أ. د. لاهاي عبد الحسين
بدءً لا بد من القول إن علي الوردي ليس بحاجة إلى دفاع من أحد. فقد دخل تاريخ الثقافة والعلوم الإنسانية والاجتماعية العراقية وأخذ مكانته المعترف بها سواء ممن أعجبوا به أو تذمروا منه وانتقدوه. أضف إلى ذلك هناك الكثير مما يمكن الانشغال به بدل المرافعة عن الوردي الذي هو في غنى عنها. يبقى أنّ الالتزام الأدبي والأخلاقي يتطلب مشاركة لتوضيح ما التبس على البعض أو جهله عمداً، أو بغير عمد. يكفي علي الوردي شرفاً أنّ أعمالاً تصدر ومحاضرات ولقاءات تعقد هنا وهناك تستقطب اهتمام الكثيرين في العراق وخارجه، في الماضي والحاضر على حد سواء. لعل أحدث ما صدر بشأن علي الوردي تخصيص مائة صفحة الأولى في كتاب، "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث”، للدكتور عبد الجبار الرفاعي، الصادر عن دار الرافدين مطلع العام الجاري 2024. يستهل الرفاعي كتابه بالدعوة إلى لقاء الفكر العربي والإيراني بذات الدرجة التي لقي فيها الفكر الغربي اهتماماً من قبل أركان الفكر العربي، منبهاً إلى انفتاح الإيرانيين على الغرب ورغبتهم بالقيام بذات الجهد مع الفكر العربي. هذه مسألة مفروغ منها. فقد سبق أنْ خصص الدكتور عبد الرحمن بدوي حيزاً مهماً من سيرته الذاتية المهنية المنشورة عام 2000 من قبل المؤسسة العربية للدراسات والنشر لما لقيه في المؤسسات الأكاديمية والبحثية الإيرانية من علم واهتمام وقدرة ممتازة على الجهد والابتكار الفكري. ولا تزال المسيرة مستمرة. فقد تلقيت قبل أيام فقط بحثاً من أكاديمي إيراني عرّف نفسه باسم كامران ربيعي يطلب فيها استشارتي لبحث كتبه في ضوء نظرية علي الوردي لفهم المجتمع العراقي باللغة الإنكليزية، ولا زلت بصدد تقييمه ومراسلته للتعبير عن قناعتي العلمية.
يتأسى الرفاعي على الوردي لأنه حسب قراءته "كان ضحية جفاء في وطنه وغير وطنه …”. وكذلك الحال في العشرين سنة الأخيرة، "إذ لم تهتم مراكز البحوث والأكاديميات العلمية في وطنه، ولم نقرأ دراسات تحليلية نقدية جادة لأعماله، وقلما صارت هذه الأعمال مادة للدراسات العليا في العلوم الإنسانية”. بدلاً من ذلك يستطرد الرفاعي ظهرت "موجة جماهيرية” صارت تطبع وتبيع كتبه وكأنها "قصص عنترة بن شداد، والسندباد البحري، والزير سالم، وأمثالها”. يضيف الرفاعي أنّ الوردي "خارج وطنه جفاه المثقفون والأكاديميون العرب حتى اليوم، إلا في حالات استثنائية، وكأن هناك تواطؤاً على نسيانه”. بل إن الجامعات العربية بنظر الرفاعي، لم تهتم به ولم تتبن دور نشر عربية مشروع إعادة طبع أعماله. لم يوثق الرفاعي ولو بالإشارة مصادره لهذه الاستنتاجات المتلاحقة بشأن الوردي. ولنا أنْ نذكر هنا أنّ وزارة الثقافة، دار المأمون وبمسعى من الدكتور علاء العلاق شرعت بتكليف عدد من خيرة المترجمين العراقيين لترجمة كتابه ذي الأجزاء الستة، "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، لأغراض غير تجارية وتوزيعه على السفارات العراقية في دول العالم. كان ذلك عام 2015 حيث كلفت في حينها من قبل العلاق، باقتراح من عائلة الوردي للقيام بدور المراجع، ووافقت على الفور وفاءً واحتراماً لذكرى أستاذنا الوردي. بيد إن المشروع أوقف عن العمل بسبب عدم الحصول على موافقة كل أفراد العائلة. كما حاولت مؤسسة المدى الحصول على الموافقة القانونية من ورثة الوردي قبل سنوات لإعادة نشر أعماله كما علمت من رئيس التحرير السابق الأستاذ الراحل عدنان حسين إلا أن الموافقة لم تحصل من قبل العائلة، أيضاً. ولا بد أنّ هناك محاولات أخرى جرت لهذا الغرض من قبل دور نشر أخرى ولم تحصل الموافقة لهذا السبب أو ذاك. كما تبنت الجامعة الأمريكية في بيروت بالتعاون مع دور نشر ومؤسسات بحثية دولية عقد مؤتمر لمناسبة الذكرى المئوية الأولى لولادة الوردي في بيروت شتاء عام 2013 شارك فيه عدد من الباحثين من مختلف الاختصاصات العلمية. صدر كتاب عن المؤتمر ضم البحوث التي قدمت فيه باللغة العربية حصراً وكان بعنوان "علي الوردي: منظورات متنوعة”، عن دار الرافدين عام 2016.
وأخيراً وليس آخراً صدور كتاب الدكتور ناهض حسن جابر الساهوكي والذي كان بعنوان "البعد السياسي في فكر علي الوردي" عن مركز حمورابي للبحوث والدراسات االستراتيجية عام .2014 هذا إلى جانب عدد آخر من الدراسات المهمة السابقة لهذا التاريخ لعل من أبرزها كتاب الدكتور إبراهيم الحيدري والذي كان بعنوان "علي الوردي : شخصيته ومنهجه وأفكاره االجتماعية"، صدر عن دار الجمل عام .2006 وخصت الباحثة والناقدة فاطمة المحسن علي الوردي بعدد من الصفحات التي ظهرت في كتابها، "تمثالت الحداثة في ثقافة العراق"، الصادر عن دار الجمل عام .2015 وصفت المحسن الوردي بأن ه ارتقى حتى بعد وفاته إلى أ ن يكون "ايقونة من ايقونات الثقافة العراقية"، بل إنه نافس "الشعراء من حيث المكانة الجماهيرية".
االجتماع في العراق"، عن دار ضفاف عام ،2018 للدكتور الراحل كريم محمد حمزة. استهل حمزة الكتاب بفصل عن علي الوردي ضمته الصفحات من -33 .73 وصف حمزة مشاركة الوردي في أنها تقع في ميدانين رئيسيين هما: تأليف الكتب وإلقاء المحاضرات. وذكر حمزة أيضا،ً من بين ما ذكره مشاركة الوردي في البرنامج المعروف حينها "أنت تسأل ونحن ن جيب "، والذي أستبدل اسمه فيما بعد إلى "أنت تسأل ونحن
نناقش "، باقتراح من الوردي لكون التسمية الجديدة أكثر علمية وأكثر دقة من التسمية السابقة. علق الوردي قائال:ً ال نملك إجابات ، ولكننا نناقش ونأمل بإثارة االهتمام بالقضايا االجتماعية بصدد تغيير التسمية المطروحة. شارك الوردي فيما بعد ببرنامج الندوة الثقافية التي كان يديرها الدكتور حسين أمين ويشارك بها األستاذ سالم اآللوسي عام .1960
وأصدر الد كتور محمد عيسى الخاقاني كتاباً عن علي الوردي عام 2013 كان بعنوان، "مئة عام مع الوردي"، صدر عن دار الحكمة عرض فيه بالتفصيل لمشاركة الوردي الفاعلة في مجالس بغداد الثقافية ولقاءاته بنخبة مثقفي البلد آنذاك وحواراته معهم ومن ثم مشاركته بتأسيس مجلس الخاقاني الذي عقد لقاءاته مساء اإلثنين من كل أسبوع لعدد من السنوات . حضر الوردي وشارك حسب الخاقاني في مجلس العالمة السيد هبة الدين الشهرستاني، ومجلس آل الشعرباف، ومجلس الدكتور عبد الرزاق محي الدين، ومجلس منتدى أبي حنيفة بإدارة الدكتور رشيد العبيدي، ومجلس الد كتور محمد جواد الغبان، ومنتدى بغداد في. كما يذ كر الخاقاني أيضاً بعدد مهم من الكاظمية، ومجلس الدكتور عبد الحميد الهاللي في الوزيرية، إلخ فيها باحثا .1988-1953 فقد أستضيف من قبل مؤسسة ً ومحاضراً الزيارات العلمية شارك للفترة من روكفلر األمريكية عام 1953 في لبنان. أعطى محاضرات متنوعة في جامعات سورية ولبنانية وإيرانية وتركية عام .1957 ذهب إلى جامعة بكين عام ،1958 وجامعة طهران عام 1960 محاضرا.ً وأستضيف من قبل المركز القومي للبحوث القومية في مصر عام .1962 وحاضر في جامعة جنيف عام ،1966 وجامعة القاهرة عام ،1967 وجامعة الكويت عام .1968 وأمضى فترات متقطعة للتدريس وإعطاء المحاضرات في قسم الدراسات اإلسالمية في جامعة بولونيا للفترة من .1988-1984
من جانب آخر، يعتبر كتاب "األعمال الفكرية للدكتور علي الوردي في المجالت والصحف العراقيةوالعربية: المجموعة الثانية 1995-1944 )حوارات الوردي( جمع ودراسة وتعليق الدكتور طارق نافعالحمداني الصادر عن دار الوراق عام ،2023 أحدث ما نشر على هذا الصعيد. يقع الكتاب في أكثر من600 صفحة من القطع الكبير. وكان الكتبي سعدون هليل قد جمع أعمال الوردي في الصحافة العراقيةونشرها في كتاب حمل عنوان "علي الوردي في النفس والمجتمع" للفترة من 1989 إلى 1990 ضمتمقاالته المنشورة في جريدة االتحاد الصادرة عن اتحاد الصناعات العراقي. بلغ عدد المقاالت المنشورة فيهذا الكتاب ولسنة واحدة فقط 55 مقالة احتلت أكثر من 300 صفحة.بالعودة إلى "مفارقات وأضداد ..." يصف الرفاعي الوردي بأنه "مثقف ديني"، وأنه كمثقف ديني ولد "والدةمجهضة". جاء ذلك في مطلع الفصل الذي خصصه للوردي في الكتاب، وهذا خطأ جسيم. إن قراءة علميةلمنتج علي الوردي الغزير تظهر بوضوح أنه عالم اجتماع علماني بامتياز. فهو ال يعبر عن موقفه الشخصيبأهميتهامن الدين، وال يتخذ موقفاً دينيا،ً وإنما يدرس الدين كمؤسسة ونظام للعقيدة دراسة علمية معترفاًوحضورها وتأثيره ا على ثقافة المجتمع وسلوك األفراد فيه. يبقى القول إن الوردي عالم اجتماع، وليس مثقفاًفقط كما دأب الرفاعي على تسميته ألنه تجاوز مرحلة المثقف بحكم الدرجة العلمية التي نالها، والجهد العلميالذي واصله بعد الحصول على تلك الدرجة . تشهد على ذلك كتبه المنشورة ومقاالته ومحاضراته والتييتطرق الرفاعي إلى جانب منها بقوله إن الوردي لم يحاضر في حسينية أو جامع . نعم، دأب الوردي علىم يكن دينياً الذهاب إلى مرقد اإلمام الكاظم والتق ى بشخصيات دينية ، ولكنه بالتأكيد ل ولم يشأ أ ن يكون داعيةكما فعل علي شريعتي الذي خصه الرفاعي بأربع صفحات ضمن هذا الفصل المكرس للوردي. يقدم الورديفي كتابه ذائع الصيت على سبيل المثال، "وعاظ السالطين" أطروحة في العالقة بين الدين والدولة . وهذهمسألة حيوية اهتم بها علماء االجتماع، وكتبوا فيها كما فعل عالم االجتماع األلماني ماكس فيبر صاحبكتاب، "أخالق البروتستانتية وروح الرأسمالية" الصادر بترجمته اإلنكليزية عام ،1930 بقلم عالم االجتماع.
أ. د. لاهاي عبد الحسين