يتمتّع المكان الجغرافي بوظائف عميقة الدلالة ، متعدّدة الأغراض ، وتفاصيل المكان في السرد القصصي مهمة جداً ، إذ هي لا تقتصر على تصويره بصرياً وحسب ، بل تذهب أيضاً إلى إظهار ردود أفعال الحواس عن ذلك المكان ، بنفس القدر ، إن لم يكن أكثر . فبالإضافة إلى الجانب البصري يمكن أن يكون صوت المكان ورائحته مهمة كذلك . إن المشاعر العاطفية في المكان والأحاسيس المتنوعة ، التي يمكن أن تثار بين جوانبه ، تقف على قدر المساواة مع طبوغرافيته ومناظره الطبيعية .
يمكن للمكان أن يحدّ ويغيّر أشياءً كثيرة في القصة . فهناك تفاصيل معيّنة مرتبطة بكل مكان على حدة ؛ ويمكن للمكان الجغرافي أن يملي العناصر الاجتماعية ، مثل اللغة ، والملابس ، والطعام ، وحتّى وسائل النقل .. ويمكن أن يكون المكان عقدة في القصة نفسها ، مثلما يظهر في قصص جاك لندن . حيث نلمس لديه أن المكان غالباً ما يكون عقدة من العقد ، وفي أحيان أخرى ، يكون عقدتها الرئيسية . كما يتجلّى في العديد من قصصه ، ومنها قصتة الشهيرة ( حُب الحياة ) ، وقصة ( إشعال النار ) ، على سبيل المثال لا الحصر . وبإمكان القارئ أن يدرك أي دور فاعل تلعبه البيئة الثلجية القاسية في تلك الحكايات ، كما لو كانت تمثّل الشخصية الرئيسية فيها . إن الطبيعة التضاريسية والمناخية التي يأتي جاك لندن على وصفها طالما تخلق إحساساً خاصّاً بالمشقّة ، والمرارة في ذهن وقلب القارئ ، وقصصه تعزّز المعرفة القائمة على المكان ، وتثبيت الإحساس به في الذاكرة .
يمكننا القول أن إحساس جاك لندن العميق ، وارتباط كتاباته بالمكان ، مبعثها كثرة وتنوّع أسفاره ، وطبيعته المتجوّلة المتأصّلة . جاب الكاتب أماكن عديدة من العالم ؛ سافر إلى روسيا ، اليابان ، كندا ، هواي ، المناطق الاستوائية ، كما استقرّ بعض الوقت في أرض النورثلاند كمغامر يبحث عن الثروة . في الواقع لم يمكث جاك لندن في الآسكا وقتاً طويلاً ، إلّا أنه روى كل القصص الرائعة عن تلك الصحارى المتجمّدة ، كما لو كانت موطنه الأصلي .كان يشتاق إلى البرد ، ويتتبع وحشته ( أتمنى أن أكون شهاباً جميلاً ، وليس كوكباً نائماً ) .
وصل جاك لندن إلى مدينة ( داوسون ) في أكتوبر عام ١٨٩٧ ، على متن قارب تمّ بناؤه على عجل ، وفي ظروف قاسية ، وهو يخوض رحلة محفوفة بالمخاطر ، عبر نهر ( يوكون ). كان شاباً متحمّساً ، غير معروف ، وله من العمر إحدى وعشرون سنة ، قادماً من مدينة سان فرانسيسكو ، وأمضى فصل الشتاء القاسي هناك ، بحثاً عن الذهب ؛ إلّا أنه لم يعثر سوى على القليل منه ، وأُصيب بمرض الإسقربوط الشديد . وعقب شهور معدودات ، عثر جاك لندن على نوع آخر من الثروة ، عندما راح يحوّل مغامراته ، لاحقاً ، إلى قصص وحكايات مستوحاة من أرض ( كلوندايك ) التي جرت فيها أعمال التنقيب عن الذهب ، ودرّت عليه تلك القصص الكثير من المال .
في الواقع ، تدور أحداث أعماله الأكثر شهرة ، والتي نالت استحساناً قلّ نظيره ، في منطقة يوكون الكندية ، فعند عودته منها ، حمل في رأسه الكثير من التخيلات الجغرافية عن هذه البقعة الجغرافية ، التي أراد أن يعبّر عنها في عدد من القصص التي تؤكد على هشاشة الإنسانية ، والثروة السريعة الزوال . وكانت أولى تلك القصص ( صندوق نرد الشيطان ) ، ولكن شهرته الحقيقية هلّت مع نشره قصة ( أوديسا الشمال ) في عدد يناير عام ١٩٠٠ من مجلة أتلانتيك الشهيرة . وتوالى إبداعه السردي ، وكانت روايته ( نداء البريّة ) واحدة من روائع الأدب الإنساني الخالد . وقصصه ، ذات الجذور الواقعية ، مستوحاة من تجارب الشمال الأمريكي ، باعتباره مساحة للمغامرة والمشقّة . أما رواية (االعقب الحديدية ) التي جعلت من الكاتب من أكثر الكتّاب شعبية عند العمال والكادحين والمثقفين ذوي الاتجاهات الاشتراكية، فهي تصوير لمستقبل البشرية، ورواية هادفة، تمثل أحداثها ثورة المضطهدين، ونضال العمال الدامي في أمريكا، وتنبئ باقتراب ظهور الفاشستية في أوروبا.
هذه الرواية الفذة تعتبر إنجيل الاشتراكية والاشتراكيين، لقد وضعها جاك لندن عام 1906 فصور فيها حتمية انتصار الاشتراكية وحتمية انهيار الرأسمالية، والصراع الرهيب الذي لا بد أن يدور بين معسكري التقدمية والرجعية، والأساليب الجهنمية التي تلجأ إليها الرأسمالية في صراعها من أجل البقاء.
كانت الآسكا ، ويوكون ، على وجه الخصوص ،مكانين لتجربة المغامرات في الهواء الطلق ، واختبار القوة والقدرة على التحمّل ، حيث يتميّزان بكونهما مساحة فريدة من نوعها عن بقية مناطق العالم ، وعبور هذه الأماكن وتجاوزها لم يكن أمراً هيّناً ؛ فقد اشترطت الحكومة الكندية ، وأخذت على عاتقها بعض التدابير ، لتثبيط المتدافعين ، الأكثر تهوّراً ، في زحفهم باتجاه الآسكا ، من خلال اشتراط معدّات محدودة ، لأجل السماح لهم بعبور الحدود ، ويتكوّن هذا من إمدادات الغذاء لمدة عام ، وما لا يقل عن ألف رطل من المعدات الأساسية ، بما في ذلك بطانية مقاومة للماء ، ستة أزواج جوارب صوفية ، وقميصين من الفلانيل ، وصندوق دواء ... والقائمة تطول ؛ بحيث يصل الحمل الإجمالي في كثير من الأحيان حوالي طنين من المواد ، ولا بد أن يكون لدى هؤلاء المغامرين حدّاً أدنى من المعرفة الجغرافية بالبيئة والظروف الطبيعية لمنطقة يوكون . وفي بداية الاندفاع للبحث عن الذهب ، جلب هؤلاء المغامرين أمتعتهم على ظهور الجياد ، التي لم يكن بوسعها تحمّل الطقس الثلجي في تلك الصحارى الثلجية ، فنفقت غالبيتها ، وتم التخلّص من آلاف الجثث منها في الشقوق والأخاديد الصخرية ، التي صار يُطلق عليها تسمية ( خنادق الجياد الميتة ) ، حيث تتراكم عظامها حتّى اليوم . كان السفر إلى تلك الأصقاع مرهوناً بمخاطر متنوعة ومروّعة أيضاً ، وإن الكثير من أولئك المغامرين قد خطر لهم في نهاية المطاف أن رحلتهم تلك لا لزوم إليها .
أبطال أعمال جاك لندن جميعهم أشخاص حازمين ، شجعان ، وأقوياء ؛ يعبّرون بشكل جيد عن إرادة الإنسان وقوته وفضيلته ، وقد أصابتهم المصاعب والكوارث الواحد تلو الآخر ، لكنهم لم يستسلموا أبداً للبيئة القاسية والمصير البائس ، قاتلوا من أجل البقاء بمثابرة غير عادية ، كما أجادوا التغلّب على العقبات ، وسعوا جاهدين لتحقيق الأهداف المحدّدة ؛ وحتّى عندما يموتون ، فهم يموتون بعز وكرامة . إن البريّة لدى جاك لندن ترمز دائماً إلى البدائية ، وأعماله مليئة بالمعاني الغنية والمعاني الرمزية . وقد أشاد بالناجين الشجعان ، الذين شقّوا دروبهم عبر الثلج والجليد وحيدين لا تصاحبهم سوى الإرادة العظيمة ، والذين ليس لديهم خيار سوى التغلّب على التهديدات المكانية من أجل البقاء على قيد الحياة . وفق جاك لندن : فإن قوانين الشمال مبنية على الصدق والثقة المتبادلة ؛ لقد نفضت الرياح الباردة القارسة أوراق النفاق والشجاعة المتفاخرة ، وكشفت عن القيمة الحقيقية للشخص . تحدّثت كتاباته ضد الأنانية ، وتعزيز الصداقة والمساعدة المتبادلة . وكان يدافع في كتاباته عن الأشخاص ذوي الروح القوية ، ويرى أن الإنسان الجبان الذي لا قيمة له سيموت أسرع من الشخص الشجاع .
كما يرى جاك لندن إن على الإنسان أن يغيّر طريقة تفكيره ، وشعوره ، وتخيّله لمحيطه ، وبالتالي المشاركة في ما يمكن وصفه بسياسات الهوية المكانية والنفسية ، وهذا يعني أن شخصيته تتغيّر نتيجة تكيّفه مع محيط معادٍ .
وقد استخدم جاك لندن خياله الاستثنائي ليضفي على هذه البريّة أعمق المعاني . ويكمن سر جاذبية قصصه في تأثيرها العاطفي الذي تنتجه ، ففي الآسكا ، موطن قصصه ، حيث الدروب المجهولة الغامضة ، البعيدة المدى ، وغياب الشمس من السماء ، والبرد الكئيب ، وغرابة ووحشة المكان ، نرى ونشعر بالبرد ونحن نسمع اللهاث ، والأصوات الباهتة لشخصياته ، ونتابع الصور المرئية التي يجعلنا المؤلف نراها بأعيننا ، بمهارة الكاتب المتمكن . وكثيراً ما تراودني فكرة أن على المرء ، إذا أراد أن يعرف جغرافية ، وروح المناطق القطبية ، أن يغمر نفسه بقصص وحكايات جاك لندن عنها .