المعارضة اخيراً في البرلمان في العراقي؟
    الثلاثاء 14 مارس / أذار 2023 - 12:27
    د. عقيل عباس
    أستاذ جامعي
    في إطار سعي القوى السياسية التقليدية المهيمنة في العراق الغاء الإنجاز المؤسساتي الأهم الذي حققته حركة الاحتجاج التشرينية، برز سلوك جديد لافت في المعارضة البرلمانية الفاعلة تصدره نواب تشرينيون بالتعاون مع نواب آخرين. إذا تطور هذا السلوك ليصبح ظاهرة، فسيكون هذا إضافة تشرينية مهمة تساهم في الاصلاح السلمي للنظام السياسي من داخله وعبر أدواته.

    هذا الإنجاز التشريني المؤسساتي هو قانون الانتخابات رقم 9 لعام 2020 الذي تحقق بسبب ضغط حركة الاحتجاجات الواسعة في 2019- 2020. بعكس القوانين الانتخابية السابقة التي صُممت لصالح الأحزاب الكبيرة ذات النفوذ في مؤسسات الدولة الممتد حتى في داخل المؤسسة المختصة بإدارة الانتخابات، المفوضية العليا للانتخابات، أدخل هذا القانون معايير شفافية أعلى في التصويت وكيفية حساب الأصوات وفي سرعة إعلان النتائج وتقسيم المناطق الانتخابية (حتى مع بعض التلاعب السياسي في هذا التقسيم لصالح الأحزاب الكبيرة). فمثلاً اشترط القانون التصويت الإلكتروني وإعلان النتائج الأولية خلال 24 ساعة وربط النواب بجمهورهم الذي ينتخبهم مباشرةً في مناطق محلية صغيرة نسبياً يستطيع ان يتنافس فيها المرشحون الذين لا يمتلكون قدرات مالية كبيرة ولا مكائن انتخابية منظمة ومتطورة، كما هو حال الأحزاب الكبيرة والممولة جيدا.

    ظهرت أهمية هذا القانون في انتخابات أكتوبر 2021 المبكرة إذ لم تستطع الأحزاب التقليدية الكبيرة والممولة جيداً أن تحقق أعداد المقاعد الكبيرة التي اعتادت عليها في الانتخابات السابقة، فيما استطاعت شخصيات تشرينية وأخرى مستقلة ان تفوز بمقاعد برلمانية رغم امكانياتها المالية المتواضعة. كان يمكن لخسارة الأحزاب التقليدية أن تصبح أكبر بكثير لصالح القوى الجديدة من تشرينية وغيرها لولا المقاطعة الشعبية الكبيرة للانتخابات.

    تسببت نتائج هذه الانتخابات بأزمة حقيقية وعميقة للأحزاب التقليدية الأشد خسارة فيها٬ الأحزاب الإسلامية الشيعية التي تصدرت الحكم منذ 2005. بسرعة لافتة٬ فَعَّلَت هذه الاحزاب مظلة برلمانية كانت شكلتها في بداية 2021 لغرض مختلف يتعلق بالتنسيق البرلماني بينها وليس لخوض الانتخابات٬ هي "الإطار التنسيقي" لتخوض هذه الأحزاب عبر هذه المظلة معركةً شرسةً وصعبةً ضد خصمها الجديد، التيار الصدري، المنسحب من الإطار التنسيقي، الفائز بالانتخابات والمطالب بحكومة أغلبية تقصي معظم هذه الاحزاب من مواقع السلطة والنفوذ والموارد. في آخر المطاف انتصرت هذه الأحزاب في هذه المعركة واستعادت صدارتها للسلطة، لكن في ظروف مختلفة. اجتمعت سريعاً الاحزاب التقليدية الأشد خسارة في هذه الانتخابات أحزاب الإسلام السياسي الشيعي التي تصدرت حكم البلد منذ 2005.

    الآن وبعد أن تجاوز الإطار التنسيقي أزمة الفشل الانتخابي لأطرافه المختلفة واحتمالات فقدانه السيطرة على مقاليد الحكم، واستطاع في سبتمبر 2022 تشكيل تحالف برلماني، هش عموماً، مع القوى التقليدية السنية والكردية تحت تسمية "تحالف إدارة الدولة" مستفيداً من انسحاب التيار الصدري من البرلمان والحياة السياسية، انتقل جهد الإطار للتخلص من القانون الانتخابي الذي ساهم بفشله في صناديق الاقتراع وأزمته السياسية التالية. من هنا، سعي الإطار التنسيقي تشريعَ قانون انتخابي يعيد بعض أهم خصائص القوانين الانتخابية السابقة التي ساعدته على الفوز بمقاعد أكثر في الجولات الانتخابية بين عامي 2005 و2018. الأهم بين هذه الخصائص هي ثلاثة: الأولى هي توسيع الدائرة الانتخابية إلى أقصى ما يمكن كي تستفيد هذه الاحزاب من امكاناتها المالية الضخمة ومكائنها الانتخابية الكبيرة والمنظمة وشخصياتها المعروفة التي تزداد فرصها الانتخابية باتساع الرقعة الجغرافية التي تغطيها الانتخابات. الخصيصة الثانية، هي الترشح بقوائم حزبية بمعنى قدرة الناخب على التصويت لحزب معين أو شخصية فيه، في العادة رئيسه. التصويت لقائمة حزبية أمر شائع وطبيعي في الأنظمة البرلمانية، لكن المشكلة في العراق هي أن الأحزاب الماسكة بالسلطة لا تستوفي الشروط الضرورية للأحزاب في نظام برلماني ديموقراطي، إذ للأحزاب العراقية الحاكمة أذرع ميليشياوية مسلحة او صلات بمثل هذه الأذرع وتنسيق معها، فضلاً عن افتقار هذه الأحزاب لآلية داخلية لتداول السلطة فيها على أساس ديموقراطي حقيقي، وليس التداول الصوري الذي يجري حالياً. في الأنظمة البرلمانية الديموقراطية الحقيقية، تُمنع مثل هذه الأحزاب من خوض الانتخابات لكن في العراق القوة والنفوذ أهم وأعلى تأثيراً من القانون والعدل، لسوء الحظ. أما الخصيصة الثالثة وربما الأهم هي صيغة حساب الأصوات أو ما يُعرف بصيغة سانت ليغو، على اسم مخترعها عالم رياضيات فرنسي في بداية القرن العشرين (قبل هذا استخدمت هذه الصيغة في أميركا في القرن التاسع عشر). صيغة حساب الأصوات هذه معقدة وتقوم على جمع كل الأصوات التي حصل عليها الكيان أو الحزب السياسي في الدائرة الانتخابية وتقسيمها على القاسم الانتخابي لتحويل الأصوات إلى مقاعد. بالنسبة للأحزاب الصغيرة وذات الامكانيات المالية والدعائية المحدودة، تزداد الصعوبة في الحصول على مقاعد برلمانية كلما ارتفع القاسم الانتخابي الذي تُقسم عليه مجموع الأصوات.

    هذا ما يسعى الإطار التنسيقي لتحقيقه عبر تشريع قانون انتخابي جديد تُدار بموجبه انتخابات مجالس المحافظات المقبلة ليصبح أساساً لإدارة الانتخابات البرلمانية العامة في 2025: قانون انتخابي لخدمة مصالحه السياسية. اللافت أن سعي الإطار هذا ساهم في إنتاج تحالف برلماني واسع نسبيا لمعارضة تشريع مثل هذا القانون، بلغ عدده نحو 74 نائباً (والعدد مرشح للزيادة) ينتمون لتوجهات أيديولوجية وسياسية متنوعة وبعضها يصل حد التناقض. في هذا التحالف حركات ونواب هم تأريخياً جزء من الإطار التنسيقي أو قريبون منه مثل كتلة حقوق التابعة لكتائب حزب الله، ونواب حركة الجيل الجديد الكردية المعارضة لسيطرة الحزبين الكرديين الرئيسيين في إقليم كردستان فضلاً عن نواب حركتي امتداد واشراقة كانون التشرينين ونواب كتلة وطن ذات التوجهات المتنوعة اضافة الى نواب اخرين يُعرفون بالمستقلين. بالتنسيق والاستفادة من حراك شعبي مواز نظم مظاهرات احتجاجية وحملة اعلامية ضد مشروع القانون الجديد، استطاع هذا التحالف البرلماني أن يدفع الإطار التنسيقي إلى تقديم بعض التنازلات المهمة التي تشمل، بحسب تسريبات مختلفة، إلغاء تصويت الخارج الذي يكثر فيه عادة التزوير وتستفيد منه الشخصيات والاحزاب المتنفذة، وتخفيض القاسم الانتخابي الى مستوى يبقي فرص نجاح للأحزاب الصغيرة وغيرها من التنازلات التي ما يزال يدور النقاش حولها.

    من الصعب الآن الجزم بالمحتوى النهائي لمشروع القانون الذي سيصوت عليه البرلمان. لكن من المهم أن يحافظ القانون الجديد على بعض المكاسب التي تحققت عبر القانون السابق وتطبيقه الناجح في انتخابات أكتوبر 2021 كما في الإصرار على التصويت والفرز والعد الالكتروني وإعلان النتائج الأولية في خلال الأربع والعشرين الأولى ورفض السماح بوجود مراكز تدقيق انتخابية تذهب إليها صناديق الاقتراع من "أجل التدقيق" بعد نهاية التصويت. تسد هذه الإجراءات معظم أبواب التزوير واحتمالات التلاعب بالاصوات. حتى صيغة سانت ليغو الحسابية لن تؤثر كثيراً في نتيجة الانتخابات إذا طبقت هذه الإجراءات وخُفض القاسم الانتخابي إلى ⅙ او ⅕ وليس القاسم الحالي العالي المقترح من الإطار التنسيقي 1/9 أو 1/11. أياً تكن النسخة النهائية من القانون٬ تبقى قدرة قوى برلمانية مختلفة في توجهاتها، لا ينتمي معظمها للبنية التقليدية للسلطة الحاكمة، على التنسيق بينها، وإن على نحو غير مباشر أحياناً، لإجبار الأحزاب التقليدية المهيمنة على التراجع عن بعض مواقفها وتعديل خططها، أمر واعد ويشي بنضج سياسي وبرلماني للنواب التشرينيين والمستقلين والحركات الصغيرة.

    يسود كثيراً بين معظم الجمهور العراقي، وبينهم المتعاطفون مع تشرين، فهم عاطفي لدور البرلماني يقوم على مبالغة كبيرة في التوقعات واستعجال هائل في النتائج. يختصر هذا الفهم العاطفي التساؤل الشائع للبرلمانيين والقائم على استهزاء ضمني "شنو اللي قدمته؟" الذين يسألون هذا السؤال بنبرة الاستخفاف الضمنية فيه لا يفهمون جيداً طبيعة العمل البرلماني الذي هو عادةً عمل بطيء لا نتائج سريعة ومباشرة له ويحتاج النجاح فيه الكثير من الصبر والمتابعة والتنظيم والمرونة المستندة كلها على وضع الأولويات المناسبة والقابلة للتحقيق ثم بناء التحالفات لدعم تحويل هذه الأوليات إلى وقائع. الجهد الذي بذله البرلمانيون المعارضون لمشروع القانون الانتخابي الذي يتبناه الإطار التنسيقي هو مثال على معنى النجاح، وان كان محدوداً، في العمل البرلماني. التنظيم والمواظبة المفضي إلى التراكم هما مفتاح النجاح في البرلمان. هذا أيضا يحتاج صبر الجمهور ووعيه ومواظبته في المتابعة وابتعاده عن الاندفاعات الشعبوية والعاطفية.

    "سكاي نيوز عربية"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media