د. عقيل عباس
بنهاية نظام صدام حسين في 2003، كان المجتمع في العراق منهكاً وفاقداً للنضج السياسي بعد بضعة عقود قاسية من هيمنة شمولية الحزب الواحد الذي يقرر كل شيء بخصوص السياسة والإعلام والاقتصاد والأخلاق والكيفية التي ينبغي فيها أن يفكر المجتمع بالأشياء، بضمنها معنى أن يكون المرء فرداً تابعاً لكن عليه أن يشعر بالفخر في الوقت ذاته!!
احتاج التحول السريع والمثير من نظام شمولي يديره حزب واحد وقائد إلى آخر ديموقراطي يقوم على التنافس السياسي والتعدد الثقافي/الاجتماعي والتداول السلمي للسلطة، المستندة كلها إلى حرية التعبير المُنَظَّمة مؤسساتياً، تأهيل الحزبية العراقية التي أصيبت بعيوب كبيرة فادحة جراء شدة القمع وقوة الايديولوجيا في عقود العراق الجمهوري، تراكمت عليها فوق أخطاء العراق الملكي الذي أرادَ حزبية منتقاة طبقياً ونخبوية فوق المجتمع وليست نابعة منه. بدت نهاية النظام البعثي واللحظة التاريخية الطويلة التي جاءت بعده وتواصلت بضع سنوات قليلة، فرصة عظيمة واستثنائية لإصلاح عيوب الماضي الكثيرة وتشكيل مستقبل للدولة والسياسة في البلد: تبنٍّ دولي قوي للنظام السياسي الجديد واستعداد غربي وأممي هائل لمساعدته كي يقف على قدميه. كان المجتمع أيضاً متحمساً لتجربة نوع جديد من الحزبية تتسق مع ما تعنيه الديموقراطية - التي بقيت مفهوماً غامضاً وعائماً في الفهم العراقي العام - وتصنع مستقبلاً افضلَ للجميع.
لم يتحقق أيٌ من هذا، إذ لم يستغرق الأمر طويلاً حتى بدأت قصة تدهور فظيعة، في الأمن والسياسة والإدارة وتالياً الاقتصاد، على نحو جعل عراقيين كثيرين يحنون لأيام الحزب الشمولي الحاكم، حزب البعث، وزعيمه القاسي، صدام حسين. بالنسبة لهم، كان الأمر مقارنةً بين السيّئ والأسوأ، وليس بين الجيّد والسيّئ. كان السبب في هذه الخيبة الكبرى الأحزاب الجديدة. اختبرتها الوقائع العراقية ففشلت فيها على نحو واضح وفادح. ظهر جلياً أنها تفتقر لما تحتاجه الأحزاب الحقيقية: رؤية سياسية وفكرية متماسكة تعبر عن مصالح اجتماعية مشروعة، بُنية مؤسساتية داخلية رصينة تضبط الأعضاء والسلوك السياسي وتحسم الخلافات، وتداول سلمي ودوري للسلطة والقيادة في داخل الحزب. لم تمتلك الأحزاب العراقية هذه الشروط الأساسية للأحزاب. لا يتبدل زعماء الأحزاب عادةً فيما آلية التداول الانتخابي في داخل الحزب مجرد شكل لا يختلف عن التجديد المضمون للدكتاتور السابق في الاستفتاءات الرئاسية. الأكثر إشكالية هو أن الزعامة الحزبية تورث من الآباء الى الأبناء وما يوحّد الحزب ليس الأفكار التي يُفترض أنها جَمعت أفراده عند التأسيس والانضمام اليه، وإنما المصالح الفئوية والمطامع الشخصية التي توفرها الهيمنة على الدولة ومواردها، فضلاً عن الاستقواء بالحزب ضد هجوم المنافسين والخصوم الآخرين.
في خضم هذا كله، ضاعت قيمة الأفكار وغابت الآليات الحزبية، التي كانت ضعيفة من الأصل، وتصدرت كلَّ شيء القدرةُ على التنافس والفوز في آخر المطاف أياً يكن الثمن.
هكذا سريعاً، وفي سياق صراعات السياسة والتنافس الانتخابي والرغبة للوصول إلى السلطة والبقاء فيها، فقدت الأحزاب العراقية الحاكمة الملامح القليلة المتبقية لمعنى الحزب السياسي لتتحول إلى شيء آخر مختلف تماماً متعلق بالعصبوية (التكتل الأعمى وغير الأخلاقي حول المصالح، بغض النظر عن مشروعيتها، والدفاع عنها بكل ما هو ممكن) وليس الحزبية (الإيمان بأفكار معينة والانتظام سياسياً حولها والسعي لتطبيقها عبر السلطة). عنت العصبوية السياسية في عراق ما بعد 2003 لجوء الأحزاب الحاكمة إلى ما تلجأ له عادة المافيات والميليشيات والعصابات: الرشى والخداع والتهديد والتواطؤ والتهييج واستخدام القوة ضد الخصوم وسرقة المال العام! ما ساعد هذه الأحزاب في تحولها السريع إلى هذه العصبوية هو بنية مؤسساتية هشة للدولة نفسها التي أشرفت عليها قيادات هذه الأحزاب لتزيد من هشاشتها. واحدة من مهام الدولة في نظام ديموقراطي هي الإشراف على بقاء الأحزاب في إطار الحزبية عبر توفير البنية القانونية والمؤسساتية التي تضبط الأحزاب وتمنع انزلاقها وتحولها إلى مهمات أخرى غير مهماتها المسموح بها قانوناً.
أقصى ما أنتجه "العراق الجديد" لجهة تنظيم الحزبية وضبطها هو قانون الأحزاب 36 لعام 2015. رغم بعض العيوب فيه، أمسك القانون بالأمور الصحيحة والأهم في الحياة الحزبية الداخلية: بنية مؤسساتية، تداول ديموقراطي للسلطة، تجنب العنف وأدواته، وشفافية التمويل. تخرق الأحزاب المهيمنة كل هذه الشروط، إذ ترتبط كثير منها بمجاميع مسلحة وتغتني عبر التغول على المال العام لكنها لا تواجه عواقب خرق القانون للأسباب المؤسفة المعروفة: الذين يديرون الدولة ويتحاصصون فيها هم المسؤولون عن تطبيق القانون!!
بعد نحو عشرين عاماً من الحياة الحزبية العراقية وفشل الدولة التي أدارتها هذه الأحزاب المتنفذة، أصبح واضحاً أن هذه الأحزاب غير قابلة للإصلاح ولا هي راغبة فيه، إذ لم تعد تعنيها مصالح المجتمع، بل فقط قدرتها على البقاء في السلطة سواء بالرشى الانتخابية المعتادة (الزبائنية الحزبية) أو بإعادة تفسير الفوز الانتخابي على نحو يؤدي إلى بقائها في السلطة (كما حصل في انتخابات 2010 مع "القائمة العراقية" بزعامة إياد علاوي وانتخابات 2021 مع التيار الصدري).
في ظل أحزاب كهذه وسلوك متغوّل لها متواصل وقاد البلد إلى بؤسه الحالي، ليس غريباً أن يُقرن العراقيون الحزبية بكل ما هو سيّئ ويتجنبون أي ارتباط بها ليصبح كون المرء مستقلاً لحظة فخر شخصي وتأكيداً على نزاهة فردية واحتجاجاً على فساد سياسي مستشرٍ. لكن الاكتفاء بهذه الأحاسيس مضلّلٌ ويخفي روحاً سلبية مضرّة، لأنه يختصر الصالح العام في هيئة مواقف أخلاقية جوهرها الاحتجاج الفردي الصامت. لا تخدم هذه المواقف الصالح العام، بل يخدمه سعي جماعي للإصلاح، يتجاوز النسخة الحزبيةة المُشوَّهة والفاسدة التي قدمتها الأحزاب المتنفذة. الردّ الصحيح على مثل هذه الحزبية لا يكون بنبذ الحزبية نفسها كفكرة ونهج في الحياة السياسية، بل بتشكيل نسخة جديدة: صحيحة ونظيفة، للحزبية العراقية. هذا هو السعي الجماعي المطلوب للإصلاح وليس الاكتفاء بلعن الأحزاب المتنفذة ورفض تقديم بديل عنها.
عندما حصل الاحتجاج التشريني في 2019، كان في جوهره تعبيراً جماعياً ومشروعاً عن غضب أخلاقي هائل ومبرر على فساد الحزبية العراقية المتنفذة وتخريبها للدولة وتقويضها لحقوق المجتمع وآماله. لكنّ كثيراً من التشرينيين ظلوا، على نحو خاطئ، متمسكين بهذا الغضب وحاولوا تأبيده وجعله دائماً بوصفه الشكل الأخلاقي الوحيد للاعتراض السياسي. قاد هذا الى اعتراضهم على تشكيل حزبية جديدة وصحيحة، وبالتالي غاصوا في سلبية عامة وسهلة تمحورت حول الغضب، كما في إصرارهم على مقاطعة الانتخابات، من دون عرض بديل لصناعة شيء جديد وملموس يؤدي إلى تغيير إيجابي. لحسن الحظ، غادر معظم التشرينيين هذا الفهم وبدأوا يتلمسون دربهم لتشكيل أحزاب جديدة، بعضها استعداداً لخوض الانتخابات المقبلة لمجالس المحافظات نهاية هذا العام.
معيار النجاح هو صناعة أحزاب رصينة من الداخل، حتى إذا كان الحصاد الانتخابي سيئاً، فالفوز بالانتخابات مهارة مختلفة تماماً عن مهارة تشكيل حزب رصين مؤسساتياً ومتماسك داخلياً. هذا هو تحدي التشرينيين الأهم: تشكيل أحزاب رصينة أولاً، تستطيع أن تفوز بالانتخابات تالياً.