د. عقيل عباس
صمتت كتب التاريخ العراقية ومؤسسات الثقافة الرسمية وغير الرسمية عن دور اليهود العراقيين المحوري في صناعة الثقافة الحديثة في البلد، أي مساهمتهم الهائلة في تشكيل وقائع إيجابية في حياته. المساهمة الأهم، والخافية عن الرأي العام العراقي، هي في مجال التنوير عبر جلب التعليم المدني الحديث على الطراز الأوروبي للبلد.
كانت البداية في العقد السادس من القرن التاسع عشر، عام 1864 تحديداً، عندما قرر يهود عراقيون متنورون فتح فرع في بغداد لمدارس الأليانس الفرنسية. أسّسَ مشروعَ مدارس الأليانس عام 1860 يهود فرنسيون وبريطانيون متأثرون بقيم الثورة الفرنسية الداعية الى المساواة والحرية والأخوِّة بين البشر، واعتبروا أن نشرَ التعليم الحديث هو إحدى أفضل الوسائل لنشر التسامح بين الناس ومحاربة الكراهية ضد اليهود. افتُتحت هذه المدارس في دول كثيرة في الشرق، في تركيا وإيران ومصر، لكن العراق كان البلد الأول الذي ظهرت فيه. لم يسبقه في العالم العربي إليها إلا المغرب الذي افتُتحت فيه مدرسة الإليانس في 1862.
كان منهج هذه المدرسة، المفتوحة أيضاً للطلبة المسلمين والمسيحيين، مدنياً ويتبع رسمياً النموذج الدراسي الفرنسي عبر تدريس مواد الرياضيات والجغرافيا والتاريخ والآداب والعلوم. كان التعليم يتم باللغة الفرنسية، مع تدريس اللغتين التركية والإنكليزية في مراحل لاحقة، فيما اقتصر تدريس اللغة العبرية على الطلاب اليهود فقط. بعد انتهاء السيطرة العثمانية على العراق واعتبار العربية اللغة الرسمية في البلاد، بدأت هذه المدارس، عام 1924، بتدريس العربية وأزيلت اللغة التركية.
كانت السنوات الأولى صعبة على هذه المدرسة، في بلد كان يرتاب معظم سكانه بالحداثة ويعتبرها تهديداً لقيمه الدينية والتقليدية الراسخة. لذلك أثار افتتاح المدرسة في بغداد نزاعاً كبيراً في داخل المجتمع اليهودي بين مؤيد لها ورافض. كان الرافضون أكثر عدداً وأقوى مؤسساتياً، الأبرز بينهم المؤسسة الدينية اليهودية بسبب خوفها من أن يؤدي افتتاح مدرسة مدنية حديثة تقوم على الفصل بين الدين والمعرفة، إلى إضعاف الانتماء الديني لليهودية وتهديد المدارس الدينية التي كانت تحتكر التعليم وتديرها المؤسسة الدينية. هكذا أصدر أحد الحاخامات الغاضبين، يوسف حاييم، فتوى، دعمه فيها حاخامات كثيرون، تُحرِّم إرسال اليهود أطفالهم إلى هذه المدرسة، لتُغلق هذه الأخيرة أبوابها قبل أن تكمل عامها الأول.
لكن المجتمع، أي مجتمع، ليس متجانساً، فهو دائماً ما ينطوي على التنوع ووجود قوى داعية للتغيير. كان من بين داعمي التغيير حاخام بغدادي آخر، تقليدي عموماً، لكن بنزعة إصلاحية محدودة، هو عوفاديا سوميخ الذي أصدر فتوى دعماً للمدرسة وإعادة فتحها، بل أرسل ابنه للتعلم فيها وحضر هو بنفسه إعادة الافتتاح في نهاية عام 1865. ما زاد في أهمية دعم الحاخام سوميخ للمدرسة الجديدة هو أنه كان أيضاً صهراً (والد زوجة) الحاخام حاييم الذي أصدر فتوى التحريم، فضلاً عن إدارته مدرسة دينية معروفة، بمعنى أنه لم يجد التعليم المدني مناقضاً للتعليم الديني. أيضاً بمرور الزمن مع استمرار بعض المعارضة لها في الأوساط الدينية لها، قدمت المدرسة الجديدة، مع ازدياد عدد طلابها، تنازلات كما في بناء معبد يهودي مجاور لها.
المدرسة التي أثبتت نجاحها، حظيت تدريجياً بدعم أوسع في المجتمع البغدادي، إذ زارها والي بغداد، والإصلاحي الأبرز في الدولة العثمانية، مدحت باشا، في 1870، وَمدَح أداءَها، قبل إنشائه أول مدرسة حكومية للتعليم المدني في بغداد. على امتداد عقود العهد العثماني اتسعت مدارس الأليانس، إذ بُني المزيد منها في بغداد، واحدة للبنات، وفي البصرة والموصل والحلة وكركوك ليبلغ عدد طلابها مع نهاية السيطرة العثمانية على البلد بضعة آلاف، بينهم مسلمون ومسيحيون. تُعزى إلى منظومة مدارس الأليانس الزيادة الكبيرة في عدد الموظفين اليهود في الإدارة البريطانية ثم الملكية التالية على نحو يفوق كثيراً نسبتهم السكانية العامة، وذلك بخلاف الشيعة الذين أدى الغياب التام للتعليم المدني بينهم (باستثناء مدرسة مدنية واحدة فقط في الكاظمية) إلى تراجع فرص عملهم في الدولة، وبالتالي ضعف تمثيلهم كشريحة سكانية في الجهاز الإداري للدولة الجديدة. ازدهرت منظومة الأليانس أكثر في العهد الملكي وانتشرت مدارسها وحظيت بدعم كبار رجال الدولة، إذ زار بعضها الملك فيصل ورئيس الوزراء جعفر العسكري في 1924، كما حضر الأمير غازي إحدى حفلات تخرج الطلبة فيها وألقى كلمة هناك.
تواصلت حياة مدارس الأليانس في العراق الملكي وبقي نموذجها الناجح محطَ إعجاب الكثيرين ومنافسة آخرين. بدأ هذا النموذج يتراجع تدريجياً بعد الهجرة الاضطرارية الواسعة لليهود العراقيين في بداية الخمسينات، ثم جاءت الأنظمة العسكرية الجمهورية، بنزوعها القومي، لتقوم بفرض قيود وتحديدات متزايدة على المتبقي من مدارس الأليانس التي اتخذت أسماءً مختلفة حينها، إلى أن أُغلقت، عبر تأميم التعليم، في العهد البعثي الثاني في مطلع السبعينات. على امتداد حياتها العراقية الطويلة التي تواصلت على مدى أكثر من قرن من الزمان، دخل آلاف المسلمين والمسيحيين العراقيين في هذه المدارس وتخرجوا منها ليذهبوا للدراسة في جامعات مختلفة داخل العراق وخارجه. تألق كثيرون منهم وبرزوا في قصة هذا البلد في سياقات مختلفة ثقافية وسياسية، مثل رئيس الوزراء في العهد الملكي توفيق السويدي، والكاتب التنويري ووزير المالية المسيحي يوسف غنيمة، والفقيه واللغوي محمد بهجة الأثري.
بخلاف الصورة النمطية السائدة بين العراقيين عموماً عن اليهود على أنهم مجموعة واحدة متجانسة تتصرف على نحو متشابه، بل متفق عليه، كان الخلاف المبكر بين اليهود العراقيين بخصوص مدارس الأليانس تعبيراً حقيقياً ومبكراً عن خلافات جدية تعكس تنوعاً واسعاً، ليس فقط بين اليهود العراقيين، بل أيضاً بين العراقيين المسلمين تالياً. تمحور أهم هذه الخلافات وأشدها تأثيراً على نوعية الحياة التي يعيشها المجتمع حول معنى الهوية. إنه الخلاف الذي تحول صراعاً عميقاً في المجتمعات المشرقية بين الحداثة والتقليد، أي بين ما أنتجته حضارة غربية منتصرة، هيمنت دولها على المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، من معارف ومؤسسات وتنظيم للحيز العام على أساس قيم العقلانية والفردانية، وبين التقليد الذي استند الى خليط من التراث الذي يفسره ويهيمن على معناه رجال دين مُرتابون بالغرب وروح محافظة اجتماعية تغذت على العصبيات العشائرية والعائلية والمناطقية.
خاض اليهود العراقيون صراعهم هذا على معنى الهوية، بين التقليد اليهودي والحداثة الغربية، في إطار خلافهم الشديد حول مدارس الأليانس وتأثير التعليم والتوظيف، بما يعنيه الاثنان من انخراط في الحيز العام، على صياغة الهوية. في آخر المطاف، وبعدما حسم الجدل لمصلحة التحديث، حافظت الهوية اليهودية العراقية على حسها بالأصالة والفرادة في سياق تصالحها مع الحداثة بافتراضاتها واكتشافاتها المختلفة. سبق اليهود العراقيون غيرَهم من العراقيين في خوض هذا الصراع بأكثر من ستين عاماً، قبل أن تجد غالبية البلد المسلمة نفسها بإزاء هذا الصراع في عشرينات القرن العشرين وثلاثيناته، في إطار تشكيل الدولة الوطنية الملكية وترسيخها. حينها بدأ في عراق الدولة في العشرينات جدل التعليم المدني الحكومي بإزاء التعليم الديني، إذ رفض معظم المسلمين العراقيين، خصوصاً الشيعة منهم، الذهاب للمدارس الحكومية التي كانت الدولة الملكية تُنشئها (وورثت بعضها من الإدارة البريطانية قبل تشكيل الحكم الملكي). تراجعت تدريجياً الممانعة الشعبية العراقية ضد التعليم المدني الحكومي، ليصير هذا التعليم مقبولاً في الثلاثينات. لكن بعد قرن من جدل التعليم العراقي، لا يزال المجتمع العراقي ودولته، خصوصاً بعد 2003، في إطار صراع ضار آخر على الهوية بين تقليد ترسخ من جديد في الثلاثين عاماً الماضية، وحداثة يتغنى بمنافعها الكثيرون، لكنهم يترددون عن الخوض في غمار تجربتها.