د. هشام حسن الشمري
قراءة في كتاب (مناهج البحوث اللغوية من النظريات إلى التطبيق، تأليف الأستاذ الدكتور هادي حسن حمودي، إصدار دار الوطن، الرباط، نوفمبر 2023م)
**
يستهل الدكتور هادي حسن حمودي بحثه القيّم بتقرير أن اللغة علم، علم إنسانيّ يتطور على أسس من لغة الرياضيات، لكنْ مع نفحة من إنسانية، ونَسَمات من الأحاسيس والمشاعر. اللغة تعبّر عن غيرها، ولا يعبّر غيرُها عنها. وإن اللغة العربية علم وحياة).
ثم يفصّل الكلام فيبين أنها علم لأنها (ليست آلة صُنعت وانتهى أمرها. والثقافة اللغوية ليست قيودا تضاف إلى قيود، وأغلالا تُصَبّ على أغلال، ولا فوضى أصوات تائهة في الفضاء يعبث بها العابثون).
ولأنه مقتنع بالأصل التاريخي للغة العربية فقد قرّر، وله الحقّ في ذلك: (واللغة العربية حياة احتضنت الزمان وتجارب الإنسان. لذا فهي عميقة الأغوار شاسعة الأبعاد، لها طواعية التلاؤم مع شتى الظروف ومستويات الحياة، وتطورات الحضارة. ولكنّ تلك الطواعية لا تبرز للعيان إلا بجهد الإنسان المنتمي إليها، الحريص على تنميتها وتطويرها انطلاقا منها، لتمثل حاضره ومستقبله، كما مثلّتْ ماضيه وكما تمثّل حاضره. ويزداد هذا الانتماء عمقا وأثرا إنْ درس الباحث اللغة بحَيدة فإنّ الحَيدة ستوقعه في سحر اللغة ذاتها)
ولكن اقتناعه هذا لا يمنعه من توجيه نقد مرّ لأبناء هذه اللغة في بلدانهم العديدة، قائلا: (فلغةٌ بهذا السحر، بهذا العمق، بهذه السعة، بهذا التاريخ، لا يمكن الحديث عنها في أيامنا هذه، بعد الانهيار الذي أصيبت به على يد أبنائها، سواء بإرادتهم أم باستغفالهم، أم بإيحاءات ارتضوها، إلاّ إذا كان الحديث سيأخذنا إلى تحديد المرتجَى والمؤمَّل. المرتجَى لها والمؤمَّل منها).
ومن أجل تبيّن المرتجَى لها والمؤّمل منها نظّم هذا الكتاب في مقدمة، وفصول تكشف عن مناهج البحوث اللغويّة، نظريّا وعمليّا. وانتقى لهذه التطبيقات مسارين:
* مسار متخصص بموضوع لغويّ عامّ هو التطوير اللغوي والتنمية اللغوية. وقد أوضح فيه رؤيته لكيفية صياغة التداوليات اللغوية المؤدّية إلى التطوير اللغوي في الخطاب والتحولات التي يرتجيها الدكتور لها ويأملها منها، أي لتلك التداوليات. فهو يرى أن أسمى غاية للبحوث اللغوية العربية يجب أن تتجلى في الاستعمال العامّ للغة، في الذي صار يُعرف بالتداوليات والخطاب. مقررا: أنه ( التجلي المبرهن على تنمية اللغة وتطوير أساليبها بما يقتضيه الزمن والحاجات الاجتماعية المتجددة).
بدأ بالباب الأول: مناهج البحث اللغوي وأثرها في التداولية اللغوية والخطاب، وضمت فصوله الحديث عن المناهج والبحوث ودورها في تقديم بحث لغوي علمي مطوَّر ومطوِّر للتداولية اللغوية والخطاب. ويبدو أن السيد المؤلف أراد من وراء ذلك تأكيد أنّ اللغة ليست لغوا، وأن التعبير اللغوي له قوانينه المنبثقة من ذات اللغة، وأن على المتعاملين بها احترامها وتطوير أساليبها وأساليب فهمها والتعبير بها وعنها، من أجل فهمها كما هي في مراحل تطورها التاريخي.
وفي الباب الثاني قدم تطبيقا عامّا شاملا حيث تحدث عن التطوير اللغوي عبر الزمن، أجمل مضمونه في أربعة فصول تابع فيها التطوير اللغوي من التراث إلى التداولية والخطاب من مصطلحات الأزمنة المعاصرة.
وفي الباب الثالث: قدم الباحث الجليل تطبيقات تحليلية خاصة انصرفت للبحث في نصوص إفرادية، ونصوص مركبة جعلها شواهد على كيفية تحديث أساليب التعبير. فأما النصوص الإفرادية، فبعض الألفاظ المفردة التي تكوّن نصّا قائما بذاته، وأما النصوص المركّبة فمثل لها بلغة آيات القرآن، وما حاذاها.
ثم وضع خاتمة تكشف عن أهم المحاور الجوهرية المؤسسة لمواد البحث بشقّيه النظري والعملي التطبيقي.
ووضع فهرس المصادر والمراجع العربية والأجنبية، ثم فهرس الكتاب برمّته.
ولعلّ من أبرز ما يوضح منهج البحث ومستواه الرفيع، ثلاث ملاحظات جعلها الدكتور هادي خاتمة للكتاب، قال:
* (ونرى أن لا بدّ من توضيح أنّ إصرارنا على أن تتأسس التداوليات اللغوية والخطاب على نتائج البحث اللغوي العلمي الكاشف عن وسائل التطوير اللغوي، يعود إلى أننا نؤمن بالآفاق المنفتحة للتطور اللغوي، ووجوب الابتعاد عن تحنيط اللغة أو صَنْدَقَتها، مع المحافظة على أسسها المكونة لها، لفظا وتركيبا، والنظر في استعمال الناس لها وحاجتهم إليها، وأن نعرف كيف يمكن تلبية تلك الحاجة وتطوير الاستعمال العام، وأن نردّ إلى الصواب ما خرج عن السبيل القويم للتطور اللغوي وتطوير أساليب التعبير، أو بعبارة أخرى: للتنمية اللغوية.
والملاحظة الثانية، قوله:
(أودّ الإشارة إلى أنني حين اضطرّ إلى أن أنقد رأيا أو رؤية لباحث عربي معاصر فإني أتجنّب ذكر اسمه وعنوان بحثه أو كتابه، ما أمكنني ذلك، لئلاّ يُساء فهم ما أُريده، فالصدور غالبا ما تضيق عن تقبل النقد وتتخيله تجريحا شخصيا. وقد جربت ذلك من قبل ولا أحبّ الوقوع في دائرة الصدّ والردّ. ثم إنّ المهمّ مناقشة النص لا الشخص. فاكتفيت بإثبات عناوين المؤلفات وأسماء مؤلفيها في فهرس المصادر والمراجع حيث يستطيع القارئ معرفة مورد الرأي المنقود. أما إذا نقدت قولا أو رأيا لعالم من علماء التراث، أو لكاتب أو باحث من ثقافة أخرى أو أفدت من نصّ عربيّ أو غير عربي، قديما كان أم حديثا، فسأذكر اسم المؤلف وعنوان الكتاب أو البحث على ما تقتضيه الأمانة العلميّة.
والملاحظة الثالثة تأكيده على أنه:
(وقد توخينا في هذه الدراسة التبسيط بقدر المستطاع، ضمن الحدود التي تسمح بها المنهجية والموضوعية وطبيعة اللغة العربية. وأملنا كبير في أن نكون قد وفقنا لما رَمينا اليه، ورُمناه).
د. هشام حسن الشمري
(نيوكاسل)