رمضان كريم والمتسولون أكثر
    الجمعة 24 مارس / أذار 2023 - 19:01
    عادل نعمان
    كاتب وإعلامي مصري
    والعلاقة وطيدة بين الاستجداء الذى نشاهده على القنوات التليفزيونية وما نسمعه عبر الإذاعات ونقرؤه فى الصحف ويطاردنا أصحابه على التليفونات من الجمعيات الخيرية والمراكز الطبية وكفالة الأيتام والغارمات وإفطار صائم وكرتونة رمضان، وبين هذه الأمواج الهادرة من المتسولين التى تتزايد وتتكاثر فى شهر رمضان وتملأ الشوارع والأزقة والنواصى والميادين والأسواق حتى غطت شوارعنا صور القبح وشوهت وجه ما بقى من جمال ورثناه.

    صفوف متراصة من الشحاذين بطول الشوارع والميادين، إعلانات عن مشروعات خيرية مختلفة على الشاشات والشوارع بالملايين، ولا حسيب ولا رقيب عليها، صناديق النذور والتبرعات لبناء المساجد لا علم لأحد فيما أُنفقت!. وطالما زاد التسول على الشاشات فى رمضان زاد وتكاثر تسول الأفراد والمتنطعين أيضًا، حتى تبدو وكأنها سيول جارفة ما لها من فرار.

    وستبقى هذه الظاهرة مادام الموكب والركاب واحدًا، والعجب أنك لا ترى فارقًا بين أن نزج بأطفالنا المرضى ونتاجر بآلامهم وأوجاعهم ونكشف سترهم وطفولتهم البريئة دون احترام أو خصوصية، أو نعرض نساءنا يتضورن جوعًا ويتسولن على الشاشات دون خجل أو حياء للمزيد من التبرعات، وبين أن يستعرض المتسولون بضاعتهم الرخيصة على عيون الغريب والقريب طمعًا فى استجداء عطفهم والقليل من أموالهم، فلا عجب ولا غرابة أن يتعلم الصغير من الكبير.

    والناس فى بلادى بارعون ومحنكون وماهرون إذا كان الباب الوحيد للرزق هو العمل، ودونه كل المنافذ مغلقة، ومجتهدون ومداومون ومواظبون إذا أحكمنا الأبواب وسددنا الثغرات والفتحات وكان المجال متاحًا ومسموحًا فيه بالعلم والاجتهاد والخبرة ليس غير، وهم أيضًا متحايلون إذا فتحنا ثقبًا أو خرم إبرة صغيرًا للفوضى والفساد والاستهتار، فهم يصبرون عليه وينحتون حوله حتى يتسع الخرق ويلج الجمل فى سم الخياط بقدرة قادر، وتتمادى هذه الفجوة والنقرة كل يوم وتتسع فتصبح شارعًا وحارة واستراحة للعابرين.

    فهذه إشارة المرور يشارك رجالها المتسولون والشحاذون مع ألوانها الثلاثة، مَن تحمل طفلًا مخطوفًا يبكى ويتضور جوعًا، وأخرى تجر زوجها المشلول يترنح يمينًا ويسارًا فى براعة وبلاهة منقطعة النظير، وأخرى تسحب فى ذيلها أطفالًا فى عمر واحد وبطن واحدة، رثة ثيابهم، نحيلة أجسادهم، يتضورون جوعًا، لزوم الحبكة الدرامية للتسول النشط الذكى.

    والاختراعات والابتكارات تتوالى كل يوم بمقدار حبكة ولعبة التسول على الشاشات، فهذا شيخ يدعونا إلى التبرع للغارمات، وآخر لتوصيل الأكل والشراب إلى الفقراء، وآخر لتوصيل المياه إلى القرى والبيوت الفقيرة، ومادام ليست لدينا رقابة جادة على الهيئات والمؤسسات والمشروعات الخيرية فلا مانع أن نترك شوارعنا لجحافل المتسولين تبرطع كيفما شاءت.

    ولأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق، فإنها تغريها وتزين لها سوء عملها، وقلة رزقها، وتحثها على الانتماء إليها واتباعها منهجًا وسبيلًا وطريقًا للثراء والاستغناء، وإغراء البسطاء بالإعفاء والعفيفات بالانضمام إلى حشود المتسولين فيستجيب الكثير لهذا الإغراء، ويقبلون الانضمام إليه إذا كان بابًا للرزق دون جهد أو عمل أو شرف.

    يكفى فقط أن يخلع المتسول برقع الحياء والخجل، مع دهان من السماجة والغلاسة والتباتة والرزالة فلا يؤثر فيه صد أو وخز أو أعراض أو زجر أو توبيخ، مع تصنُّع المرض أو ادعائه سواء كان مرضًا ظاهرًا أو خللًا عقليًّا، أو استئجار طفل مريض شاحب الوجه معاق أو سرقته، مع تمثيل متقن للبؤس والأسى والضياع، مع الكثير من الإلحاح واللزوجة، هذه المؤهلات والخبرات كفيلة بأن يلين لها الحديد وترق لها القلوب وتستجيب لها الجيوب.

    ولا يظن أحد أننى أنكر أن من المتسولين مَن ضاقت عليه أبواب الرزق وأُغلقت أمامه السبل، ولا أنكر أن الأزمة وغلاء الأسعار الذى نعيشه له نصيب مما يعانيه الناس، إلا أن المعالجة محدودة وقاصرة، ولا ترى الحل إلا فى مد الأيدى وتوزيع المنح وكراتين الطعام والمساعدات على الفقراء، دون ترتيب الأولويات وفتح مجالات للعمل والتوسع فى المشروعات الصغيرة فى المناطق الفقيرة ودراسة تجارب الدول فى محاربة الفقر، وأن تتجه المساعدات إلى المحتاجين.

    رمضان كريم وليس مجالًا للإسراف أو التبذير أو التباهى والتفاخر بالبعزقة والبذخ، ولا يصح مطلقًا أن تستنزف الدولة الكثير من إنتاجها فى شهر كان فى الأصل للعبادة والتقرب إلى الله.

    فأصبح شهرًا لاستنزاف موارد الدولة ومدخرات الأفراد، والأَوْلَى أن يكون الطرفان أشد حرصًا على مواردهما، وأن تراقب الدولة هذه التبرعات كافة، وتخضع لجهات رقابية محايدة وصارمة، وأن يتوخى المواطن الدقة والأمانة فى إنفاق صدقاته وزكاته وتبرعاته، ورمضان كريم. «الدولة المدنية هى الحل».

    "المصري اليوم"
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media