د. عقيل عباس
إحدى أكبر مشاكل التأريخ المستعصية، على مدى آلاف السنوات، هي كيفية حل الخلاف، خصوصاً إذا كان جماعاتي الطابع. بسبب عدم وجود آليات مؤسساتية، كثيراً ما أصبح هذا الخلاف٬ في أوروبا القرون الوسطى كما في الأزمنة التراثية العربية - الإسلامية في عهد الخلافة الإسلامية، عصبوياً ودموياً بمعنى تحول المختلفين إلى جماعات مذهبية ودينية وعقائدية وسياسية تلجأ أحياناً كثيرة لاستخدام العنف للدفاع عن أفكارها أو فرضها.
عندما اختلف المسلمون بعد وفاة النبي محمد بخصوص من يخلفه، كانت النتيجة النهائية هي بروز التسنن والتشيع كجماعتين سياسيتين أولاً ثم عقائديتين تالياً قبل ترسخهما كمذهبين دينيين في آخر المطاف. عبر كل هذه التحولات، دخل العنف بين الاثنين وتحول الخلاف إلى صراع يشتعل أحياناً وينطفئ أحياناً أخرى في سياق تبدل الظروف. وعندما غضب مسلمون على تغوّل بعض ولاة الخليفة عثمان بن عفان، خصوصاً في البصرة والكوفة ومصر، قاد الخلاف الذي استعر في المدينة - عاصمة الخلافة الراشدة حينها - بخصوص كيفية التعاطي مع هذا التغوّل إلى اغتيال الخليفة نفسه واشتعال حروب أهلية تواصلت بعض آثارها المختلفة على مدى قرون تالية.
الأمر ذاته ينطبق في أوروبا إذ أدت الخلافات بخصوص الأفكار والسلوكيات الى تشكل جماعات دينية جديدة وخلافات عقائدية وسياسية قادت إلى حروب طويلة ودموية ومذابح وعمليات انتقام في سياقات مختلفة ومعقدة على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر.
مَثَّلَ بروز الليبرالية الكلاسيكية في القرن الثامن عشر فصعوداً وتشكيلها التدريجي للديموقراطية الحديثة تحولاً كبيراً في فهم الخلاف وكيفية التعامل معه إذ أبعدته عن العصبوية، كتعبير اجتماعي يقوم على شدة المشاعر وصراعات القوة المفتوحة، ودفعته نحو الحزبية، كتعبير مؤسساتي يقوم على التنافس الذي يُحسم عبر القوانين والآليات المتفق عليها. الديموقراطية الحديثة هي بنت الليبرالية، ومن خلال القيم والأدوات التي طورتها الليبرالية عبر النظام الديموقراطي كالعقد الاجتماعي والحقوق الطبيعية المرتبطة بحرية التعبير والفصل بين السلطات والتداول الانتخابي الدوري للسلطة، استطاعت الليبرالية استيعاب الكثير من الخلافات ومنعت تحولها إلى صراعات تهدد السلم الأهلي، ليصبح الخلاف، المُدار سلمياً ومؤسساتياً، أحد مظاهر التنوع والتعددية التي تقوي المجتمع وتخدم الصالح العام وتحترم حقوق الأفراد المختلفين.
في الأزمنة الصعبة التي لم تترسخ فيها الليبرالية وتراجع معها النظام الديموقراطي، عادت العصبوية بشدة وقادت إلى التعسف وسفك الدم والكثير من العناء، كما في بروز الروح القومية المتطرفة وتمثلاتها التالية عبر النازية والفاشية وتحوّل التنافس على النفوذ والموارد الى صراعات دموية شديدة الضراوة والقسوة كما في اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية. ساهمت هذه الدروس المؤلمة والباهظة التكاليف لانتصار العصبوية في إعادة الاعتبار للحزبية كإطار مقبول لإدارة التنافس السياسي والاقتصادي ومنع تحوله إلى صراعات دموية.
عراقياً، كانت الحزبية، في إطار البدايات الصعبة لتشكيل العراق الحديث، دلالة على الحداثة والنخبوية، وبالتالي، على الثقافة والرغبة في التأثير في الحيز العام. جاءت أولى التجارب بهذا الصدد سريعةً وصادمة لم تتفاعل معها إلا أقلية صغيرة متعلمة بعد الانقلاب العثماني في 1908 الذي قادته "جمعية الاتحاد والترقي" وأجبرت السلطان عبد الحميد الثاني على التخلي عن الحكم السلطاني المطلق وإعادة العمل بدستور 1876 الذي جمده عبد الحميد بعد عامين من بدء العمل به. دشن هذا الانقلاب، الذي جاء بإصلاحات مهمة كتشكيل البرلمان وتأسيس الأحزاب وإجراء الانتخابات، ما عُرف بالمرحلة الدستورية الثانية في حياة الدولة العثمانية. تأسست سريعاً في الولايات العراقية فروع محلية لـ"جمعية الاتحاد والترقي" لخوض الانتخابات في عام 1908 ودخول البرلمان العثماني ("مجلس المبعوثان"). كان فرع الجمعية المتأسس في بغداد هو الأقوى والأوسع إذ ضم كبار الشخصيات العامة حينها وأكثرها ثقافةً كتوفيق الخالدي وساسون حسقيل، اللذين سيصبحان وزيرين للداخلية والمالية في العراق الملكي، والشاعرين المعروفين جميل صدقي الزهاوي الذي فاز بمقعد في "مجلس المبعوثان" ومعروف الرصافي. جرت عمليتان انتخابيتان في العراق العثماني، في 1908 و1912، شاركت فيها أحزاب مختلفة بينها حزب "الائتلاف والحرية"، خصم "الاتحاد والترقي" قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى التي عطلت الحياة الحزبية الناشئة.
كانت تلك التجربة الحزبية محدودة الأثر في المجتمع بسبب نخبويتها الشديدة وقلة الاهتمام الشعبي بالسياسة وطبيعة النظام الانتخابي المعقد الذي قام على التفويض، أي تفويض الناخبين الذكور لعدد محدود من الأشخاص، عادةً ما يكونون من صغار الشيوخ وأفندية المدن، كي ينتخبوا عنهم الممثل البرلماني، وليس الانتخاب الفردي المباشر السائد اليوم.
لم تُوضع الحزبية في العراق في إطارها المؤسساتي الصحيح والراسخ: نظام ليبرالي ديموقراطي تتنافس فيه الأحزاب علناً وعلى أساس قواعد قانونية واضحة وصارمة تنطبق على جميع المتنافسين بالتساوي. أحد أكبر أخطاء النظام الملكي التي قادت لإطاحته هو تقويضه المتعمد للحزبية في الواقع رغم الإطراء عليها في العلن، إذ كان الساسة المتنفذون يصنعون الأحزاب ويلغونها حسب الحاجة بدلاً من أن تصنع الأحزابُ الساسةَ وتطيحهم أو تكافئهم حسب الأداء. منح الدستور الملكي مثل هذه الإمكانية السيئة إذ كان بمقدور رؤساء الوزراء، بتوصية يرفعونها للملك يوافق عليها الأخير، حل البرلمان الملكي وبدء انتخابات جديدة لتحقيق أغلبية برلمانية حزبية لهم غالباً ما تساهم وزارة الداخلية، الوزارة الأقوى في كل عمر النظام الملكي، في صناعة نتائجها حسب الرغبات الحكومية. كان البرلمان الملكي الذي يُفترض أن يكون التمثل الأهم والأقوى للحزبية المعبرة عن الحاجات الحقيقية للفئات الشعبية المختلفة، المؤسسة الأضعف في النظام الملكي.
لذلك تشكل وكبرَ الحزبُ الأهم والأقوى في تأريخ العراق الحديث - الحزب الشيوعي - خارج البرلمان والمؤسسات، بل بالضدّ منها غالباً وبقي سرياً ومطارداً في كل العهد الملكي ومعظم العهد الجمهوري، ولكن كان الحزب الأكثر تأثيراً في الثقافة والمجتمع، وعلى نحو أقل، في السياسة. فشل الدولة العراقية تاريخياً في استيعاب الحزبية والقبول بها إطاراً للتنافس السياسي وتنظيمها قانونياً على نحو متساو، ساهم في تحويل تجربة الحزب الشيوعي من الخلاف المشروع في الأفكار والمصالح إلى تجربة أخرى من الصراع المفتوح، الدموي غالباً والعصبوي أحياناً كثيرة.
بعد نهاية نظام صدام حسين الشمولي، الذي فَتك بما تبقى من الحزبية العراقية لصالح إعلاء الحزب القائد والواحد، حزب البعث، تشكل بعد عام 2003 الإطار المؤسساتي المناسب، لأول مرة في تأريخ العراق الحديث، لقيام تجربة حزبية رصينة تدور حول التنافس السياسي المحكوم بضوابط قانونية عادلة وتداول انتخابي للسلطة. لكن هذه التجربة سرعان ما أفسدتها الأحزاب الدينية المناهضة لليبرالية بقيمها الفردانية والمؤسساتية: أحزاب الإسلام السياسي الشيعي بالتحالف مع الأحزاب القومية الكردية، عبر إلغاء المعنى الحقيقي للتنافس السياسي وتنوع المصالح المشروعة من خلال تحزيب الدولة وتحويل مؤسساتها إلى توابع إقطاعية تخدم مصالح الأحزاب المهيمنة الحاكمة بدلاً من خدمة مصالح المجتمع.
في ظل هذه الحزبية الإقطاعية وليست الوطنية، تبخرت إمكانية بناء دولة رصينة مؤسساتياً تعمل من أجل مواطنيها جميعاً بدون تمييز، وتأجل، مرة أخرى، حلم العراقيين بدولة تحترمهم وتوفر الفرص لهم وتعيد تشكيل الوطنية العراقية على أساس الوقائع الإيجابية والمشتركة في حياة الناس.