البطالة المستشرية بين أوساط الشباب، وضعف الروابط الاجتماعية، تدهور التعليم، هشاشة الرابط الوطني،تعاطي المخدرات تفشي الأمية وانتشار الخرافة حتى بين أوساط المتعلمين. جميعها كانت وستبقى نذر شؤم سبغت بطابعها المجتمع، وأضفت عليه صفات وطباعا لم يألفها سابقا. ولا شك أن مجمل ذلك كان سببا في اعتلال المجتمع واهتزاز قيمه، وبالذات لدى الشرائح الفقيرة منه، التي أصبحت مع الوقت تشعر باليأس وانغلاق الأفق وانعدام الفرص للارتقاء بالوضع الشخصي والعائلي. ليأخذ هذا الواقع المتردي، عند مجاميع الشبيبة تعبئة نفسية دائما ما تكون سلبية ، بسبب اضطرابات منهجية بالتفكير ترافقها الانفعالات والتحدي والنوازع العدوانية. وهذا القطاع الواسع من العراقيين، يتصف ببنية دينامية تبحث عن مصادر الرزق داخل فم الأسد مثلما يقال،وتمتطي الصعاب لتثبت للجميع وجودها الإنساني. وكان من المناسب وجود جهة ما تعمل على امتصاص هذا الغليان والفورة الشبابية والسيطرة عليها، لا بل توجيهها والاستفادة من طاقاتها الحيوية الكامنة ، بتوفير منفذ للتنفيس عن المكبوت النفسي والقوة الجسدية التي تتمتع بها تلك المجاميع.
على مدى سنوات طوال لم تقدم السلطة بمختلف تلاوينها حلولا ناجعة للبطالة ومشاكل الفقر وتردي الخدمات، وإنما ازداد العوز والفقر، وتعرضت مجالات التعليم والمعرفة لانتكاسات شديدة، وتصاعدت وتيرة الاعتداء على الملكيات العامة والخاصة. وازدادت بوتائر مفزعة الصراعات المجتمعية ومنها العشائرية، واستشرت حالات ترويج وتعاطي الممنوعات، وشوهت السلوكيات الخطيرة إدارة مؤسسات السلطة. لتختصر الكثير من احتياجات الناس وتحجر تحت يافطة الهوية الطائفية والصراع المذهبي أو القومي، الذي استعر في ظل الاحتلال الأمريكي ومن ثم في التدخل الإقليمي الذي عمل بدوره جاهدا مع شركائه من القوى المحلية، على تغذيته وجعله يتقدم الواجهة ويحتل الصدارة في أسباب تصعيد واستشراء التوترات الاجتماعية والسياسية.
مع دخول طلائع الجيش الأمريكي، ظهرت إلى العلن أولى تشكيلات المقاومة الشعبية، الرافضة للاحتلال، وتميز بناء هذه المقاومة بخليط من قيادات عروبية وبعثية وإسلامية غلب على مقولاتها الدوغمائية، واجتذبت الشباب من رافضي الاحتلال، وكان ثقل تلك التنظيمات ونشأتها في بغداد والمدن ذات الغالبية السنية. واغلب تلك القوى وضعت نصب أعينها محاربة المحتل والقوى السياسية والمجتمعية التي ارتضت التعامل معه. وانتظمت قاعدة خوض المعارك على أسس العداء المذهبي ومشاعر خسارة السلطة بعد عقود طويلة كانت مؤسساتها تخضع لشروط وخيارات رجال يحسبون على المذهب السني قبل أي توصيف آخر. فيما برزت على نحو ظاهر تشكيلات مسلحة شيعية عام 2003 أي بعيد الاحتلال مباشرة، رافضة لما تبناه الاحتلال من نوايا وطرق وحلول مستقبلية للعراق.
كان لتفجير ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري يوم 22 فبراير سنة 2006 الأثر الفعلي لظهور الكثير من الفصائل المسلحة الشيعية. وشكل ظهورها إنذارا ببدء الصراع الطائفي الذي أشتعل أواره إثر ذلك العمل الخسيس، وكان حدثا مروعا قدح شرارة الفتنة الطائفية،ودفع الفصائل المسلحة من كلا الطرفين لاقتراف جرائم بشعة راح ضحيتها العشرات من البشر الأبرياء.
كان احتلال مدينة الموصل في العاشر من حزيران عام 2014 من قبل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ( داعش ) ومؤازريها من بقايا حزب البعث وذراعه المتمثل بجيش النقشبندية وبعض القبائل العربية ، ومجاميع من المسلحين المناوئين للسلطة ، نقطة تحول مفصلية في تاريخ الدولة العراقية . وسجلت تلك الواقعة انهيارا مريعا لقيادات الجيش العراقي، وهزيمة كاسحة لعدد من فرقه العسكرية. وإثر تلك التداعيات التي حصلت في ثاني أكبر مدن العراق، استطاعت المليشيات العشائرية المسلحة بقيادة داعش التمدد واحتلال مساحات واسعة من جغرافية الشمال والوسط العراقي.
شكل انهيار الجيش العراقي واقتراب فصائل داعش وحلفائها من مناطق بغداد ومدن النفوذ الشيعي، الهاجس المقلق، لا بل التحذير الحقيقي من خطر قادم أرعب القوى السياسية ودفع المؤسسة الدينية الشيعية للتعامل معه بكل ما تمتلك من عزيمة وتأثير، لذا أطلق المرجع الشيعي الكبير السيد علي السيستاني فتواه التي دعا فيها جميع العراقيين إلى الجهاد، بما سماه الجهاد الكفائي، وهو نوع من أنواع الجهاد، يوجه لجماعة محددة من المسلمين، ويسقط عن الباقين. وتعد دعوة السيد علي السيستاني التي أطلقها يوم 13 يونيو 2014 نقطة تحول في طبيعة المعارك على الأرض العراقية، وجاءت في الوقت الحرج، لتوقف التداعيات في جبهات القتال، وتحجم مظاهر انهيار القوات المسلحة.
لبت نداء المرجعية مجاميع كبيرة العدد،وكان تدفقهم مفاجأة للجميع، وما كانت المؤسسة العسكرية المتهالكة لتستطيع استيعابهم، وفي ذات الوقت ما كانت قادرة على تأمين السلاح والعتاد لهم.عند تلك الفارقة التاريخية دخلت المؤسسة السياسية والعسكرية الإيرانية على خط حاجة وافتقار تلك الحشود للتجهيزات والتمويل، لتكون الممول الرئيسي للكثير من تلك الفصائل سلاحا وأموالا ووفق شروط تؤكد على تنظيم علاقة مستقبلية ذات طابع خاص .
كانت هواجس الخوف والقلق لدى المؤسسة الدينية الشيعية العراقية ومثلها غالبية الطائفة وأحزابها الإسلامية من التداعيات المقبلة كبيرة ومقلقة، إن استمرت داعش بالتمدد، وفرض ذلك نوعا من التحدي وعزيمة تخلت كليا عن العديد من التحفظات في سعيها لإنشاء هذا الحشد، وعن المثالب التي اعترت التجميع والبناء. ولم يتوقف زخم التطوع رغم التشكيك والانتقادات التي رافقت سرعة حشد الآلاف في هذا الجيش العرمرم الذي يفتقد المعرفة والعلوم المهنية أو الاحتراف في المهام والسلوك العسكري. ولم تكن الأيام القليلة في معسكرات الإعداد تكفي لجعله قادرا على حسم معارك كبيرة في مناطق متعددة التضاريس وموزعة على رقعة جغرافية كبيرة ومتباعدة، وكذلك مواجهة صولات حرب العصابات التي تجيدها مجاميع داعش ومناصروها. ولكن ورغم الضحايا الكثيرة التي قدمها الحشد الشعبي،والمشاكل والمعوقات الخطرة التي واجهها،استطاع أن يعطي الانطباع بان من الممكن للعزيمة إن ترافقت مع أي نوع من أنواع العقائد، أن تدحر أعداءها أو تقف ندا في وجه مشاريع خصومها ونواياهم، وهذا ما حدث في معارك تحرير آمرلي وجرف الصخر ومناطق حزام بغداد وتكريت والأنبار والدور وأخيرا تحرير الموصل .
تألف الحشد الشعبي من آلاف الرجال الذين انتظموا تحت رايات ما يقارب الأربعين فصيلا. وكان لبعض هذه الفصائل وجود سبق فتوى السيد السيستاني، ولكنها دخلت على خط الحشد الكفائي وأصبحت جزء منه، وراحت تملي وتفرض شروط وجودها وقوتها التسليحية والعددية على باقي مكوناته. ومنذ البداية وبسبب سرعة التشكيل وارتباك الوضع العسكري والسياسي، ظهر ان هيكلة العديد من فصائل الحشد خضعت لرغبات بعض قادة العمل السياسي ورجال المؤسسة الدينية، وأيضا البعض من المقربين لفصائل العمل العسكري الشيعية الكبيرة أو المنشقين عنها. كذلك شارك في الاستعدادات والتهيئة والبناء والقيادة، رجال عشائر من الذين يستمدون قوتهم من قبائلهم. وفي صلب هذا المشهد المتنوع في الشخوص والنوايا، نشأ صراع الإرادات وبرزت ظاهرة التكتلات والاستحواذ على المكاسب المعنوية والمالية والاستفراد للحصول على امتيازات عسكرية وسلطوية وسياسية. ومنذ البداية طفح خيار الرغبات الشخصية لبعض قيادات سرايا الحشد، وللحفاظ على الامتيازات المادية والمعنوية أنشأ كل رجل طامح للقيادة، سرية أو فصيل خاص به، ولم يكن الأمر ليخلو من خيار التبعية للقوى الإقليمية .
ففي الوقت الذي يعلن عن ارتباط سرايا الحشد الشعبي بالمؤسسة العسكرية العراقية، وبالذات بشخص القائد العام للقوات العسكرية، فأن الفصائل الرئيسية الكبيرة وكذلك أخريات غيرها،دائما ما تفصح دون مواربة وبشكل جلي عن درجة استقلالها وابتعادها عن المؤسسات العسكرية الحكومية، وتنفرد بخصوصياتها السياسية والتعبوية والسوقية،ونجد بعض قياداتها العليا تعلن دون توريات ولبس تلقي الأوامر فقط من الولي الفقيه وهو السيد الخامنئي، وتجري كذلك نشاطات واستعراضات عسكرية لا علاقة لها بالمؤسسة العسكرية العراقية، ولم يكن ليأتي هذا الإفصاح اعتباطا، بقدر ما هو وسيلة للتفرد ونزوع نحو الخصوصية السياسية والعسكرية وارتباطا بالعامل الخارجي كموجه وراعي.
أغلب اللوم يوجه اليوم إلى الجانب الحكومي، وتحديدا من ناحية قصوره وتباطئه بدمج حقيقي لهذه الفصائل بالجيش العراقي، ووفق سياقات عسكرية وقواعد قانونية ومهنية بحته، بعيدا عن رغبات وهواجس طائفية أو سياسية.ولكن الفوضى والعشوائية في القرارات واضطراب منهجية التفكير والقصور في فهم الحالة العامة، وسيطرة الذهنية النفعية وتصاعد مظاهر الشخصنة والتفرد والتناحر والتسابق للحصول على المكاسب السياسية والمالية، وارتفاع نسب التخندق الطائفي على حساب الوعي بالهوية الوطنية، مع الارتباط بمشاريع وأجندات من خارج الحدود الوطنية العراقية، من كل هذا وغيره، يمكن أن يضع الفصائل المسلحة بمختلف تلاوينها، على مسافة بعيدة جدا عن المؤسسة العسكرية الرسمية، ومن غير الممكن أن تكون ظهيرا لها. بل سنجدها وبعد انحسار التهديد الخارجي واستفحال وتضخم المصالح الاقتصادية وتراكم المنافع السياسية، أحد أكثر مصادر التهديد للمؤسسة العسكرية وأيضا باقي مؤسسات الدولة، ومن ثم للحريات العامة وأي مشروع لدولة مدنية تسعى قوى الشعب الديمقراطية الوطنية لبنائها.ولنا في الصراع الدائر في السودان ما يشي كثيرا لمستقبل العلاقة والعملية السياسية في العراق إن استمر الفصل بين المؤسسة العسكرية والحشد وفق الخيار الطائفي وتقاسم المنافع وتبادل الأدوار. ومن الجائز القول إن استفحال الخلافات بين قادة الفصائل الكبيرة، يمكن له أن يقوض تجربة الحشد الشعبي ذاتها، ويدفع مستقبلا إلى احتراب وقتال ضارٍ، إن لم يستطع العراب الخارجي للفصائل كبح حدوثه،وهذا يذكرنا بحصار البرلمان والمعركة التي دارت عند أبوابه على عهد وزارة السيد الكاظمي. فالسلطة العراقية في مثل تلك الأحداث لن تجد القدرة على وقف تداعياتها، لتكون بالنتيجة النهائية عاملا ناسفا لتجربة الديمقراطية الهشة التي بنيت عليها مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية.
ليس هناك في الأفق ما يشي بخروج سحري من المأزق، فسياسات السلطة وترددها، وضعف مؤسسات الدولة وتعدد الولاءات فيها، قاد لاستشراء وانتشار السلاح والمجاميع المسلحة، موزعة على كامل الخريطة الجغرافية للعراق. ومع تضخم تلك المجاميع وقدراتها العسكرية، وتنوع مرجعياتها ، وضعف المؤسسة العسكرية وترهلها وتعدد ولائها ومرجعياتها،فان ذلك يجعلها الطرف الأضعف في معادل القوة أمام الفصائل المسلحة إن جد الجد. ولا يمكن التطرق لمجمل تلك العيوب والأخطار المحدقة بالمؤسسة العسكرية،دون ربط ذلك بالفشل الذي يعتور عمل مؤسسات الدولة بعمومها، والعجز في سلطة الدولة وانتشار الفساد الإداري والمالي بين أوساطها وتعدد الرؤوس وخضوع القرارات للمزايدات والتوافقات السياسية والاقتصادية.