتوجه لها الاستثمارات الغربية لحالة عدم الاستقرار والفساد العام في الدولة واجهزتها . ولكنه بدلا من التركيز على الاصلاح الاقتصادي وجد الأسهل بوضع الذنب على العولمة وعلى الغرب ، الذي اعتقد انه وزع الادوار ولم يضع روسيا في موضعها اللائق، ومنه حول الامر ايديولوجيا وليس لاسباب تخص وضع روسيا الاستثنائي والفساد العارم فيها ، واستغل عدم ثقتها بكل طرح غربي الموروث من حقبة الاتحاد السوفياتي، ليروج ان روسيا مستهدفة من الغرب لأضعافها اقتصاديا ، بديلا عن معالجة القضايا العائقة لجذب وتوطين الاستثمار الصناعي الدولي فيها كما تم في الصين وكوريا وبولندا وجيكيوسلوفاكيا مثلا. ان عجز بوتين في سياساته الاقتصادية امر واضح ومفهوم، فهو ليس من رواد الاصلاح الاقتصادي ، بل قام بابعاد الاقتصاديين الليبراليين القليلين في الدولة ومؤسساتها،  واعتبرهم عملاء وجواسيس للغرب، واخذ بارجاع هيمنة الدولة على النشاط الاقتصادي ، وذلك طبعا ليضع الدولة والمجتمع تحت سيطرته ، وسمح للاوليغارخية الروسية الاستمرار بالفساد شرط عدم تدخلهم بالسياسة، رغم ان هذه اثبتت انها طبقة غير وطنية وتقوم بتهريبها لرؤوس الاموال للغرب. ان فشله في الاقتصاد نابع من اسباب سياسية محضة تتجلى في خوفه من نمو طبقة روسية جديدة ، بما فيها من الاوليغارخ الفاسد ، ربما تتحالف مع الاصلاحيين وتدحره في انتخابات عامة ،ومنها فدوافعه سياسية وليست اصلاحية للاقتصاد الروسي.  ومنه تلاه الانغلاق والارتياب بنوايا الغرب السياسية الذي ركز عليه بوتين وحاشيته من الحرس القديم ورجالات الحرب الباردة ، بدل تركيزه على الاقتصاد.
    من الاستعراض اعلاه اردت توضيح ان بوتين ، وبدل خوض معركة اصلاح اقتصادية حقيقية للنهوض بروسيا كقوة اقتصادية عظمى جديدة في العالم ، وهو امر يعتقد الكثيرون انه كان ولازال امرا ممكنا،  وان الشعب الروسي قادر عليه، بحكم تراكم خبراته وانجازاته خلال الحكم السوفياتي ، ومتمكن منه ، لو اتيحت له قيادة اقتصادية قادرة على القيام بذلك ، ولكن بوتين هو ليس رجل هذه المهمة بالتأكيد ، بحكم خلفيته وافكاره وتطلعاته . وبدل هذا الطريق ، فقد اختار خوض معركة ايديولوجية ضد الغرب محورها إحياء الايديولوجية القومية باسم الدفاع عن المصالح العليا لروسيا. ان خوض هذه المعركة الأيديولوجية هو الاقرب لاختصاصه ، حيث منها سيتم تتويجه منقذا للامة الروسية ، او المسيح المنتظر والقائد الفذ الذي سيعيد لروسيا مجدها. 

    4.قراءة في تأثير تبني الأيديولوجيا  القومية  لشن  حرب اوكرانيا
    يشكل الفكر القومي اساسا متينا لفهم اهم العوامل التي دفعت بوتين على غزو اوكرانيا ، فهو شخصيا قد طرح مرارا وتكرارا بان هدفه الأعلى هو اعادة المجد القومي لروسيا العظمى وكذلك طرح  العلاقة القومية والتاريخية التي تربط بين الشعبين كشعب ومصير واحد ، تمهيدا لقضم اوكرانيا من خلال الغاء هوية شعبها الوطنية الخاصة وحقه في تقرير المصير . إن الفكرالليبرالي للعولمة يقر لها هذا الحق، بينما يعتبره الرئيس بوتين تهديدا وتجاوزا على  المصالح القومية لروسيا ، واعتبر ان الليبرالية والحريات هي اداة بيد الغرب للسيطرة على الدول والمجتمعات، وليس لبناء الجسور بين الامم وألأخذ بالليبرالية الفكرية كنموذج لتطوير نظم حكمها وادارة المجتمع على اساس الحريات. 
    وكمحاولة لفهم معاداة بوتين لهما دعونا نقرأ ماحدث في العالم وفي روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 . اتى ذلك بخروج 15  دولة جديدة من تحت جعبة الاتحاد، أضافة لسبع دول اوربية صغيرة ومتوسطة وكبيرة من نفوذه ، اي ولادة 22 دولة جديدة ، كانت سابقا تمثل محورنفوذه وقوته الأقتصادية والدولية، اصبحت جميعها مستقلة عن روسيا ، وكل منها يختار طريقه بحرية. ولكون الغرب ، غريم الاتحاد السوفياتي سابقا،  كان قويا ومتماسكا ومتطورا اقتصاديا ويمتع باستقرار سياسي وبأنظمة ديمقراطية وحريات، فهذه جعلتت يتمتع بنفوذ فكري  وثقافي واقتصادي دولي وشعبي ، ومنه توجهت هذه الدول جميعها منذ بداية التسعينات لتبني نموذج الليبرالية حالمة بالحريات وبالرفاه الاقتصادي والأجتماعي مثلما تتمتع بها شعوب الغرب.
    ويمكن الفرض واقعيا ان هذه الشعوب في 22 دولة جديدة شكلت مع جيرانها الغربية مايمكن تسميته نموذج " الأممية الليبرالية " ، أو ماهو معلن وقائم اليوم " ألأتحاد الأوربي"  البديل التي رأته الأفضل لها مما عاشته خلال النموذج السوفيتي بنموذج "الأممية الأشتراكية " . أي بعبارة أشمل جعل نظم اوربا الاقتصادية والسياسية  الليبرالية " نموذجا أمميا" ، تستفيد منه كل الأمم والشعوب متخذة من نماذج طبقها الغرب واثبت نجاحها، ومنه ولد مصطلح العولمة الذي اشير له اعلاه.
    والواقع ان هذا النموذج بقدر ماهو "تقدمي" و"حضاري" يحمل في داخلهالعدو الفكري : حيث تقف ضده النظم القومية والدينية والديكتاتورية عموما باعتبار انه يقوض اسس حكمها ويشكل تهديدا عليها ،ولعل نظما مثل كوريا وايران ، تلتها الصين وتركيا اردوغان وروسيا زمن بوتين ، وغيرها مثل دولنا في الشرق الاوسط ، وجدت انها تمثل تهديدا مباشرا لأنظمتها ولاسس وطريقة حكمها، ورأت ان هذه العولمة السياسية الليبرالية ا تشكل تهديدا لها، وان الغرب هو من يقف وراء تحريك ومطالب الجماهير بالحريات ويستخدم الليبرالية والحريات والديمقراطية كادوات لقلب انظمة الحكم فيها، ومنه زادت هذه الدول تصلبا وقمعا في مواجهة الحركات الجماهيرية المطالبة بالحريات والليبرالية السياسية ( ربما كان قمع الأحتجاجات للطلبة الصينين بالدبابات في ساحة تيان ان مين عام  1989 اول رد قمعي مباشر وبالدبابات على ماسمته السلطات تأمر واختراقات الغرب لقلب نظامها )، ومن تاريخه صارت هذه وغيرها من الدول ترى ان اية مطالبة بالحريات واصلاح انظمة الحكم  وجعلها ديمقراطية هي ليست حركات ومطالب شعبية ،بل تآمر غربي ، واصبحت عندها تهمة جاهزة لأستخدام القوة لقمع الحريات وللمطالبين بنموذج حكم وطني ليبرالي ، ومنها في بلداننا مثلما جرى في سوريا وفي العراق في انتفاضة عام 2019 وقمع الانتفاضة الشعبية في ايران مؤخرا.
    ولكن العداء القومي للعولمة الليبرالية الفكرية اخذ ينمو خارج هذه الدول الديكتاتورية ، حتى داخل اوربا نفسها وحتى في اميركا وبريطانيا ، حيث اعتبره القوميون والمحافظون الدينيون تهديدا للثقافات القومية والتقاليد في دولهم ومجتمعاتهم ، ومنه وجد بوتين فيهم حلفاء ايضا ، وفعلا رأينا صعود هذه الحركات وسيأتي يوما نجد فيه تحالفا واسعا بين دول واحزاب وحركات تحت " الأئتلاف القومي لحفظ التقاليد" مثلا ،أو أي مسمى اخر.
    في فبراير عام 2007 اعلن بوتين رسميا في مؤتمر الأمن في ميونيخ  ، وأمام بوش وميركل وساركوزي وتوني بلير وعشرات من قادة الدول الاوربية غيرهم انه لن يقبل بهذا النظام الجديد بعد اليوم ، وان روسيا لم تر منه غير تحجيم مصالحها ونفوذها ،وان الغرب باسم الديمقراطية والحريات يهدد الامن القومي وتهديد نظم حكمها ( ويقصد نظام حكمه  بلا شك) .
    وفي عام 2008 قام بغزو جورجيا التي وصل رئيسا مواليا للغرب الى حكمها،  فقام بوتين باحتلال اقليم ابخازيا الذي يمثل 20 بالمئة من مساحتها ، وفي نفس العام جاء تصريحه مباشرة ونشر واسعا من مكالمته لجورج بوش " أن اوكرانيا ليست دولة حقيقية بل هي جزء من روسيا التاريخية " ، ومنه اعتبر ثورة الميدان تآمرا غربيا واحتل القرم وانشأ ميليشيات في شرق اوكرانيا. ان منهجه في اقامة حلف قومي واسع لمجابهة الليبرالية قد احرز فعلا نجاحات هامة في صعود الجناح القومي والديني اليميني خصوصا في اميركا ( مع صعود ترامب للرئاسة ) ونمو نفوذ احزاب اليمين القومي في اوربا ، بمشترك واحد هو لمجابهة العولمة والليبرالية ، كخطر على الثقافات والمصالح القومية والتراث والدين والتقاليد، وكذلك علاقاته الوطيدة والتحالف مع نظم  مثل اية الله واردوغان والصين.
    ان قرار غزوه لأوكرانيا قد اتى ربما لأحساسه بانه حتى الحلف القومي العالمي لايأتي في تحقيق نتائج سريعة وقد وصل عمره السبعين ،مما دفعه للتسريع وللانتقال الى فعل على الارض بشن الغزو على اوكرانيا ، فالحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل حارة عندما تفشل الوسائل الباردة في تحقيق اهدافها ، كما تقول به العلوم السياسية.
    ان شن هذه الحرب هو دون شك نتيجة لفشل السياسات الاقتصادية والداخلية للرئيس بوتين وفشل نموذجه  لتحويل روسيا الى دولة عظمى ، ومنه تم تحويل معاركه الداخلية الى معارك خارجية توجت في غزوه لأوكرانيا عام 2022.
    يتبع في الجزء القادم قراءات في النتائج المحتملة لهذه الحرب وتداعياتها وتأثيراتها المستقبلية.

    د. لبيب سلطان
    20/02/2023
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media