دقت ساعة حروب الأديان المعاصرة! حركات الإسلام السياسي بدأت تخرج عن سيطرة صانعها ومهندسها
بعد سقوط حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي ظهر الإسلام السياسي على الساحة الدولية كبديل للشيوعية (ويكيبيديا)
بعد سقوط حائط برلين، وتفكك الاتحاد السوفياتي، ظهر الإسلام السياسي على الساحة الدولية كبديل للشيوعية، وقد انطلقت شرارته بصورة مباشرة في أفغانستان، وقد بدت صورة ما يحدث هناك وكأنها ثورة بروليتارية جديدة يقودها مستضعفون ضد ورثة ثورة بروليتارية أصبحت متجاوزة وحادت عن مبادئ العدالة التي لا تجد إجابة صحيحة لها إلا في الإسلام السياسي المسلح، وبإدارة أميركية مدروسة أصبح العالم الإسلامي يعتقد أن الإسلام السياسي المسلح بصيغ أيديولوجية متطرفة ومختلفة هو الذي سيحل محل الشيوعية المفككة، وهو الذي سيحدث توازناً في العالم، أي سيتحول إلى قطب جديد، شرق جديد، إذ لا يمكن للعالم أن يكون كتلة واحدة، لا بد له من جناحين كي تطير الأرض ومن قدمين كي يسير العالم نحو التنافس.
لكن، مع مرور ربع قرن تقريباً (1979-2001)، أي من تاريخ انطلاق حرب أفغانستان ضد النظام الموالي لموسكو في كابول إلى أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، سيبدأ السحر في الانقلاب على الساحر، فحركات الإسلام السياسي بدأت تخرج عن سيطرة صانعها ومهندسها التي هي الولايات المتحدة، فهذا الإسلام السياسي المسلح الذي صنعته الرأسمالية الأميركية نفسها كي تجدد به نفسها من خلال تهديد وتهديم خصمها التاريخي ألا وهو المعسكر الشرقي، أصبحت تخاف أن تفقد السيطرة عليه، فيبتلعها من خلال الفوضى الخلاقة على المدى القصير بتعدد التيارات والمجموعات والأيديولوجيات، وعلى المدى المتوسط والبعيد من خلال موجات المهاجرين غير الشرعيين القادمين من البلدان التي أصبح فيها الإسلام السياسي المسلح حقيقة يومية.
وإذا كان الغرب الأوروبي وفرنسا ميتران (الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران) الاشتراكية بالأساس قد صفقت لسقوط الشاه وصعود نجم الثورة الإسلامية في إيران، وصفقت للمجاهدين في كابول وهم يهزمون الجيش السوفياتي، فإن سعادتها لن تطول، وحلمها في إقامة الديمقراطية في هذين البلدين لن يكون سوى وهم كبير، وسيكون حلم إقامة الديمقراطية في هذين البلدين من خلال دعم الإسلام السياسي المسلح الأميركي الصنع بداية أزمة عضوية اجتماعية وسياسية في أوروبا كلها.
شيئاً فشيئاً بدأ الإسلام السياسي المسلح يتغول في بلدانه الأصلية ليزحف على الأطراف أيضاً، جراء ذلك بدأت ماكينة صناعة الخوف من الإسلام السياسي تظهر جلياً في الغرب وفي أميركا، ولاحقاً سيتغير الخوف نفسه من خوف من الإسلام السياسي المسلح إلى الخوف من الإسلام كدين بصورة عامة. وكان لا بد من بحث عن مواجهة هذا الخوف الذي أصبح فوبيا سياسية وثقافية وحضارية ولغوية بل وعرقية شاملة.
جرب الغرب الأميركي والأوروبي أولاً رفع السلاح لمواجهة الخوف الذي أصبح عابراً للقارات من خلال الحرب في العراق وأفغانستان وسوريا واليمن وليبيا، لكن اتضح أن هذه الوصفة غير مجدية، فهي من جهة تخرب البلدان على رؤوس أهاليها البسطاء وفي الوقت نفسه تحرك ملايين المهاجرين إلى الغرب نفسه، مما يزيد الطين بلة، ويكرس ظاهرة الخوف.
كانت الحروب التي شنها الغرب على البلدان كالعراق وسوريا وأفغانستان تجربة للتدريب على ثقافة الانتحار بالنسبة إلى المنتسبين للإسلام السياسي العنيف، وحين أخفقت الحروب المدججة في دفع الخوف عن أوروبا وأميركا كان لا بد من البحث من طريق آخر وهو التفكير في طريقة لجعل الأفعى تلتهم نفسها من ذيلها، فعمدت مخابر صناعة الفوضى في أميركا وأوروبا، ومن خلال الاستثمار في التراث الفقهي الإسلامي نفسه، إلى تفريخ فرق إسلامية كثيرة وجرها إلى ساحة التناحر والاقتتال باسم الإسلام نفسه بالاعتماد على بعض النصوص المتناقضة في التراث الفقهي الإسلامي.
حين أخفقت الإمبريالية في مقاومة الإسلام الذي صنعته سواء بالحرب أو بإثارة الفتن بين المجموعات الإسلامية المسلحة المتقاتلة، تحركت النخب السياسية في المجتمعات الأوروبية أولاً والأميركية لاحقاً، التي بدأت تشعر بتهديد حضاري زاحف يمثله التمدد الكبير الذي يعرفه الدين الإسلامي السياسي والذي يعمل بسرعة على تغيير خريطة العالم الحضارية والنظام المعيشي.
ولمقاومة هذا الزحف الإسلاموي على أوروبا وأميركا انتعشت أحزاب اليمين بكل أطيافه وولدت أحزاب أخرى في ظل الأزمة، واستعملت هذه التنظيمات في حملات مقاومتها للإسلام السياسي خطاب الخوف والتخويف من الابتلاع ومن الاستبدال الشامل le grand remplacement الذي سيقضي على الثقافة والدين والحضارة واللغة ونمط العيش، وارتفعت أصوات كثيرة تدعو إلى العودة لمنابع ثقافة العيش الأوروبية المسيحية التقليدية.
ومثلما أخفق السلاح في الحد من تمدد الإسلام السياسي ومعه تمددت ثقافة الخوف أخفقت أيضاً المقاومة بالعودة للثقافة والحضارة الأوروبيتين المسيحية اللاتينية، وبدت وكأنها تتآكل يومياً من الداخل أمام زحف أمواج المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين.
شكل المهاجرون غير الشرعيين القادمون أساساً من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وأفريقيا الشمالية ومن بلاد الشام قوة ضاعفت من شبح وجود الإسلام السياسي الذي ظل يعتبر نفسه لسان حال الفقراء، فالمهاجرون مسلمون ومسيحيون على حد سواء وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف مجبرين على الاصطفاف في مربع الإسلام السياسي حتى وإن كانوا لا علاقة لهم به كأيديولوجيا مباشرة، هناك صور نمطية كثيرة تبين مثل هذا الإحساس، إذ انتشرت صور ومقاطع فيديوهات تبين شباباً هارباً من بلدانه الإسلامية في هجرة غير شرعية وحين يصل اليابسة الأوروبية يصلي وكأنه وصل بلداً إسلامياً نموذجياً يؤمن له العيش والحرية! هي مفارقة عجيبة!
في الخطاب الأوروبي السياسي والإعلامي الراهن لا حديث عن الخوف من الإسلام السياسي الذي يهدد معالم الحضارة الأوروبية المسيحية من دون إثارة مسألة الهجرة الأفريقية والآسيوية العربية بالأساس، فالظاهرتان مقترنتان. وأمام هذا الوضع، وبتهييج من اليمين المتطرف، تجندت الكنيسة، وإن بشكل غير ظاهر، لمواجهة الإسلام السياسي، وأصبحنا أمام شبح حرب دينية واضحة المعالم.
إن المتابع للمجتمع الفرنسي مثلاً، الذي كان مجتمعاً علمانياً، سيلمس حملات دعوات فصيحة وصريحة للعودة لتعاليم الكاثوليكية، ويظهر ذلك من خلال وسائل الإعلام ومن خلال برامج أحزاب اليمين والوسط والجمهوريين ومن خلال الاحتفالات الدينية التي تعود بقوة، وما الدعوة إلى إعادة ترميم الكنائس التي ظلت مهملة من الدولة ومن السلطات المحلية في كثير من المدن والقرى، وإعادة الاعتبار لحضور الدين المسيحي في المجتمع والأسرة والمدرسة، إلا الدليل على مقاومة دينية لا تخفي اسمها.
وامتد الخوف الديني إلى المجتمع الإسرائيلي، وتتجلى معالم الحرب الدينية المتطرفة هناك أيضاً في طبيعة التحول الذي يعرفه المجتمع السياسي، فقد تراجع بوضوح تأثير الصهيونية القومية التي أسست لإسرائيل بعد التقسيم وظهرت فجأة قوة الصهيونية الدينية التي تتزعمها التيارات اليهودية اليمينية المتطرفة، والتي تدفع البلد والمنطقة إلى حرب لم يعرف مثلها العالم من قبل، وهو مما جعل فكرة حل الدولتين غير قابلة للتطبيق ومن ثم تشريع باب الصراع الديني على كل الاحتمالات.
يبدو لي بأن حوار الديانات كذبة كبيرة صدقها بعض المثقفين السذج، فالأديان لا تتحاور بل تتنافس وتتقاتل بأشكال مختلفة، سرية وعلنية، ولا يمكن أن يقنع دين ديناً آخر. إن العامل الوحيد القادر على جعل الإنسان يعيش كريماً وبسلام على هذه الأرض هو احترام حقوق "المواطنة"، فكلما ركزنا على الدفاع عن المواطنة قربنا بين المواطنين جميعاً بغض النظر عن دياناتهم.
(اندبيندنت عربية)