الحرب الروسية الاوكرانية من منظور أوسع-2
    الخميس 19 يناير / كانون الثاني 2023 - 04:28
    د. لبيب سلطان
    أستاذ جامعي/ كاليفورنيا
    قراءة في صعوبة ايجاد مخرج من هذه الحرب 
    ان المشكلة المميزة في الحرب الروسية الاوكرانية ، هو صعوبة ايجاد مخرج منها ، خصوصا بعد فشل سيناريو الغزو وتبديل نظام كييف الى نظام موال خلال ثلاثة ايام،  كما خطط له الرئيس بوتين اساسا ، حيث تحول الصراع بعدها الى صراع وجودي بين الطرفين ، وهنا تكمن جوهر الصعوبة، ويمكن القول ان الرئيس بوتين ، وبعد مرور اسابيع قليلة على الغزو ، وجد نفسه متورطا في حرب حقيقية ، ومورطا العالم معه في قضية معقدة لا احد يعلم  ماهو المخرج الآمن او المنظور  منها، كونها فعلا اصبحت حربا وجودية لاوكرانيا ، ووجوديا لنظام الرئيس بوتين نفسه،وطبعا ليس لروسيا. 
    تكمن المشكلة ان الفوز او الخسارة او التعادل جميعها تبدو غير ممكنة ،وهي النهايات الوحيدة المعروفة للحروب، كما هي  نهايات لعبة الشطرنج، ومن هنا استعصاء انهاء هذه الحرب. فالنصر لأي منهما هو هزيمة للاخر ، وهو امرغير ممكن . فالاوكران مثلا لا يمكنهم التنازل عن دولتهم وارضهم وعوائلهم وحرياتهم لبوتين ، وكأي شعب سيقاتل حتى النهاية لانهم ببساطة يقاتلون عن وجودهم ذاته. كما انهم غير قادرين حتما الانتصار على روسيا  ، كون ان الغرب الذي يسندهم بالمال والسلاح ، لايسمح لهم بذلك ، وسيفرض عليهم حلا معقولا ان تم توفره ، فهو، اي الغرب، لايريد  التعامل مع دولة نووية كبرى كروسيا ، تهزم في حرب، فتلجأ اليه دفاعا عن وجودها . وثانيا ان الغرب  يعرف عواقب التعامل مع أمة  مهزومة في حرب ، فسيقع حكمها بيد متطرفين اكثر من بوتين، كما أوضح لهم ذلك تحول المانيا الى الهتلرية والنازية بعد هزيمتها في الحرب الاولى، ومن هنا استحالة انتصار اوكرانيا.
    كذلك الأمر مع روسيا وبوتين ، فامر احتلال كييف عن طريق الحرب لفرض نظام جديد بالقوة العسكرية امر شبه مستحيل اليوم ، سواء عسكريا (وهو مااثبتته ساحات المعارك خلال احد شهرا" ، فاحتلال مدينة صغيرة مثل باخموت لم تستطعه القوات الروسية منذ اغسطس الماضي )،  ودوليا هو امرا مرفوض كليا ولايسمح به دوليا سواء من الاتحاد الاوربي أواميركا وحتى الصين لانه يعني انهيار النظام والقانون الدولي باكمله ، القائم على اساس احترام سيادة الدول، وميثاق الامم المتحدة ، والتنازل لبوتين معناه انهيار هذا النظام المتفق عليه دوليا ، اضافة الى خطر قيام حروب لانهاية لها سواء في اوربا او الشرق الاوسط  ، مثل تحقيق احلام اردوغان واية الله ، في اقامة خلافاتهم الامبراطورية مثلا،فالامرليس متروكا لبوتين وحده ليقرر مصير العالم وتغيير القوانين والغاء المواثيق التي اتفقت شعوب العالم ودولها ان تعيش وتتواجد تحتها ، ومنه لن يسمح هذا العالم بانتصار روسي وباحتلال اوكرانيا (  لاحظ الفرق لو نجح بوتين في خطته الاساس في تغيير النظام واقامة نظام موال خلال ثلاثة ايام لتصرف العالم معه  على  اساس تغيير سلطة ديمقراطية الى انقلابية موالية في  اوكرانيا واسندته روسيا ،عندها ستتم ادانته وربما مقاطعته، كما هي العادة، وهو ما اراده بوتين في  غزوته المفاجئة ، ولكنه لم ينجح ، ومنها تورط في هذه الحرب الشجون بكل مآسيها الانسانية، انها فشل المغامرلاغير).
    يبقي رهان الخروج من هذه الحرب هو التعادل، او الحل الوسط ،اي الحل بتنازلات مقبولة من الطرفين . نظريا ، انه الحل المعقول وربما الوحيد في الصراعات الوجودية لايجاد مخرج من الحالة المستعصية، ولكنه ،وللغرابة ، هو ايضا ، في هذه الحرب ، ليس حلا ممكنا او على الأقل متوفرا اليوم، واليكم السبب.
    لعل  السيناريو الذي طرحه هنري كيسنجر مؤخرا هو من افضل هذه الحلول ( وهو شخصية مقبولة من الطرفين و يعتبر افضل خبير معروف دوليا بوضع سيناريوات  انهاء الحروب ، مثل الحرب الفيتنامية او وضع حل الانسحاب الاسرائيلي من مصر بعد حرب اكتوبر 73 ، او تحويل النزاع العقائدي مع السوفيت الى اتفاقات ، الى تحويل تحارب امريكي صيني الى تعاون بتصنيع الاخيرة وتحويلها الى مصنع للعالم وغيرها من الحلول منذ السبعينات ) . اقترح كيسنجر ،كحل وسط ، انسحاب روسيا الى حدود يوم 24 فبراير واجراء استفتاء باشراف دولي فيها عن الطرف الذي تختاره، وتنازل كييف عن شبه جزيرة القرم رسميا الى روسيا ( أي ارجاع هدية خروشوف الى صاحبها ) ، ورفع العقوبات عن روسيا ، ضمان حق اوكرانيا ان تنضم للاتحاد الاوربي وحتى الى حلف الناتو، بعد انهاء فنلندا والسويد حيادهما. ان هذه تبدو تنازلات معقولة من الطرفين مقابل انهاء هذه الحرب المدمرة والفوز بالسلم ، ولكن المشكلة العائق امامها ، وكما يبدو ، هو ان الرئيس  بوتين يعتبرها انه مستهدف بها شخصيا، ولاسباب عديدة سأتوقف عندها بالتفصيل .
    أولا : قضية دور السيكولوجية  الشخصية في الموضوع. فالرئيس بوتين يعلم جيدا ان رجوعه خالي الوفاض وفي اليدين ليست الا القرم ، سيقوض ويدمر صورته وربما حتى سطوته ومنها منصبه ، حيث سيبقى مطاردا داخليا بسؤال هامس من شعبه ، وحتى اقرب المقربين منه ، عن جدوى هذه المغامرة الغالية التكاليف في الارواح والاموال مع تدمير سمعة روسيا في العالم، فالقرم قد اصبحت قبل مغامرته من ممتلكات روسيا  ، وسكت العالم عن ضمها اساسا حتى وقتها، كونه يعرف تاريخها انها مقاطعة روسية الاصل ، وسكانها الاغلب من الروس ، وتارين روسيا فيها منذ منتصف القرن التاسع عشر، وعليه سيبقى السؤال امام بوتين من شعبه ما هو انجازك من هذه الحرب ، لقد فشلت فيها ، وعليك التنحي.
    ثانيا : قضية السيكولوحيا الاجتماعية الروسية. المعروف عن الشعب الروسي هي وطنيته العالية اويعتبرها الكثيرون حتى المفرطة والمبالغ بها ، فهو مثلا يقبل بديكتاتور على ان يكون وطنيا مدافعا عن روسيا ، مثل القيصر ايفان كروزني (الرهيب ) أوستالين مثلا، ولازال يمجدهما، ومعروف عن الروسي، كما يكتب ادباءه،  انه يقبل بابسط مقومات العيش وتحت حكم قاس وغير عادل على ان لايكون رهينة لأرادة اي اجنبي حتى ولو كانت خيرة وتاتي بالازدهار والحريات له ولروسيا. ان بوتين يعلم ، اذا قبل بهذا الحل الوسط ، فانه يضع المجتمع الروسي تحت سوط عقدة الهزيمة والخضوع لشروط الغرب ، وهو يعلم انه لن يخرج منها سالما، خصوصا اذا احتفل الاوكران بالالعاب النارية في النصر على روسيا مدعين انتصارهم عليها  واجبارجنودهم على الانسحاب بالقوة، وفي علم النفس الاحتماعي معروفا ان اقصى عقوبة تقع على اي مجتمع هي اذلاله في حرب ، فكيف مع الشعب الروسي . 
    ( للمقاربة والمقارنة مثلا بين الوطنية الروسية والامريكية اذكر حادثتين وقعت لي شخصيا ، الاولى عام 2019  عند زيارتي لسانت بطرسبرغ وقعت في متحف  الامبراطورة يكاترينا الثانية ، حيث تحدثت المرشدة عن القائد الروسي سوفورف في جناحه انه استطاع  بقوة من 500  مقاتل فقط الانتصار على جيش عثماني قوامه  6 الاف جندي، وتدمير اسطولهم في احدى موانئ رومانيا ، وكانت خسائر25  مقاتلا فقط ،  بينما تكبد العثمانيون 5 الاف جندي ، وعندما علقت " يبدو ان لدى سوفوروف والجيش الروسي اسلحة ليزرية منذ القرن الثامن عشر" ، فضحك الحضور بينما هي احتدت بشدة واتهمتني اني اهاجم روسيا وقادتها ورموزها ، فاعتذرت لها عن صدق،  وقررت ان لا انكت مع الروس حول هذا الموضوع بعد اليوم.  ولكن عند زيارة متحف اقيم خارج سان دياكو حيث مكان المعركة المكسيكية الامريكية عام 1846 حول كاليفورنيا ، وقالت المرشدة ان جيش القائد الامريكي باسكال كان 2000 جندي مقابل 8000 الاف عند المكسيكي ولكن الاخير قرر الانسحاب ، وعلقت " يبدو ان القائد المكسيكي شاهد مئات الدبابات ابرامز ومزنجرات برادلي تزحف مع باسكال فقرر الانسحاب"، فضحكت وضحك الجميع وقالت لا ، ان المكسيكيين في الواقع كانوا منتصرين ، حيث كبدو الاميركان قبلها ثلاثة الاف قتيل ، ولكن بدل الانسحاب قرر باسكال استخدام خدعة ليلية كحا اخير، حيث اشاع في القرى المجاورة ان تعزيزات من  20  الف حندي ستصل ليلا ،وبدورهم قام السكان بايصال هذا الخبر للقائد المكسيكي،  واشارت الى جبل مجاور للموقع  "كانوا ينزلون من قمة هذا الجبل بمشاعل ليلية بعدها يطفؤوها ويدورون حوله،  ويتسلقون للاعلى ويشعلونها مجددا ثم يهبطون بمشاعلهم للسهل ، وعاودوها طوال الليل عشرة مرات فظن القائد المكسيكي ان التعزيزات 20 الف فعلا قد وصلت ، واعطى امرا في الصباح بالانسحاب الى جنوب سان دياكو لخط دفاع جديد " ، حيث بقيت الحدود و الوضع كما كانت بعد هذه الواقعة ولازالت  لليوم الحدود بين البلدين . ولكنها شكرتني على اشاعة جو المرح من التعليق بعد الجولة وبقيت تضحك عدة مرات اثنائها. والطريف اني ذكرت هذه الواقعة لصديق روسي لي في سان دياكو، فاجابني لو كان الجنود روسا لما انسحبوا بل لقاتلوا لاخر رجل ، وانا اصدقه ، حيث هذا هو مارأيناه في الافلام الوثائقية عن معاركهم البطولية في الحرب الثانية ،وهكذا رغم ان كل الشعوب تعتز بوطنيتها وتدافع عنها  ، ولكن ايضا لكل شعب خصوصيته في ذلك).

    ثالثا : انهيار العقيدة القومية الانبعاثية الموحدة التي اقام عليها بوتين حكمه وسياساته . 
    ان هذه هي اهم ربما من  الامور التي تقف في وجه اية تسوية برأيي . انها العقيدة القومية والطموح لأعادة مجد وعظمة روسيا الامبراطورية ،كما كانت بداية القرن العشرين مثلا، هي العقيدة التي يتبناها الرئيس بوتين ، وكانت وراء استمراره في الحكم اكثر من عشرينىعاما ، وهي من وقفت وراء قراره في غزو أوكرانيا في فبراير 2022 ، ولا اعتقد ان اي بحث او تحليل اخر لاسباب هذا الغزو يمكنها ان تتجاوزه، إن لم تتوصل اليه ايضا. انها العقيدة التي اصبحت الهدف الأعلى والمقدس لرئيس استلم بلده، كما وصفها،  عمارة مهدمة بعد ان كانت يوما قوية يهابها الجميع، وسيقوم هو باعادة بنائها ، ولكن هذه المرة على اسس صحيحة ، كما صرح وكتب عنها مرارا ، وتقوم على اعادة انبعاث الامة الروسية وتوحيدها حول ثقافتها الروسية الخالصة  وبعث الدور الروحاني والاخلاقي للكنيسة الارثذوكسية فيها  ، كما كتب وكرر في تصريحات متعددة له منذ عام 2000 . وفي احدى خطبه عام 2018 عند لقاءه  مع الاب كيريل ، البطريارك الاعلى للكنيسة الارثذوكسية ، كان واضحا فيه تحفظه ورفضه للنموذج الليبرالي الغربي  الذي يسعى لتقويض ثقافة المجتمع الروسي الروحية وتقاليده العائلية ومحاولة ادخال المثلية فيه بأسم الليبرالية ( طبعا لتشويه الليبرالية كفلسفة سياسية واجتماعية في الحكم وفي المجتمع ) ، ولتقويض روسيا اجتماعيا من الداخل وإضعافها، وهي التهمة التي كان يرددها السوفيت وورثها، ويعتقد كثيرون انها كانت تمهيدا  لأعلانه انه لن يغادر السلطة هذه المرة حتى يعيد لروسيا مجدها الامبراطوري ووزنها الدولي وثقافتها القومية ، ومنه قام بتعديل الدستور لتمتد ولايته حتى عام 2036. ولكن ماعلاقة غزو اوكرانيا باهدافه المشروعة هذه ،  فهو كرئيس من حقه ان يسعى لأستعادة مجد بلده  وعزتها الامبراطورية؟ . هنا برز بشكل واضح التحول من العقيدة القومية الوطنية الداخلية) الى التوسعية (القومية الامبريالية) ، وهناك عدة نظريات واطروحات تتبارى حول هذا التحول الذي بدأ منذ عام 2008 ، اي منذ مغادرة المنصب الرئاسي ،ولو شكليا لميدفيديف. ويبدو ان الاقرب الى قلب وعقل الرئيس بوتين وتكوين عقيدته قد ساهمت بها اطروحات الكسندر دوغين ، وخصوصا الجزء المتعلق باوكرانيا ، وصرح تلفزيونيا " ان روسيا لايمكن ان تكون امة ودولة عظيمة بدون توحيد اوكرانيا وبيلاروسيا معها،وهي المهمة المقدسة  أمام اي رئيس روسي ان لا يتخلى عنهما للغرب". ولايوجد شك ان الرئيس بوتين يؤمن بهذه المقولة ، والدليل انه صرح مرارا ان الروس والاوكران هم شعب واحد واخوة في التاريخ ومنذ القرن الثامن ، فكيف يترك الاخ اخاه لينضم لمجتمع الليبراليين والمثليين في الاتحاد الاوربي . ومنه يمكن مقدار التراجع اذا وافق على مقترحات للحل الوسط ، كتلك التي طرحها كيسنجر . انه ذلك  معناه التخلي عن العقيدة القومية واعادة مجد الامبراطورية الروسية التي اقام على اساسها سياساته وتجديد رئاساته ، وجمع حوله طبقات المجتمع والجيش والكنيسة وحتى الشيوعيين ، فالجميع اعتبرها انها فعلا مهمة مقدسة امام الجميع . ان قبوله بالحل الوسط معناه التخلي عن العقيدة المقدسة ويكون انضمام اوكرانيا للاتخاد الاوربي معناه انهيارا لعقيدته المقدسة حول مستقبل روسيا  الامبراطورية ودورها المقدس ، ومنه انهيار حكمه كليا .
    ربما يمكن طرح سيناريوات اخرى، ولكن جميعها ستصطدم بان اي تنازل يقدمه بوتين سيعتبر تهديدا وجوديا له شخصيا ولسياساته وعقائده القومية، والمشكلة ، ان بوتين ، وكأي  ذو فكرقومي امبريالي ، يعتقد انه هو الدولة ورمز الامة وعزتها وكرامتها، ولايمكن المساس به ، او التفكير باستبداله حيث ستنهار من بعده الامة والدولة ، ومن هنا تكمن الاستحالة لحل وسط في الوقت الحالي ، حيث ان اي حل يحترم سيادة اوكرانيا ستمسه بشكل او باخر ، ومنه صعوبة ايجاد رهان التعادل ، و يمكن القول ان هذه الحرب يمكن ان تستمر نظريا  حتى عام 2036 ، اي حتى نهاية فترة رئاسة الرئيس بوتين في الحكم ، او حتى بعدها ان قرر تغيير الدستور ، أوطبعا ان كتب له تعالى العمر المديد، ولكن امام الوقائع والاهوال حتى اكثر الدول تعنتا تبدأ بالمراجعة والتنازل، ومنها امبراطور اليابان مثلا، الذي كان يعترره شعبه مقدسا والها.
    الجزء الثالث والاخير سيتناول تحليل الابعاد الدولية لهذه الحرب وتأثيرها وتبعاتها على منطقتنا العربية.

    13/01/2022

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media