بين تورخة البلاط وتورخة العامة
    الأربعاء 24 مايو / أيار 2023 - 14:06
    أ. د. محمد الدعمي
    كاتب ومؤلف وباحث أكاديمي/أريزونا
    واحدة من أبرز أدوات النَّقد التي وظَّفها المؤرِّخون المستشرِقون للنَّيْل من المؤرِّخين المُسلِمين الكلاسيكيَّة، المعروفين بـ»الشيوخ» من أمثال الطبري والمسعودي واليعقوبي وأبو مخنف، هي أنَّ تواريخ المُسلِمين الكلاسيكيَّة كانت (في جلِّها) تواريخ للبلاط وللمعسكر، بمعنى أنَّها تواريخ حُبِّرت بهدف سرْدِ قصص السُّلطة والحروب.
    وإذا كان هذا هو نقدًا واقعيًّا، فإنَّ للمرء أن يعكس ذات النَّقد ضدَّ المؤرِّخين الأوروبيين؛ لأنَّه سلاح ذو حدَّيْن: فقد اقتصر أهمُّ تواريخ أوروبا المعتمدة منهجيًّا على قصص الملوك والأباطرة، زيادة على تتبُّع حكايات الحروب الداخليَّة والخارجيَّة، كالحروب الصليبيَّة. والحقُّ، فإنَّ هذه ظاهرة كونيَّة بقدر تعلُّق الأمْرِ بطلَّاب أقسام التاريخ وباحثيه الشَّباب؛ لأنَّ قصص الفقراء، من عاملين وحرفيين ومكافحين ومتمرِّدين لا تستهويهم بقدر ما تستهويهم قصص الصراعات السياسيَّة والمناكفات الحزبيَّة التي ترمي إلى الاستيلاء على السُّلطة في نهاية المطاف. لذا، اعتمد العقل الأوروبي حكايات نصف خرافيَّة/خياليَّة ونصف واقعيَّة، حكايات أشْبَه ما تكُونُ بحكايات من (ألف ليلة وليلة) و(الأغاني) و(مقاتل الطالبييـن) من بَيْنِ أعمال أخرى.
    وعليه، ذهب النقَّاد الاشتراكيون إلى أنَّ جوهر التاريخ هو «تاريخ العمل» والعمَّال وسواهم من طبقات الفقراء الذين يصنعون التاريخ الحقيقي من خلال قصص الجنود المجهولين الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة دُونَ أن يسجِّلَ المؤرِّخون أسماءهم أو حِرَفهم، وهكذا تذهب قصصهم في مهبِّ الريح (هواء في شبك)!
    لذا، يمكن للمرء أن يقدِّم سؤاله الأهمَّ للقارئ: هل يكمن جوهر التاريخ في قصص الصراع على السُّلطة؟ أم في معاناة العاملين الحقيقيين الذين يكدُّون ويكافحون من أجْل لقمة العيش؟
    والحقُّ يقال، فإنَّه ليس من العدالة أن يطمس المرء حقائق تطوُّر حركة التورخة بَيْنَ بغداد والكوفة والبصرة في العصر الذهبي، العباسي، إذ تطوَّرت الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة على نَحْوٍ مطَّرد حتى بلغت الأوجَ حسب المعايير العالميَّة حقبة ذاك. لذا، طفَتْ على السَّطح الثقافي التواريخ المتخصِّصة: مِثل تواريخ المُدن والبُلدان وتواريخ المِهن والصناعات، بل وحتى تواريخ الأفراد (السِّيَر)، خصوصًا سِيَر المُبرزين من أهل الشِّعر والسياسة والحَلِّ والعَقْد. وهنا، تفوَّقت حركة التاريخ والتورخة العربيَّة الإسلاميَّة على نظيراتها الأوروبيَّة والعالميَّة؛ لأنَّ الأخيرات بقيَتْ حبيسة بَيْنَ البلاط والمعسكر.

    أ.د. محمد الدعمي
    كاتب وباحث أكاديمي عراقي
    © 2005 - 2023 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media