لا أميل غالباً إلى اللغة الانتصارية الشعاراتية رغم ضرورتها أحيانا لرفع المعنويات ومواجهة حملات التثبيط والتيئيس التي يشنها العدو وأذنابه وجواسيسه، وأفضل على تلك اللغة تشغيل آليات العقلانية النقدية والواقعية لرؤية الواقع الحقيقي على الأرض. ولكن ورغم احتكامي دائماً إلى مقولة غرامشي حول ضرورة التوازن بين "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، أجد من الواقعي تماما القول إنَّ المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وعلى الرغم من تواضع إمكاناتها القتالية المادية وكونها محاصرة حصارا شديدا فقد انتصرت المقاومة انتصارا لا لبس فيه بصمودها أمام جريمة الإبادة الجماعية واستمرارها في القتال الضاري لقرابة خمسة أشهر.
*ما حدث في السابع من تشرين/ أكتوبر 2023، كان هجوماً خاطفاً جريئاً ودقيقاً استهدف الجهاز العسكري والأمني والاستيطاني للكيان "فرقة غلاف غزة" بشكل رئيس، وقد حقق المهاجمون انتصاراً كبيراً باعتراف العدو نفسه. وكان لابد للعدو بعد أن أفاق من ذهول الصدمة أن يلجأ إلى الانتقام المدمر فشنَّ هجومه الغادر على الشعب الفلسطيني وصمدت المقاومة وصمد الشعب وكان مقدراً أن ينتهي الهجوم الانتقامي بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، ولكن قيادة الكيان اليمينية الدينية المتطرفة حصلت من أميركا والغرب على شيك على بياض لمواصلة حربها الإبادة مستفيدة من أجواء الخنوع والذل في العالمين العربي والإسلامي، فواصلت عمليات القتل المنهجي المبرمج وصمدت المقاومة، وسُفكَت دماء الشعب سيولا، وبعد خمسة أشهر يعجب المرء كيف تمكنت مقاومة تقدر بآلاف المسلحين في منطقة ضيقة (بطول 41 كم وعرض يتراوح بين 6 و12 كم) ومحاصرة –كما قلنا - برا وجوا وبحرا من الصمود ومواصلة القتال في مواجهة واحد من احدث جيوش العالم وتوجيه ضربات صاروخية مستمر على مستوطنات العدو وإثخان هذا الجيش بالقتلى والجرحى والمعاقين!
*لا ريب أن المقاومة قد نزفت دماء أيضا وقدمت شهداء وجرحى وهذا أمر متوقع في حرب ضارية كهذه، وخسرت بعض الأنفاق والعتاد والأسلحة ولكن الخلاصة المهمة هي أنها استمرت وماتزال مستمرة في القتال وخصوصا خلف خطوط العدو وفي المناطق التي سيطرت عليها قوات العدو منذ أشهر في الشمال والوسط وجنوب القطاع. وأن جيش العدو باعتراف قياداته عاجز عن سحب دباباته وآلياته المدمرة والمعطوبة وتسود الفوضى والكوابيس المرضية صفوفه، فوضى دفعت العدو لتخصيص جيش من الأطباء والباحثين النفسانيين لمعالجة هذه الظاهرة المرضية المتفاقمة أما حالات الإعاقة والخروج من الخدمة العسكرية فهي بالآلاف.
*وآخر الأخبار تقول إن المقاومة كما يظهر قد فهمت اللعبة جيدا والضغوطات العربية عليها وهذا ما عبر عنه القيادي إسماعيل هنية في خطابه اليوم والذي قال فيه "نؤكد للصهاينة وللولايات المتحدة شريكتهم في العدوان إنَّ ما عجزوا عن فرضه في الميدان لن يأخذوه بمكائد السياسة" وأضاف محذرا "من قيام إسرائيل بعملية عسكرية برية في رفح، متوعدا إياها بأن المقاومة الفلسطينية في الميدان ستتصدى لها، ودعا العالم -خصوصا الدول العربية- إلى التصدي لهذا العدو وكبح جماحه لثنيه عن غزو رفح". وهذا الكلام يوحي بأن المقاومة في سبيلها الى رفض الإملاءات الصهيوأميركية عبر الوسيطين المصري والقطري، ويعني أيضا أن العدو في سبيله لارتكاب مجزرة ضخمة في رفح لتحقق أوهام وكوابيس نتنياهو وعصابات اليمين الصهيوني الدني المتطرف المحيط به وعندها سيلحق العار بالعدو الصهيوأميركي وبأذنابه من أنظمة الخيانة العربية.
إن المنطق المتخاذل الذي يحمل المقاومة مسؤولية ما سيحدث من هجوم دموي على رفح إذا رفضت صفقة باريس الجديدة منطق فارغ ومخاتل يتناسى أن العدو لم يوافق على إنهاء العدوان ووقف إطلاق النار بموجب هذه الصفقة أي أن الهجوم على رفح قد تأجل قليلا كما قال المجرم نتنياهو حرفيا، بمعنى سواء وافقت المقاومة أو لم توفق على شروط العدو فالهجوم على رفح سيحدث فلماذا التفريط بورقة القوة الوحيدة بيد المقاومة والموافقة على الشروط الصهيوأميركية؟
*لقد فشل جيش العدو حتى اليوم بتحرير أيٍّ من محتجزيه وأسراه إلا شخصين لم يكونا بيد المقاومة وهناك شكوك بإن مخابرات العدو حصلت عليهما عبر مسرحية مخطط لها ومقابل فدية مالية ضخمة.
*وقد فشل العدو طيلة الخمسة أشهر من أسر قيادات مهمة أو حتى مقاتلين عاديين من المقاومة وعرضه على الجمهور الصهيوني المتعطش لدماء الفلسطينيين كما عبرت عن ذلك وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية ماي غولان بقولها "أنا شخصيا فخورة بالخراب والقتل فخورة بدمار غزة.. وبأن كل طفل حتى إلى ما بعد 80 عاماً من الآن سيروي لأحفاده ما فعله اليهود عندما تم قتل أقاربهم"! فعن أي سلام يمكن الكلام مستقبلا مع سفاكي دماء وقتلة مجرمين كهؤلاء يتفاخرون بالخراب والتدمير وقتل الأطفال؟ ألا تكون "إسرائيل قد حكمت على نفسها بالإعدام بعد جريمتها الرهيبة التي ارتكبتها وماتزال ترتكبها بحق الشعب الذي يزعم البعض إنهم يرون العيش معه بسلام؟
*كما وقد فشل العدو بتهجير الشعب الفلسطيني الغزاوي فشلا ذريعا رغم تواطؤ الأنظمة الرجعية العربية وإحكامها الحصار وخصوصا من حدود القطاع مع مصر "ممر فيلادلفيا"، وما يزال سبعمائة ألف فلسطيني يعانون الجوع في شمال غزة شأنهم شأن مواطنيهم في الوسط والجنوب ولكنهم صامدون.
*وقد ألحقت المقاومة خسائر مذهلة بجيش العدو معبرا عنها بمئات القتلى وآلاف الجرحى من ضباط وجنود والمعدات والآليات، وحاصرت العدو سياسيا واستثمرت دعوى مقاضاة الكيان أمام محكمة العدل الدولية التي رفعتها الشقيقة الكبرى دولة جنوب أفريقيا بغض النظر عن نتائجها المشكوك فيها فلا خير يرتجى من المؤسسات الدولية الاستعمارية التي أنشأها الغرب.
*وقد هزَّت المقاومة الفلسطينية الكيان الصهيوني والروح المعنوية لمستوطنيه هزّا عميقا ولأول مرة منذ قيام الكيان سنة 1948، وأفقدته الشعور بالأمن والأمان لعقود قادمة إذا ظل على قيد الحياة وهذا أمر مشكوك فيه حتى من قبل بعض "الأذكياء" في الكيان، كما فرَّغت عرس الرجعيات العربية العميلة في ما سمي الاتفاقيات الإبراهيمية للاعتراف بالعدو والتطبيع معه كالإمارات والبحرين والمغرب بعد استسلام مصر والأردن وجعل الرجعيات التي لم تشارك تتردد قليلا في اللحاق بزميلاتها كالسعودية والسودان وموريتانيا.
*ومع ورقة باريس الثانية يحاول العدو الأميركي مدعوما من بعض الأنظمة العربية الخانعة انتزاع اعتراف أولي بالتعب والإرهاق من المقاومة والتحضير لجولة أخرى بعد شهر رمضان إذا وافقت المقاومة على الشروط الجديدة... ولكن هيهات لقد قال التأريخ وقولته وسجل على صفحاته:
لقد انتصرت المقاومة الفلسطينية في غزة وهُزم العدو وحرم من تسجيل انتصار ساحق كما كان يأمل وكما كان يتيح له جيشه الحديث المدعوم بجسر جوي أميركي غربي، ولو كان هناك شيء قليل من العدل والنزاهة في هذا العالم لأوقف إطلاق النار وأجبر الكيان الصهيوني على وقف المذبحة بحق المدنيين وسحب قواته ولكنه عالم إمبريالي غاشم وظالم ومغمس بدماء الشعوب والأمم ولكنه سيغرب يوما ويزول كما زالت الحضارات الظالمة البائدة قبله. أما الكيان الصهيوني فقد حكم على نفسه بالإعدام ولن يكون له مستقبل في المشرق العربي وسيلتحق بالكيانات الإفرنجية "الصليبية" الأربعة (كونتية الرها (1098-1150) وإمارة أنطاكية (1098-1287) وكونتية طرابلس (1102-1289) ومملكة بيت المقدس (1099–1291). التي أقامها الأعداء قديما في بلاد الشام ولكنها صارت شيئا من رماد التأريخ!