مصطفى الكاظمي: براعة أن يكون الرئيس ضعيفاً (2 من 3)
    الأربعاء 6 يوليو / تموز 2022 - 06:44
    د. عقيل عباس
    أستاذ جامعي
    عندما تولى السيد مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء العراقية في أيار (مايو) 2020، وجد نفسه بإزاء ملفات أشد صعوبة وأكثر تعقيداً، مالياً واقتصادياً وميليشيوياً، مما تصوره هو على الأغلب. نتجت معظم هذه الصعوبات الإضافية من السياسات الاقتصادية الخاطئة، بل الكارثية أحياناً، لحكومة السيد عادل عبد المهدي، إذ سلّمت حكومته لخليفتها خزينة شبه خاوية، لم يكن فيها ما يكفي لتأدية الالتزامات الشهرية الأساسية لدفع رواتب موظفي الدولة ومتقاعديها.

    احتاج الأمر براعة وزير المالية علي علاوي والقدرة على الاقتراض الداخلي لحل الأزمة على المدى القصير. ارتبطت هذه الشحة المالية بتبني حكومة عبد المهدي فهماً كينزياً مشوهاً للاقتصاد على أساس جون مينارد كينزي الذي حاجج في سياق اقتصادي غربي رأسمالي مختلف تماماً عن السياق العراقي الريعي، لمصلحة تدخل الدولة في الاقتصاد عبر الإنفاق المتصاعد الذي يمكن أن يحفز الدورة الاقتصادية، خصوصاً في أوقات الركود الاقتصادي.

    ضخت حكومة عبد المهدي أموالاً كثيرة في الاقتصاد العراقي لتحريكه، عبر نقل هذه الأموال من خزينة الدولة إلى أيدي المواطنين، وبالتالي السوق. كان بعضها مواصلةً لسياسات حكومية سابقة كما في شراء الدولة مثلاً محاصيل زراعية من فلاحين محليين بأعلى من قيمتها الحقيقية، فيما كان بعضها الآخر جديداً، وذا تأثير بنيوي كارثي وطويل الأمد، كما في إحالة حكومة عبد المهدي للتقاعد نحو 200 ألف موظف في ظل قانون تقاعد مبكر سيّئ كي تفسح المجال لتوظيف مئات آلاف آخرين. كان هذا مثالاً على السياسات الاقتصادية القصيرة النظر والخاطئة بنيوياً التي تحاول حل مشكلة عاجلة لتخلق مشكلات آجلة أكبر، كما في تضخم الالتزامات المالية الطويلة الأمد للدولة التي ستلتهم معظم الفائض النفطي الحالي بل تتجاوزه لتثقل على المستقبل المالي والاقتصادي للبلد وتعوق إصلاحات مستقبلية للاقتصاد.
     
     
    ميليشيوياً، كانت المشكلة أوضح حضوراً وأشد خطراً وأكثر إقلاقاً للحكومة الجديدة. افترض عبد المهدي، الذي أولى الأفكار انتباهاً أكثر من سياقات تطبيقها، حيث فشله الأكبر كسياسي، أن دمج الفصائل المسلحة بالدولة، سواء كانت هذه الفصائل حشديةً أم ميليشيوية أم الماهرة في إعادة تعريف نفسها بين الاثنين حسب حاجة اللحظة، سيدفعها تدريجياً إلى التخلي عن شدتها الأيديولوجية لمصلحة الاعتبارات البراغماتية، كي يتم تدجينها بالتدريج عبر الدولة. ما حصل هو العكس تماماً: حاولت هذه الفصائل الهيمنة على الدولة وكسبها لأيديولوجيتها القائمة على الصراع وتأجيل الحياة! ازداد اعتماد النظام السياسي على هذه الفصائل بعد اندلاع احتجاجات تشرين، في إطار خوف الحكومة من اقتحام المحتجين للمنطقة الخضراء وإطاحتهم الطبقة السياسية. سمح عبد المهدي بإدخال مسلحي الفصائل إلى المنطقة بأعداد كبيرة، والتمترس فيها وحواليها، ومنحهم أسلحة بعضها أميركي متطور لصدّ أي اقتحام احتجاجي محتمل لها.

    لم تستطع حكومة الكاظمي حل مشكلة وجود مسلحي الفصائل هناك، بل سرعان ما وجدت نفسها في صراع صعب، وغير معلن أحياناً، بسببها. كانت الفصائل أكثر براعة من الحكومة في إدارة هذا الصراع: تختار أوقات الاستفزاز وأماكن الضرب لتُظهر الحكومة ضعيفة وعاجزة في موضع من يدين ويتوعد، لكن غالباً من دون القدرة أو الرغبة بفعل أمور حاسمة. كانت حادثة الدورة في حزيران (يونيو) 2020 نقطة التحول المهمة بخصوص فهم الفصائل لخصمها الحكومي: تجنبه الدخول في مواجهة حاسمة معها. بالنسبة للكاظمي مثل هذه المواجهة، لو قرر خوضها، غير مضمونة النتائج وقد تعوق تحقيق الهدف الأساسي وراء تشكيل حكومته: إجراء انتخابات مبكرة. استفادت الفصائل من هذا التردد الحكومي لتدير معظم معركتها ضد حكومة الكاظمي بشروطها: استنزاف شبه متواصل لها ولزعيمها: قصف هنا وضرب هناك، حضور مسلح وعلني في الشارع، وتهديدات بأفعال وإهانات شخصية لرئيس الوزراء. عبر هذا كله كانت الفصائل تستنزف القيمة الاعتبارية والحقيقية للحكومة ورئيسها الذي اعتبرته، على نحو صحيح، ضعيفاً، لكن ليس مستسلماً أو منقاداً.

    لم تنجح الفصائل في سعيها دائماً. كانت الحكومة ترد بأشكال مختلفة، وإن لم تكن رادعة غالباً، إذ استخدمت خليطاً من أدوات مؤسساتية كما في إخضاعها ترسانة أسلحة الحشد لرقابة وزارة الدفاع واستبعادها قادة عسكريين مشكوكاً بقدراتهم وولاءاتهم لمصلحة آخرين يُفترض أنهم أفضل منهم، وضغوط سياسية من خلال استدعاء تدخل أطراف عراقية وإيرانية لإقناع الفصائل بتجنب التصعيد وإحراجات شعبية عبر ضغط الرأي العام الذي لم تكن تبالي به الفصائل كثيراً في البداية.

    عبر هذه المواجهة المستمرة خسرت الفصائل كثيراً: خسرت الرأي العام العراقي تماماً الذي غضب من تغوّلها على الدولة ومصادرتها الفجة للوطنية العراقية عبر فرض نفسها ممثلةً لها. ما عاد تصديها السابق لـ"داعش" ولا احتماؤها بفتوى السيد علي السيستاني في 2014 بإعلان "الجهاد الكفائي" ضد التنظيم كافياً. لكن خسر الكاظمي أيضاً كثيراً في المواجهة ذاتها، إذ ظهر أمام هذا الرأي العام ضعيفاً ومفتقراً إلى مواصفات الزعامة القوية، بمواجهة سؤال عام تكرر بإلحاح: كيف يمكن للقائد العام للقوات المسلحة الذي تحت إمرته أكثر من مليون عسكري، يُنفق عليهم نحو 17 بالمئة من الميزانية الاتحادية، أن يعجز عن أو يرفض مواجهة بضعة آلاف من مسلحين، أضعف تسليحاً، وبدون شرعية قانونية وشعبية؟ بالنسبة للكاظمي، كانت الأمور أشد تعقيداً من هذا السؤال المباشر والبسيط. في لقائه مع صحافيين عراقيين في واشنطن في آب (أغسطس) 2020، رد الكاظمي على هذا السؤال بالقول إن في يده سيفاً من ورق، لا يستطيع المواجهة به، في إشارة إلى مشكلات المؤسسة العسكرية المتعلقة بالفساد والاختراق الميليشيوي. قد يكون هذا الجواب صحيحاً، لكنه ليس كل الحقيقة. يرتبط الجانب الآخر منها بالتحول الذي مر به الرئيس نفسه، من تمترسه المبكر في خندق المواجهة كفاعل أساسي يصنع الحوادث إلى تحوله التدريجي والسريع نسبياً إلى وسيط يدرك مكامن قوة الآخرين وأسباب ضعفه هو. يشرح المسافة بين الموقفين إعلانه، في حزيران 2020، نفسه بوصفه شهيداً حياً وفدائياً، ثم إعلانه بعد ذلك بأربعة أشهر في ختام زيارة أوروبية أنه يفضل ألف عام من النقاش على ساعة قتال، خصوصاً لأنه "يرقص يومياً بين الثعابين" وهو يبحث عن مزمار للسيطرة عليها.

    كان هذا التصريح لصحيفة "الغارديان" مستفزاً كثيراً لجمهور عراقي واسع باحث عن زعامة بطولية في زمن استثنائي ومحتقن، زعامة لا تتردد عن المغامرة بدخول المواجهات وتنتصر فيها. كان الكاظمي يرى أن دورَه شيء آخر مختلف: الوسيط الساعي لاحتواء "الثعابين" و"تقليل شرها" ودفع ملف التعاطي الحاسم معها إلى حكومة مقبلة مستقرة ومدعومة برلمانياً وليس حكومة انتقالية كحكومته مهمتها الأساسية هي صناعة انتخابات ذات مصداقية يعقبها تسليم السلطة إلى مثل هذه الحكومة. عبر هذا الفهم، تأجل التعاطي مع ملفات أخرى مهمة مثل ملف قتلة المحتجين الذي تعي حكومة الكاظمي أن الخوض فيه بشفافية يعني إطاحة النظام السياسي الحاكم، وهي مهمة أكبر من أن تستطيع حكومته توليها برغم الوعود التي أطلقت بهذا الصدد عند تشكيل الحكومة.

    لكن لم يكن الكاظمي ضعيفاً دائماً. في لحظات حاسمة، اتّخذَ مواقف جريئة ومهمة، وإن لم تكن كاملة، بسبب رفضه خوض المواجهة إلى آخر الشوط. في ملف الاغتيالات السياسية مضى أبعد من كل الحكومات السابقة. الاغتيال السياسي الأشهر كان اغتيال هشام الهاشمي في 6 تموز (يوليو) 2020 (غداً الذكرى الثانية لاغتياله) ثم اغتيالات أخرى لم تحظ باهتمام شبيه، كاغتيال ريهام يعقوب وتحسين الشحماني في البصرة في آب (أغسطس) التالي وإيهاب الوزني في كربلاء في أيار (مايو) 2021. تُتهم الفصائل المسلحة بأنها وراء هذه الاغتيالات. تَعقبت حكومة الكاظمي، بصبر وحنكة عاليين، بعض هذه الاغتيالات واعتقلت منفذيها، وهي خطوة غير مسبوقة في المعايير الحكومية لعراق ما بعد 2003، عندما يكون المتهمون بالفعل جزءاً من النظام السياسي. رغم أن حكومة الكاظمي أفرغت الاغتيال السياسي من معناه بربطها الجريمة بالفاعل المباشر والتوقف عنده وعدم تعقب الأمر وصولاً الى الجهة السياسية التي أمرت بالاغتيال، فإنها أيضاً استطاعت عبر المسك بالفاعلين المباشرين تقويض قدرة هذه الجهات السياسية على القيام بهذه العمليات مستقبلاً، لأن هذه الجهات لم تعد قادرة على حماية أدواتها التي تقوم بالقتل. يعني هذا أن الحصانة السابقة من العقاب التي كانت توفرها هذه الجهات لهذه الأدوات لم تعد متيسرة. قد يشرح هذا تراجع عدد الاغتيالات السياسية في 2021 فصعوداً، رغم أنه لم يُنهها. الأمر المهم، الذي يحتاج إلى المزيد من التعضيد والتعميق، هو إحساس الجهات السياسية - الميليشيوية التي تستخدم الاغتيال أسلوباً لحل الخلافات أن القيام بهذه الأفعال لن يمضي دون ثمن، كما كان الأمر في السابق.

    هنا أيضاً تكمن أهمية قضية السيد قاسم مصلح، القائد العسكري العالي المستوى في "الحشد الشعبي" الذي اتهم بقتل الناشط الوزني، ثم برأه القضاء بسرعة استثنائية في مشهد لم يكن مقنعاً وأثار الكثير من الشكوك المنطقية والعميقة لدى الرأي العام أن الذي انتصر في قصة إطلاق السراح هذه هو عقد الصفقات التي تخدم الأقوياء وليس إمضاء العدالة لمصلحة الضعفاء. لكنّ لفشل "الحشد الشعبي" في منع اعتقال أحد كبار قادته وعجزه عن حمايته من المساءلة العلنية تأثيراً رادعاً غير معلن على الزعماء الحشديين والميليشيويين الآخرين من أن للأمور أثماناً باهظة أحياناً، وقد يكون من الحكمة تجنب احتمالات دفع هذه الأثمان عبر تجنب الأفعال المفضية اليها.

    لا يزال هذا مكسباً هشاً وقابلاً للفقدان بسهولة، خصوصاً في موسم الصفقات والتنازلات السياسية المرتبط بتشكيل الحكومات في عراق ما بعد 2003.

    © 2005 - 2025 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media