القوانين الثلاثة لبناء الدول المعاصرة والامم الناجحة
    السبت 3 يونيو / حزيران 2023 - 09:33
    د. لبيب سلطان
    أستاذ جامعي/ كاليفورنيا
    مقدمة 
    يتم اشتقاق القوانين في العلم الطبيعي من دراسة الظواهر بدءا من وضع الفرضيات النظرية واجراء تجارب لفحص مدى امكانيتها في رسم حركة وعلاقة مكوناتها وصياغة القوانين من تلك الفرضيات الناجحة فقط من خلال التجربة .ومن الناحية النظرية لايوجد هناك فرقا بين العلوم الطبيعية والاجتماعية وحتى الاقتصادية والسياسية في منهج دراسة وقنونة الظواهر. الفرق الوحيد هو ربما امكانية اجراء تجارب العلوم الطبيعية مختبريا وفي حالة فشلها فان اضرارها تكون مادية ومحدودة .بينما يتميز العلم الاجتماعي بصعوبة اجراء تجاربه الاجتماعية لاثبات صحة او خطأ هذه الفرضية او تلك ، حيث تكون حياة الانسان نفسه او المجتمعات معرضة للخطر ،وحتى للكوارث في حال تطبيق هذه الفرضيات ويتم فشلها . واذا كان خطأ تطبيق الفرضية في العلوم الطبيعية يؤدي لتدمير مختبر، والطبية لموت انسان او مجموعة من الناس تحت التجربة، فخطر الفرضيات والنظريات والاطروحات السياسية والاقتصادية والايديولوجية عند تطبيقها ربما يؤدي لتدمير دولا ومجتمعات، ومن هنا تأتي اهمية التجارب الاجتماعية التي تقوم بها الدول والمجتمعات الاخرى ، وهي صنفان : صنف نجح ونجا ،وصنف فشل فدمر ومحا. 
    ان الامثلة والتجارب الناجحة و الفاشلة على مدى القرن الماضي على الاقل كثيرة ومتنوعة وليس اخرها تجارب الحكم القومي النازي في المانيا وبلدان اوربا بداية القرن الماضي، وتجارب الماركسية الاشتراكية السوفياتية، وتجارب الفكرة القومية العربية التي دمرت كيانات اربعة دولا واربع مدنا كانت عامرة على مدى التاريخ ( بيروت وبغداد والقاهرة ودمشق)، وليس اخرها نموذج الدولة الدينية المعاصرة في جمهورية ايران الاسلامية اليوم، وغيرها من التجارب الفاشلة في العالم. 
    والحقيقة لم تنجو دولة او مجتمع في العالم من التجارب الفاشلة والناجحة في تاريخها ، وكانت اوربا تحديدا هي ميدان اكثر التجارب فشلا كما كانت هي ميدانا لاكثرها نجاحا في العصر الحديث، ومنها فدراسة وتحليل تراثها وتجاربها السياسية والاجتماعية والاقتصادية له اهمية بالغة . فما فشل فيها تم فشله في المجتمعات الاخرى في العالم (كما ثبت منها في عالمنا العربي مثلا) ومانجح فيها قد تم نجاحه ايضا في بقية العالم. 
    ان المجتمعات مشتركات كون مكوناتها والعوامل التي تلعب دورا هاما في حياتها ونشاطها وتطورها تكاد تكون تقريبا واحدة او متقاربة ، هذا رغم عوامل الاختلاف الثقافية والتاريخية والبيئية مثلا. فالانسان في استراليا يعمل ليعيش ويعيل عائلته كما هو في حال الانسان في الكونغو الاستوائية وحاله في ماليزيا والمانيا واميركا، وبالتالي فكينونته وتنظيم امور مجتمعه ومعيشته تكاد تكون محكومة بنفس القوانين. ولا عحب ان قلنا ان بعض هذه القوانين هي مثل قوانين نيوتن في الفيزياء، تصح في كل مكان وزمان . ويوجد نظيرا لها اليوم قوانين في تنظيم الدول والمجتمعات والاقتصاد كونها مرت بالتجارب واثبتت نجاحها في اكثر من مكان واكثر من مجتمع ، واصبحت مايمكن تسميته " قوانين هندسة بناء نظم الدول والمجتمعات". والدليل على عمومية تطبيق هذه القوانين في مختلف ان دولا مثل اليابان الاسيوية الشرقية الثقافة تحكمها تقريبا نفس قوانين ادارة الدولة والمجتمع والاقتصاد في المانيا الاوربية الغربية اليوم، مع العلم ان كلا البلدان قد خضع لتجارب وطروحات وفرضيات فاشلة من الفكر والحكم القومي وادى لنفس الكوارث فيهما في القرن الماضي. 
    ان دراسة وتحليل التجارب الاوربية الناجحة، والتجارب العالمية الاخرى مثل الاميركية واليابانية والكورية، يشير الى امكانية استخلاص بعض القوانين الاساسية في هندسة بناء الدول والمجتمعات الناجحة، وبعض هذه القوانين يعود بتاريخ فرضياته وتجاربه الى عدة قرون، وثبت نجاحه . 
    ولو اريد استخلاص وصياغة قوانين للطروحات والفرضيات التي تم تجربتها وثبت نجاحها في اوربا وغيرها من الدول، فربما من اهمها هي ثلاثة قوانين ، وربما اكثر من ذلك ، وأرى انها ايضا شبه تلخيص لجوهر الحضارة الاوربية وتجارب الغرب ومفاهيمه ومناهجه في بناء الدول القوية والمجتمعات الناجحة . 

    1.القوانين الثلاثة

    القانون ألأول: لاعقائدية الدولة وفصلها عن الايديولوجيات الدينية والوضعية
    ان هذا القانون يقيم العلاقة بين الدولة والعقيدة ويقول على الفصل اللازم بينهما.
    ان الدول المعاصرة اليوم هي دولا وطنية فقط ، فهي ليست عقائدية ولا ايديولوجية. انها تعني بتنمية الهوية الوطنية المشتركة والمساواة بين مواطنيها والحفاظ على المصالح الوطنية والسيادة على ارضها.  فهي لاتتبنى ولاتفضل عقائد جزء من مواطنيها على الجزء الاخر، ولا تجعل اجهزتها تنحاز لهذه العقيدة او تلك تطبيقا لمبدأ المساواة في المواطنة.الذي فرض عليها وعلى اجهزتها الحيادية تجاه عقائد وايديولوحيات مواطنيها. ان الحيادية وابعاد اجهزة الدولة عن الايديولوجيا هي اهم قوانين بناء الدول المعاصرة واهم اسباب قوتها ونجاحها واستقرارمجتمعاتها. ولعب منهج العلمانية السياسية (بشكلها التاريخي بفصل الدولة عن الدين ، والمعاصر  بفصلها عن كافة العقائد بما فيها  الدينية والفكرية الوضعية) ،والذي تطورعلى مدى ثلاثمائة عام على الاقل من تاريخ اوربا المعاصر، قد لعب دورا اساسا وهاما في الوصول لما يمكن اليوم اطلاق عليه "لاعقائدية الدولة المعاصرة"  والذي نراه  مكرسا عمليا ، ومقنونا ، في دساتير وقوانين وسياسات دول اوربا والغرب واغلب دول العالم المعاصر الناجحة والمستقرة. 

    القانون الثاني: وضع الديمقراطية الاجتماعية سقفا على السياسية 
    يقوم هذا القانون على وضع الديمقراطية الاجتماعية سقفا اعلى وحاجزا امام اي تطاول من ممارسة حق الحكم وفق الديمقراطية السياسية والحكومات التي تأتي بها. فهو يضع حاجزا فوق صلاحياتها يمنع خرق مقومات الديمقراطية الاجتماعية مثل احترام الحريات والحقوق الاساسية للمواطن وحرية الاعلام والصحافة وحرية الفكر والرأي والمساواة في المواطنة واحترام الحقوق المدنية وعدم التمييز سقفا على ممارسة  الحكم والسلطة لعموم المجتمع وفق حق الاغلبية في اختيار وانتخاب من يحكم المجتمع ويقوم على ادارة شؤونه . ان الحق في تاسيس الاحزاب والتجمعات السياسية والايديولوجية واختيار من يشكل الحكومات ومن يحكم وفق الاغلبية  والتداول السلمي للسلطات هي من اسس الديمقراطية السياسية في المجتمعات المعاصرة. ولكن مقابل هذا الحق للاغلبية في الاختيار عبر الانتخاب للادارة والحكومة وممارسة السلطة التنفيذية ،هناك هذا السقف الاعلى عليها الذي لايمكنها تجاوزه. انه سقفا اقامته الدول العصرية المتحضرة لتكون سلطة الدولة في المساواة بين مواطنينها اعلى من سلطة الحكومات المنتخبة ، وثبتته في الدساتير وقوانين الدولة لحماية الحقوق والحريات لمواطنيها لكفالة المساواة بينهم. ان الديمقراطية الاجتماعية تسمح  للافراد بممارسة حقوقهم في تشكيل الاحزاب التي تمثل عقائدهم ،ذات الجذور الفكرية والايديولوجية المختلفة ، وتسمح الديمقراطية السياسية في تشكيل الحكومات والسلطات وفق الفوز بالاغلبية ، ولكنها لا تستطيع التفرقة او التمييز بين المواطنين في عمل هذه الحكومات وسياساتها ، وتكون اجهزة الدولة والصحافة ومنظمات المجتمع المدني والبرلمان رقيبا والقضاء حاكما عليها، حيث ان هذه الدول تقوم على فصل واستقلالية مهام السلطات الثلاث كي لايترك الامر للحكومات المنتخبة  في اساءة استغلالها للسلطة.
    ان الدولة هنا تطبق مبدأ العلمانية الاجتماعية "منع التمييز بين مواطني الدولة على اساس العقائد والجنس والانتماء الطبقي او العرقي او القومي" وهو المبدء الذي ولد من العلمانية السياسية بفصل الدولة عن العقائد ونتيجة له ، وعلى هذا المبدأ ، اقيمت القوانين الداعمة لعدم التمميز في المواطنة وللمساواة في الحقوق والحريات ، وهي التي اصبحت تدعى اليوم الديمقراطية الاحتماعية لتكون سقفا اعلى على السياسية.
    والملاحظ ، وبسبب هذا السقف ان الاحزاب السياسية اليوم اضحت لا تتبارى على اسس ايديولوجية عقائدية تمييزية، بل على  برامج خدمية واقتصادية في تحسين الادارة والمعيشة  لكل السكان. ولعل ملاحظة ان فوز حزب محافظ يميني او اخر متحرر يساري في اميركا او دولة اوربية مثلا لن يغير من سياسات هذه الدولة والحكومة تجاه مواطنيها ، بل تجده غالبا ذو تأثيرات جانبية ومحدودة جدا غالبا لاتمس الحقوق المُقَرّة قانونا.
    وتضع كافة الدول المعاصرة مبدأ المحاسبة والشفافية واستخدام المال العام ومنع التمييز في الخدمة العامة سقوفا قاسية اخرى امام الحكومات والسلطات المنتخبة كي لاتمارس سلطتها في التمييز وفق العقائد في الخدمة العامة مثلا. وتمارس اجهزة الدولة صلاحياتها القانونية لمحاسبة كافة مستويات الحكومة المنتخبة على اية خروقات للحريات اوالتمييز اوسوء استغلال المنصب وادارة للمال العام ، وتعمل الصحافة الاعلام الحر كسلطة رابعة في كشف اية ممارسة لها ويقوم الادعاء العام الذي يمثل الشعب والمواطن بملاحقتها  ومحاسبتها على اي خرق. ان سقف الديمقراطية الاجتماعية على السياسية لموازنتها وعلى ممارسات السلطات المنتخبة تشكل اليوم احدى اهم اسس الادارة الديمقراطية المتوازنة للدول والمجتمعات المعاصرة. والموازنة هنا هي حق الاغلبية في الحكم مقابل احترام حقوق وحريات جميع المواطنين ومنع السلطات المنتخبة من التمييز بينهم.

    القانون الثالث:  موازنة الاقتصاد الحر والدولة الضريبية 
    تتبارى الدول بقدراتها الاقتصادية ، كما وتتبارى الاحزاب داخل هذه الدول على برامج اقتصادية واثبات قدراتها على تنميته وتطويره وتوفير فرص العمل اكثر من مباراتها على طروحاتها الايديولوجية . وتضع الدول المعاصرة اليوم جل اهتمامها وجهدها وعملها وموظفيها على تطوير وتنمية الاقتصاد والثروة العامة والرفاه الاجتماعي لمواطنيها. ان الايديولوحية الحقيقية للدول المعاصرة اليوم هي ايديولوجية تطوير الاقتصاد لاغير، فبتقويته يتم تقوية الدولة وتطوير المجتمع وزيادة رفاهه . لقد اختفى عمليا من المسرح تقريبا نموذج الدولة الايديولوجية وفق احد العقائد المعروفة ( دينيا او قوميا او طبقيا او غيرها) وذلك عائدا لفشلها اقتصاديا ، لقد اضحت المجتمعات البشرية تعرف اليوم  ان الدولة الناجحة اقتصاديا هي الدولة الصالحة فالنجاح الاقتصادي يعني توفير ظروف ومتطلبات العيش الكريم لمواطنيها وضمان مستقبل اجيالهم. ان التطور الاقتصادي هو الأعلى وألأهم في سياسات وادارة الدول المعاصرة، فعليه يعتمد تطورالقطاعات الأخرى كافة، الخدمية والاجتماعية  والتعليم والصحة والثقافة والبيئة وتطوير البنى التحتية ، وتوفير فرص العمل وتطوير قدرات ومعارف ومهارات مواطنيها ، اي تطوير قدرات المجتمع الادارية والعلمية ، وبنفس الوقت تطوير كفاءة اداء القطاع الاداري والحكومي للدولة  نفسها . 

    ان النموذج السائد اليوم في ادارة الاقتصاد وتطويره في الدول المعاصرة الناجحة قائم على "الموازنة  بين الاقتصاد الحر ونموذج الدولة الضريبية " والموازنة هنا هي بين الحقوق والواجبات وتقاسم الادوار للاطراف الفاعلة في تطور الاقتصاد ونموه. 
    ان الاقتصاد الحر يقوم على ان العملية التنموية الاقتصادية الفعلية تجري في ملئ الفراغات السوقية واستخدام الفرص فيها بتوفر مكونين: الأول هوالطاقة الابداعية والمعرفية والادارية لاصحاب المشاريع، والثاني توفير رأس المال لتمويل وانجاز هذه المشاريع . 
    ان الفراغات السوقية هي في الواقع غير محدودة الفرص والامكانات، والهدف الخاص لكلا المكونين اعلاه في اكتشافها وملئها هو لتحقيق الارباح (وهي اهم اسس نمو ثروات الامم وفق نظريات ادم سميث مؤسس علم الاقتصاد وقوانينه)، ومنه يتم ايضا تحقيق التطور الاقتصادي للدول حيث تزداد قدرات الدولة لتقديم الخدمات للمجتمع بزيادة مواردها من الضرائب التي تجنيها من ارباح طرفي الاستثمار لتمويل البرامج الخدمية والاجتماعية وتطوير البنى التحتية .ان اساس التطور والنمو الاقتصادي قائم على الجهتين الفاعلة في العملية الاقتصادية الاستثمارية  ودور الدولة في نجاحه، فالاولى توفر فرص العمل وصقل مهارات وقدرات المجتمع للقيام بالتنمية الاقتصادية الذاتية، ومنها زيادة القدرة المالية للدولة من خلال الية الضرائب على الارباح في تمويل وتنفيذ برامج عامة للمجتمع ككل. 
    ان الجهتين الخاصتين النشيطتين في العملية الاقتصادية الاستثمارية التنموية (تلك التي تبتكر المشاريع وتقوم على اقامتها وادارتها وألأخرى التي تقوم بالاستثمار لغرض تنفيذها) تسعى للارباح ،وتستفيد منه الجهات العامة ،الدولة والمجتمع معا. والموازنة بينهما تقوم على الشكل التالي: مقابل الحق الخاص في الاستثمار وجني الارباح للجهات المنفذة والمستثمرة ، واجب دفع الضرائب للدولة. ومقابل حق الدولة في جني الضرائب ، فان عليها واجب توفير ظروف نجاح العملية الاقتصادية ومنها الاستقرار الاجتماعي وتطويرالتعليم والصحة والبنى التحتية الجيدة . 
    ومن واجبات الدولة ايضا الاستخدام الامثل للضرائب الباهضة التي تفرضها على الارباح وانفاقها بشكل يلبي مطالب وحاجات المجتمع ككل ( الافراد والشركات معا كونهم هم دافعي الضرائب)، اذ ان هذه الضرائب في الحقيقة هي بمثابة اجور تدفع منهما للدولة وجهازها الحكومي للقيام بوظائفها الخدمية العامة للمجتمع اي دافعي الضرائب لتطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية .

    ان نموذج "الأقتصاد الحر في الدولة الضريبية"  هو الاساس في المنهج الاقتصادي الذي تتبعه الدول المعاصرة الناجحة اليوم، ويسميه الماركسيون " الاقتصاد الرأسمالي"، وهو عكس نموذج "الاقتصاد الاشتراكي" ، الذي يتبنونه ، ويقوم على سيطرة الدولة على النشاط الاقتصادي وعملياته ، فالدولة هي التي تدفع اجور العمل لمواطنيها، بينما المواطنون في النموذج الاقتصادي الحر "الرأسمالي"  هم من يدفع اجورا للدولة ( على شكل ضرائب) لتقوم بوظائفها. لقد قام النموذج" الاشتراكي" على اساس ان الدولة قادرة على تحقيق العدالة للطبقة العاملة بالغاء الجهات المشاركة الاستثمارية في العملية الاقتصادية التنموية لتحل محلهم،  ولكنه فشل فشلا ذريعا من تجاربه اقتصاديا ، وادى سياسيا الى اقامة دولا ديكتاتورية قمعية لتطبيقه، بينما لقي الثاني "نموذج الاقتصاد الحر في الدولة الضريبية"   نجاحا كبيرا في بلدان العالم حتى خارج اوربا الغربية واميركا واليابان وادى الى استقرار نظم الحكم الديمقراطية والليبرالية فيها. ودون الدخول في تفاصيل واسباب الفشل والنجاح فهذه هي خلاصة جميع التجارب الاوربية والعالمية على مدى القرن العشرين تقريبا.

    ان نموذج الاقتصاد الحر والدولة الضريبية يشكل موازنة جيدة بين زيادة قدرات المجتمع الابداعية والادارية الذاتية للقيام بالتنمية الاقتصادية وتوليد وزيادة هذه الثروات، وبين الدولة كجامع للضرائب من ارباح الاستثمارات الاقتصادية لتمويل وتطوير قطاعات وبرامج خدماتها التعليمية والصحية والحضرية والاجتماعية واهمها تقليص الفوارق الطبقية والمعيشية لسكانها ، ومنها تحقيق العدالة الاجتماعية ، اضافة لاستخدامها في تطويرالبنى التحتية للدول .
    ان النمو الاقتصادي في هذا النموذج هو مضطرد ومستدام ومتصاعد من خلال اعادة استثمار الارباح المتولدة الجديدة ، واعادة تحويلها من مدخرات للسكان والشركات في المصارف اوصناديق التقاعد والتوفير وصناديق الاستثمار ، الى استثمار جديد وعمليات وفرص اقتصادية جديدة،  انه يشبه التفاعل التسلسلي في فيزياء انشطار الذرة، فالثروة المتولدة المدخرة تعود للانتاج لتولد ثروة وارباحا جديدة ، ومنها زيادة مضطردة في الموارد الضريبية للدولة لتزيد من قدراتها على توسيع وتحسين خدماتها ، وهذه بدورها توفر ظروفا افضل لعملية النمو والتوسع الاقتصادي المتصاعد الناتج من خلال هذا التفاعل المشترك.
    ولاشك ان اهم متطلبات دافعي الضرائب  هو الاستخدام الافضل والمسؤول للدولة لهذه الضرائب التي تجنيها من نشاط مجتمعها ومواطنيها وشركاتها ، كي تكون اكثر كفاءة وشفافية فهي تُحاسَب على كيفية استخدام ما تجنيه من الضرائب ( وفق برامجها الخدمية المقرة) ومتابعة اين ستصرف وكيف صرفت او تصرف. 
    ان الدول الناجحة عمليا كما نراها في عالمنا المعاصر اليوم هي ليست جهاز حكم وقمع كما كان مفهومها تاريخيا ، بل ان اغلب مهامها منحصر كجهاز لادارة جني الضرائب وادارة تخطيط وتمويل تنفيذ برامج الخدمات اجتماعية وتطوير البنى التحتية وتوفير الظروف اللازمة للنمو والتطورالاقتصادي ،أي للقيام بواجباتها تجاه دافعي الضرائب، ومنه تحسن اداء وشفافية عمل الحكومات واجهزتها، فهي في الواقع تصبح اجيرة عند مموليها، وهم المواطنون من خلال نشاطهم الاقتصادي. انه النموذج الذي تفتقده اليوم دولنا ومجتمعاتنا العربية.

    2.اهمية القوانين الثلاثة لدولنا ومجتمعاتنا العربية 

    انها ليست فقط الدول الديمقراطية الناجحة في العالم من يأخذ ويسير بهذه القوانين الثلاثة ومنها النموذج الاقتصادي "الرأسمالي "الحر في الدولة الضريبية، بل اخذت به حتى دولا نصف او كامل الديكتاتورية في نظم حكمها ( مثل الصين وتركيا والسعودية ودول الخليج امثلة) ونجحت في احراز تطور اقتصادي متصاعد. وعكسه نرى الدول الريعية التي تعيل مواطنيها من الموارد الطبيعية او من سيطرة الدولة على الاقتصاد ، او كلاهما ،مثلما في مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن والجزائر وغيرها، فهي سارت وتسير من فشل الى اخر سياسيا واقتصاديا ، ووقعت  شعوبها فريسة للفساد البيروقراطي والسلطوي، وتستغل هذه الدول مواردها لاعالة كم هائل من الموظفين ويصاحبها انظمة القمع وغياب الحريات كون الدولة تسيطر على سبل معاش مواطنيها. ويمكن ملاحظة الفرق في نماذج دولنا الفاشلة عن الدول الناجحةحيث تستهلك دولنا الريعية ذات الاقتصاد الذي تسيطر عليه الدولة اغلب مواردها في الميزانيات التشغيلية (تصل 90%) وقليلها في الاستثمار والخدمات ، والعكس في دول الاقتصاد الحر التي تصرف اغلب ميزانيتها ( 90 %تقريبا ) التي تجنيها عادة  الضرائب على الخدمات وتطوير البنى التحتية والقليل جدا ( اقل من 10%) على الادارة التشغيلية الحكومية.

    ان دولنا العربية بحاجة لاعادة بناء كاملة ليتم وفق هذه القوانين المجربة الثلاثة ليقوم على اسسها ، واولى الخطوات في اعادة البناء هو التخلص من الانغلاق الايديولوجي  والتوجه والانفتاح على حضارة العالم المعاصر بدل تشويهه وبث فكر الكراهية والانعزال الذي يقوم به رواد المدارس الايديولوجية الثلاثة (السلفية الدينية والقومية والماركسية) التي يعود لها فشل دولنا اساسا ، فهي تكرر نماذج الفشل التي استخلصتها الشعوب من تجاربها ،وخاصة في اوربا ، وتركت نماذج النحاح فيها ، ومنها اضحت منطقتنا مرتعا لهذه الايديولوحيات ومنها تخلف دولنا ومجتمعاتنا وتراجعها الذي يستمر انحدارا في كافة مجالات الحياة والاقتصاد.

    3.خاتمة ونتائج:
    ان القوانين الثلاثة اعلاه تمثل في الواقع جوهر الحضارة الأوربية والغربية عموما وتعكس تطور مفاهيمها من خلال تحاربها  على مدى قرابة ثلاثة قرون في بناء الدول وتطوير انظمة الحكم والاقتصاد. انها القوانين التي تقف وراء قوة دولها المعاصرة ورفاه مجتمعاتها وقوة ديمقراطياتها وتقف وراء تطورها الأقتصادي والاجتماعي والثقافي، فهي تمثل خلاصة لتجارب متراكمة على طول القرون الاخيرة (الناجحة والفاشلة منها على حد سواء) . 
    ان هذه القوانين المجربة اضحت تمثل اليوم مشتركا بين الامم  وتساهم في  بناء دولها على اسس ناجحة ومتينة ، وزيادة رفاه مجتمعاتها وتطورها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. وقد اضاف نجاح تجارب هذه القوانين في دول اسيوية خارج اوربا مثل الهند واليابان والبرازيل وتركيا وكوريا مثلا ،قيمة انسانية عامة ، مما جعلها قوانين عامة  للتحضر وبناء الدول ونظم الحكم والاقتصاد وتتشارك بها بلدانا مختلفة ثقافيا وتاريخا وجغرافية. انها قوانين واحدة طبقت ونجحت في ظروف وثقافات تاريخية واماكن وازمنة  مختلفة، ونجحت . واستندت الامم خارج اوربا على نجاح تجربتها في المجتمعات الاوربية اولا، لتنتقل منها الى بقية انحاء العالم، ولابد لمجتمعاتنا العربية ان تستفيد منها  لاصلاح واقعها وبناء دولها المعاصرة على اساسها . 

    ان علة دولنا العربية هي في الواقع علتان. الأولى انها لم تأخذ باي من قوانين التحضر الثلاثة اعلاه ، فلا هي اخذت باللاعقائدية في بناء اجهزة دولها، ولابالديمقراطية في نظم حكمها ، ولا بالاقتصاد الحر في تطوير ثرواتها وقدراتها الاقتصادية. اما الثانية فهي تلك الحرب الشعواء الممانعة والرفض لقوانين التحضر اعلاه من التيارات الايديولوحية السائدة والمهيمنة في العالم العربي، وهي اذ تختلف في طبيعة طروحاتها الايديولوحية ( الدينية والقومية والماركسية) ، وجميعها فشلت تاريخيا داخل خارج بلداننا العربية ، ولكنها تلتقي في منطقتنا على قضية واحدة مشتركة : العداء والاستعداء لحضارة اوربا والغرب والعالم وقوانينه ومفاهيمه.

    ان محتمعاتنا العربية ليست استثناء عن العالم ولا يوجد سببا مبدئيا عائقا امام الاخذ بهذه القوانين المجربة الناجحة وتطبيقها للنهوض بدولنا ومجتمعاتنا، فنحن لانختلف عن كوريا او الهند او تركيا اوماليزيا او غيرها، سوى ما ادعوه تلك الحواجز والممانعة الفكرية وثقافة الكره لأوربا والغرب التي تقيمها الايديولوجيات المتعصبة في مجتمعاتنا العربية وتشن حربا عشواء عليها وتعزل مجتمعاتنا عن بقية العالم وتجاربه وقوانينه الناجحة.

    ان اولى خطوات التحرر والنهوض الحقيقي لمجتمعاتنا هو الانفتاح على العالم والاخذ بتجاربه وقوانينه الناجحة المجربة. انها ليست الطروحات والحلول الايديولوجية هي من ساهم في بناء الامم، بل هي كانت دوما سببا في تدهورها ، كما اثبت التاريخ والتجارب في اوربا والعالم ومنه العربي معها، بل عكسه في الانفتاح على العالم والاخذ بما نجح من تجاربه وقوانينه التحضرية اساسا لرسم طريق نهضتنا واعادة بناء دولنا ومجتمعاتنا على اسس رصينة علمية مجربة متينة وناجحة.

    د. لبيب سلطان
    26/05/2023
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media