أ. د. محمد الدعمي
يستلُّ توماس كارلايل Thomas Carlyle (1881-1795) عددًا محدودًا من الأسماء ليطلق عليهم عنوان «الأبطال»، أو «العظماء»، بقصد طرح وتبرير نظريَّته في أنَّ التاريخ الكوني إنَّما يصنعه الرجال العظماء، وليس الغوغاء (بمعنى العامَّة الجاهلة). لذا يبحث كارلايل التاريخ الكوني (أي تاريخ الأُمم العظمى) بوصفه تاريخًا للأبطال الأفراد، أي للرجال العظماء الذين «صنعوا» الماضي وغيَّروا مساراته، فينتقي من بَيْنِ العرب والمُسلِمين الرسول الكريم، محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم)، من بَيْنِ اثنَي عشر بطلًا عالميًّا صنعوا تواريخ العالم، واضعًا شريط قصص وسِيَر الأبطال بعد قِصَّة «البطل نبيِّنا: محمد» في كتابه الفذِّ الموسوم (في الأبطال، وعبادة الأبطال، والبطولي في التاريخ) On Heroes، (التاريخ)، ومن هؤلاء الرجال العظام يرصد كارلايل «نابليون» Napoleon و»كالفين» Calvin و»مارتن لوثر» Luther وأودن Odin و»روبسبير» Robsper، من بَيْنِ آخرين ومجموعهم اثنا عشر.
وهنا يبتعد كارلايل كثيرًا عن الفلاسفة الاشتراكيين الذين يعدُّون أنَّ صناعة التاريخ ومساراته يأتيان من عمل ونضال وتضحيات الكادحين والجنود المجهولين الذين لا تذكر التواريخ أسماءهم، بوصفهم وقود أحداث الماضي وحروبه المنسيين. على عكس ما ذهب إلى ذلك وليام موريس William Morris (1896-1834) الذي عاش بعد كارلايل ببضعة عقود، إذ قال: بأنَّ الحِرفيين الفقراء العاملين بأيديهم هم الجنود المجهولون الذين تركوا لنا إبداعاتهم منحوتة على البنايات ومرسومة على القطع الفنيَّة التي أبدعوها وعملوا على إنجازها لياليَ ونهارات طويلة، معتصرين العبقريَّة الجماعيَّة في هذه الأعمال التي تزيِّن مُدن أوروبا وشوارعها، منتقيًا كاتدرائيَّة «آيا صوفيا» في القسطنطينيَّة كأهمِّ وأعظم نتاجات هذا النَّوع من الأعمال الجماعيَّة التي تُمثِّل «برلمانًا» للفنون؛ لأنَّ هؤلاء هم الذين قاموا بالعمل وهم المسؤولون الحقيقيون عن صناعة التاريخ.
لذا، يذهب بعض المتابعين إلى تحميل رجال من نوع كارلايل مسؤوليَّة ظهور الرايخ الثالث في ألمانيا بزعامة أدولف هتلر، بَيْنَما يذهب آخرون إلى تحميل موريس مسؤوليَّة ظهور الفكر الاشتراكي «الطوباوي»!
وتأسيسًا على ما تقدَّم، تقاطع موريس مع كارلايل؛ نظرًا لأنَّ الأوَّل كان يحلم بعالم فردوسي (بمعنى مشاعي)، إذ يشترك الجميع في إنتاج الثروة والتمتُّع بها على نَحْوٍ جماعي في داخل فردوس أرضي، وهو فردوس الحالمين بعالَم لا أنانيَّة فيه ولا ملكيَّة خاصَّة. وإذا ما اعتمد كارلايل «المدخل السيروي» للتاريخ (بوصفه مجموعة من سِيَر الأبطال)، فإنَّ موريس عدَّ التاريخ الخلاصة النهائيَّة لملايين الأرواح التي أزهقت في ميادين الحروب والعمل والتي لَمْ تغادر الحياة إلَّا بعد أن قدَّمت إسهاماتها في بناء حضارة الإنسان من «نورثمبرلاند، إلى أصفهان»، كما كتب موريس في منشوراته النثريَّة البديعة.
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي