( دُروبُ المَوت 2) من الإعدام الى الحرية 1979
    الثلاثاء 22 يونيو / حزيران 2021 - 18:43
    قاسم محمد الكفائي
    المقدمة
    نضجتُ عمرا وعقلا وموهبةً وكبُرت معها مخاطرُ الحياة والسياسة فصرتُ أتشهى مشاكسة الوضع القائم وأحسبُه مسألةً هيِّنة، اتصرفُ بلا محذورٍ بعد نجاح الثورة الاسلامية في ايران بزعامة الامام الخميني تقدست روحُه الطاهرة.
    هذه الثورةُ صنعت فينا نحن الشباب روحا نضالية أخرى ما كنا نعرفها لما لها من خصوصية جعلت فينا الروح تتوهج ومختلفة عن روح ما قبل الثورة. يمكن لنا القول أنها أشعلت فينا نحن العراقيين جذوة ما انطفأت وما زالت متوهجة حتى ما بعد سقوط صدام حسين وأركان نظامه.
    في صباح اليوم التاسع من حزيران 1979 كان موعدنا لعمل تظاهرة نفاجىء بها دوائر الأمن تبدأ من صحن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في النجف الأشرف، أو خارجة من جهة شارع الإمام الصادق. المُهمة تعتمد بنجاحها على حضورنا نحن الشباب المتحمس في هذين المكانين، الغرض منها هو التأييد للثورة الإسلامية في إيران وإعلان المساندة للسيد محمد باقر الصدر-تقدست روحه الطاهرة-. الذي بلّغني قبل يومين هو صديقي ( ك. ف.ب ). هذا الرجل كان مؤثرا في نفسي وأفكاري في كثير من قضاياي. وصلنا فرادا الى مدينة النجف الاٌشرف فالتقيتُ ببعض الأصدقاء، كانت بيننا لغةُ الإشارة. بقيتُ أدورُ ما بين المسجد الهندي والصحن الشريف، فالتقيتُ في المسجد صديقي ليبلغني بتأجيل التظاهرة وطلب مني الإنسحاب بسبب القوات الأمنية المنتشرة بالآلاف في كل زاوية من زوايا المناطق الإستراتيجية في النجف كان أهمها الصحن الشريف وحول بيوت المراجع الدينية والحوزات والمساجد المعروفة مثل مسجد الخضره والهندي والترك والشوشترية وغيرها. في اليوم التالي رجعت الى نفس المناطق علّي أجد فيها تظاهرة لأشارك فيها ( تلك الأيام كانت موسم تظاهرات تأييدا لمواقف السيد الصدر) ولما يأستُ بعد ساعات ذهبت الى دار السيد الصدر، تلك الزيارة كانت موضوع بحث مقالي المنشور سابقا على هذا الموقع المحترم بعنوان (محمد باقر الصدر واليوم الأخير )، يمكن لزميلي القارىء مطالعته. فكانت هذه الزيارة الأخيرة لآخر يوم أرى فيه السيد الصدر تقدست روحه الطاهرة. ذكرتُ في المقال أنه تم اعتقالي في أمن النجف الأشرف وبقيت أواجه التحقيق العنيف في دائرة أمن أخرى نقلوني اليها، تولاه ضابط الأمن محمد عباس من أهالي المسيب الذي يعرفه الكثير من السجناء على مستوى العراق بأنه أعنف وأوسخ رجل عرفته دوائر المحققين. بناء على كل ما ورد في ملف التحقيق فإن نتيجة الحكم بحقي هو الإعدام وكان ملفي مع ملفات أخرى مُحالة إلى محكمة الثورة ببغداد. لما زار الرئيسُ السوري الراحل حافظ الأسد رحمه الله بغداد استقبله حينها الرئيسُ أحمد حسن البكر ونائبُه صدام حسين في الشهر السابع من عام 1979 (هكذا أتذكر) كنتُ أشاهدُ التلفاز من ثقب شباك الزنزانة الصغيرة، فرحتُ أنا ومن معي واستبشرنا خيرا بخلاصِنا من محنتنا فتوقعنا خلط أوراق سياسية لا نفهمها بالضبط تُعيننا على خلاصِنا من محنتنا، فكانت أمنيات وأحلام غريق يتشبث بغصن زيتونٍ طافٍ على سطح الماء كي يُنقذه. هكذا كان وضعُنا داخل الزنزانة الصغيرة التي لا تسِع سوى لشخصين بينما نحن خمسة أو ستة مثلا، فما كان حاجزٌ بيننا والموت سوى فضلُ الله ومشيئتُه سبحانه. صدام حسين النائب كان يخططُ ليصبحَ رئيسا للبلاد ليُحقق بهذا المنصب كلَّ أمانيه التي عمل وحضّرَ لها منذ إنقلاب عام 1968. هذه الأماني لا يُرتجى منها إسعاد الأسرة العراقية، وتعبيد الشارع العراقي، وبناء الحي السكني تحت ظلال مفاهيم الديمقراطية وحقوق المواطن بقدر ما هي تحقيق منافع وطموحات شخصية بعضها بدافع الإنتقام من بعض رفاقه الذين لا يكنّون الولاء لشبكته السرية. فاجتمعت في جعبته الأسباب والمبررات أن ينقضَّ على البكر، كان أولها قيام الثورة الإسلامية في إيران، وثانيها الإنتقام من خصومه الرفاق وثالثها إبعاد سورية عن الواقع العراقي إجتماعيا وسياسيا لأن المجتمع العراقي يكن بهمس الإحترام والمحبة للدولة السورية ويتأثر بإعلامها الرزين بينما يمقت الإعلامَ الحكومي للدولة العراقية الزاخر بالمصطلحات الرخيصة، والتعليقات الخالية من أية مصداقية ولم يتأثر العراقيون بها. فلما تنحّى البكر العجوز طوعا (تلفيق) في السادس عشر من تموز لعام 1979، وصار (أبا) وليس رئيسا بحسب توجيهات إعلام الحكومة االجديدة إنتهى دورُه في مؤسسات الدولة، ووصلت رتبته الى راعي بقر(قسم الإشاعات في رئاسة المخابرات كان له الدور الفاعل في تسقيط شخصية البكر لدى الجماهير)، فصار صدام الشاب الطموح هو الرئيس والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس قيادة الثورة والأمين العام المساعد للحزب. كانت توقعاتنا نحن السجناء في ظروف الصراع مع الموت والوقائع التي شهدها العراق لا تشجعنا بالتفكير بطول الحياة إلا ما رحم ربي حتى جاء يوم الثاني والعشرون من ذلك الشهر حيث أعلن المذيع عَبر تلفاز بغداد القبض على كبار المسؤولين في الحزب والدولة من المتعاونين مع الحكومة السورية في إسقاط الثورة بقيادة محمد عايش.
    في حينها ضحكنا نحن السجناء مستهزئين بالخبر، وشعرنا بالرُعب يدخلُ قلوبَنا، فما بين تولي صدام منصبه الجديد وبين كشف شبكة العملاء أياما معدودات، تتبعها كذلك صدور قرارات الإعدام بعد بضعة أيام أخرى. كانت القصة كلها عبارة عن مسرحية ركيكة الأداء بطلها صدام حسين دفع ثمنَهَا رفاقهُ الذين رفضوا سلوكَه المنحرف، ولا يَأمَنون جانبه على مستوى الحزب والحكومة. بعضُ هؤلاء الرفاق كان يتمتع بمستوى ثقافي عالٍ والآخر مهني لا يريد لصدام أن يستحوذَ على مؤسسات البلاد فيديرها بسلوك الشقي المنحرف خارج دائرة الثقافة والمهنية.  في كل الأحوال علينا أن لا نُعَمِّم السوء حتى نكون منصفين، وإن يكن هذا التوصيف لا يُجدي ولا يمنع أن تبقى إرادةُ الشعب هي العليا في تغيير ذلك الواقع الظالم المنحرف الذي لا يُطاق.
    في زمن الخوف تذكرتُ قصةً كنتُ شاهدا عليها، دلّتني على حقيقة الشبكة السرية التي كان يديرها صدام حسين للتجسس على رفاقة وكيف كانت دقيقة في عملها. جمعتني ظروف الصداقة أن التقي لمرات نعيم آل مضهر وهو بعثي قديم ومديرالجمعيات الفلاحية في مدينتي وترقّى الى مديرعام الجمعيات الفلاحية في العراق كما أتذكر، كان رجلا وقرا وذا خلق عشائري، ذات ليلة قبل اعتقالي عام 1979 كنا جالسين سويا في بيت صديق لنا وكنا نشاهد التلفاز حين ظهر في لقطات الأخبار الرئيس أحمد حسن البكر، نظر نعيم مَليا الى رئيسه فقام بحركة تدل على الإعجاب (مص شفتيه فأظهرتا صوتا أشبه بالصفير ثم قال كلمة فيها كفر مبرم هو يقصد التعبير عن مدى ولائه للرئيس البكر – تسوه حتى أ... رجل عفوي لا يفقه من العلم شيئا). نعيم كان بصحة جيدة تماما حين التقيته تلك الليلة ولما أُفرج عني لم يبق طويلا بعد تسنم صدام منصب الرئيس وإعدام رفاقه حتى أعلنت الصحف وفاة نعيم آل مضهر بالسكتة القلبية فدفنوه بصمت دون مشاركة أقرب أصدقائه (أنا أعرف بعضهم) في مراسم الدفن الذي لم تسبقه مراسم التشييع إطلاقا. وفي زمن الخوف أيضا، أي السادس والعشرون من تموز صدرت قرارات مجلس قيادة الثورة بإطلاق سراح السجناء السياسيين الذين ملفاتهم على ذمة رئاسة محكمة الثورة ببغداد أو المحكومين بالإعدام، فكان ملفي فيها رهن الإجراءات الروتينية، مؤشَر عليه بقرار الإعدام  حتى شملني قرار العفو فأطلقوا سراحي بعد حين وتم طردي من عملي الحكومي. الى حلقة ثالثة قادمة.

     قاسم محمد الكفائي 
    Twitter..Qasim Alkefae


    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media