نظرية الإمامة لدی الشيعة.. عرض و نقد -6-
أول من قال بإمامة علي بن أبي طالب
إذا کانت الإمامة بالمعنی الذي يذکرها علماء الشيعة فکرة غريبة علی الإسلام ولا أصل لها في دين الله الذي جاء به نبينا محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)، کما ذکرنا في الحلقات الخمس الماضية، فلسائل أن يسأل: من أين أتت الفکرة ومن هو أول من قال بها ؟
لو رجعنا إلی مصادر الشيعة الإثني عشرية، کتب التاريخ والروايات وکتب الرجال التي صنفها کبار علمائهم ومتکلميهم، وکتب التاريخ الأخری، سوف نقف علی جواب السٶال السابق، وسوف تتوضح الحقيقة بجلاء. وسوف نری أن أول من قال بإمامة علي بن أبي طالب هو عبدالله بن سبأ. کان إبن سبأ هذا يهوديا من أهل صنعاء في اليمن، تظاهر بالإسلام أيام خلافة أمير المٶمنين عثمان بن عفان. وکان من غلاة اليهود، وکان يقول في يهوديته أن يوشع بن نون هو وصي موسی (عليه السلام). وعندما تظاهر بالإسلام نقل معه نفس الغلو إلی الإسلام، فکان هو أول من قال وأشهر القول بإمامة علي ( رضي الله عنه)، وأنه وصي رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، وأعلن البراءة من الخلفاء الراشدين الثلاثة السابقين والصحابة وإعتبرهم أعداء أهل البيت وکفرهم. ومن هنا جاءت فکرة البراءة من الخلفاء وصحابة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) عند الشيعة. وکان يقول بالرجعة في يهوديته، فنقلها إلی الإسلام أيضا، ولا زالت عقيدة الرجعة موجودة في فکر الشيعة الإثني عشرية.
وقد روی الکشي، وهو من کبار علماء الإثني عشرية الرجاليين، عدة روايات عن أهل البيت تذکر عبدالله بن سبأ بسوء، وفي النهاية، يقول: ذكر بعض أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا (عليه السلام) وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى بالغلو، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام) مثل ذلك، وكان أول من شهر بالقول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وأكفرهم (1).
وحکی النوبختي، وهو من مٶرخي الشيعة، في کتابه (فرق الشيعة): " عبدالله بن سبأ "، وکان ممن أظهر الطعن علی أبي بکر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال أن عليا عليه السلام أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله هذا فأقر فأمر بقتله، فصاح الناس إليه: یا أمير المٶمنين أتقتل رجلا يدعو إلی حبکم أهل البيت، وإلی ولايتك والبراءة من أعدائك ؟ فصيره إلی المدائن، وحکی جماعة من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن ذكر بعض أهل العلم أن عبد الله بن سبإ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا (عليه السلام)، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهداه المقالة بالغلو، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام) بمثل ذلك، وهو أول من شهر بالقول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه، فمن هناك قال من خالف الشيعة أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية. ولما بلغ عبدالله بن سبأ نعي علي بالمدائن، وقال للذي نعاه: کذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة وأقمت (علی) قتله سبعين عدلا، لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل يقتل ولا يموت حتی يملك الأرض (2).
ولم يکتف إبن سبأ بهذا القدر من الغلو، بل ذهب إلی أبعد من ذلك بکثير حتی قال بألوهية علي بن أبي طالب، وادعی النبوة لنفسه، إذ يروي الکشي في رجاله عن أبي جعفر (عليه السلام): أن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الله (تعالى عن ذلك)، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) فدعاه وسأله فأقر بذلك وقال نعم أنت هو، وقد كان ألقي في روعي أنك أنت الله وأني نبي. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار، (3) وقال إن الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقي في روعة ذلك (4). ومع ذلك فإن عقيدة تأليه علي بن أبي طالب وبعض ذريته ما زالت موجودة لدی الشيعة الإثني عشرية إلی يومنا هذا، وسوف نتصدی لها في حلقات آتية إنشاء الله تعالی.
وقد إستغل إبن سبأ سياسة اللين التي کان يتبعها أمير المٶمنين عثمان (رضي الله عنه)، فسافر إلی الحجاز والکوفة والبصرة والشام لنشر فکره المسموم وعقيدته الباطلة، والطعن في الولاة والخليفة، لکن أهل الشام طردوه ولم يجد من يسمع کلامه، فذهب إلی مصر واستقر هناك. ويبدو أنه وجد في مصر والکوفة والبصرة بعض الأعوان، فأخذوا يتراسلون فيما بينهم وينشرون الدعايات المغرضة والأکاذيب، حتی تأثر بهم بعض البسطاء.
ومن جملة ما کان يقوله في مصر: " لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمدا يرجع، وقد قال الله عز و جل (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى " (5). وما زالت عقيدة الرجعة هذه من جملة مرتکزات عقائد الشيعة الإثني عشرية.
وعندما قام الغوغائيون الذين تأثروا بدعاياتهم، بمحاصرة أمير المٶمنين عثمان (رضي الله عنه) کان عبدالله بن سبأ ومالك الأشتر من أکبر المحرضين ضده، حتی إستشهد في النهاية علی أيديهم.
وبعد إنتخاب علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) للخلافة وبيعة الصحابة له، أظهروا التشيع له وانحازوا إليه، وإنضموا إلی جيشه.
ولما توجه الزبير بن عوام وطلحة ومعهما أم المٶمنين عائشة وجمع غفير من الصحابة (رضي الله عنهم) والمسلمين الآخرين للإقتصاص من قتلة عثمان، وأرسلت أم المٶمنين إلى علي (رضي الله عنه) تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيبا فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة، وأن الله جمعهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان ثم حدث هذا الحدث الذي جرى على الأمة أقوام طلبوا الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي من الله بها، وأرادوا رد الاسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره ".
ثم قال: " ألا إني مرتحل غدا فارتحلوا، ولا يرتحل معي أحد أعان على قتل عثمان بشيء من أمور الناس. فلما قال هذا إجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، وسالم بن ثعلبة، وغلاب بن الهيثم، وغيرهم في ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابي، ولله الحمد، فقالوا: ما هذا الرأي وعلي ؟ والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، غدا يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم، فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم ؟ فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد إصطلح معهم فإنما إصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا عليا بعثمان، فرضي القوم منا بالسكوت "، وبعد مباحثات ومشاورات فيما بينهم قال إبن سبأ: " يا قوم إن عيركم في خلطة الناس، فإذا إلتقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون، فمن أنتم معه لا يجد بدا من أن يمتنع، ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون، ويأتيهم ما يكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه".
وباتت جماعة إبن سبأ ومالك الأشتر يتشاورون، وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفي رجل، فانصرف كل فريق إلى قراباتهم، فهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وقام الناس من منامهم إلى السلاح، فقالوا طرقتنا أهل الكوفة ليلا، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ من أصحاب علي، فبلغ الأمر عليا فقال: ما للناس ؟ فقالوا، بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللامة وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الامر (6). هکذا وبهذه الحيلة تمکنوا من إثارة الحرب والقتال بين الطرفين من حيث لا يعلمون.
ولقد أتعب الغوغائيون، الذين کانوا يدعون التشيع، عليا (رضي الله عنه) کثيرا، حتی ضجر منهم، لذلك يوبخهم ويذمهم، وفي إحدی الخطب يقول لهم:
" أُفٍّ لَكُمْ ! لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ ! أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الاْخِرَةِ عِوَضاً؟ وَبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟ إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ، كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَة، وَمِنَ الذُّهُولِ في سَكْرَة، يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حَوَارِي فَتَعْمَهُونَ، فَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ، فَأَنْتُمْ لاَ تَعْقِلُونَ.
مَا أَنْتُمْ لي بِثِقَة سَجِيسَ اللَّيَالي، وَمَا أَنْتُمْ بِرُكْن يُمَالُ بِكُمْ، وَلاَ زَوَافِر عِزٍّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ. مَا أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِل ضَلَّ رُعَاتُهَا، فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب انْتَشَرَتْ مِن آخَرَ، لَبِئْسَ ـ لَعَمْرُ اللهِ ـ سُعْرُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! تُكَادُونَ وَلاَ تَكِيدُونَ، وَتُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلاَ تَمْتَعِضُونَ; لاَ يُنَامُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ في غَفْلَة سَاهُونَ، غُلِبَ وَاللهِ الْمُتَخَاذِلُونَ! وَأيْمُ اللهِ إِنِّي لاََظُنُّ بِكُمْ أنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى، وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِب انْفِرَاجَ الرَّأْسِ " (7).
ويذم الذين کانوا يدعون التشيع ومناصرتهم له علی تقاعسهم وتخاذلهم له:
" كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ، وَالثِّيَابُ الْمتَدَاعِيَةُ ! كُلَّما حِيصَتْ مِنْ جَانِب تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ، كُلَّما أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُل مِنْكُمْ بَابَهُ، وَانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ في جُحْرِهَا، وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا. الذَّلِيلُ وَاللهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ ! وَمَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِل " (8).
وفي خطبة أخری يوبخهم بالقول: " أَمَّا بَعْدُ، يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْمَرْأَةِ الْحَامِلِ، حَمَلَتْ فَلَمَّا أَتَمَّتْ أَمْلَصَتْ، وَمَاتَ قَيِّمُهَا، وَطَالَ تَأَيُّمُهَا، وَوَرِثَهَا أَبْعَدُهَا.
أَمَا وَاللهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَاراً، وَلكِنْ جَئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقاً، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: (عَليٌّ ) يَكْذِبُ، قَاتَلَكُمُ اللهُ ! فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ ؟ أَعَلَى اللهِ ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ ! أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ ! كَلاَّ وَاللهِ، ولكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ عَنْهَا، وَلَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا، وَيْلُ امِّهِ، كَيْلاً بِغَيْرِ ثَمَن! لَوْ كَانَ لَهُ وِعَاءٌ، (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين)" (9)
وقد بلغ به الأمر بسبب عصيانهم له، أن دعا الله تعالی أن يفرق بينه وبينهم:
" وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ، قَوْمٌ واللهِ مَيَامِينُ الرَّأْيِ، مَرَاجِيحُ الْحِلْمِ، مَقَاوِيلُ بِالْحَقِّ، مَتَارِيكُ لِلْبَغْيِ. مَضَوْا قُدُماً عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَأَوْجَفُوا عَلَى الْـمَحَجَّةِ، فَظَفِرُوا بَالْعُقْبَى الْدَّائِمَةِ، وَالْكَرَامَةِ الْبَارِدَةِ. أَمَا وَاللهِ، لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ غُلاَمُ ثَقِيف الذَّيَّالُ الْمَيَّالُ، يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ، وَيُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ، إِيه أَبَا وَذَحَةَ ! " (10).
وقال لبعض أصحابه لمّا عزم على المسير إلى الخوارج، وهم کانوا يريدون تثبيطه عن قتالهم عن طريق علم النجوم: " أَتَزْعَمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ ؟ وَتُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ ؟ فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الاِسْتِعَانَةِ بِاللهِ عزّوجلّ فِي نَيْلِ المحبوبِ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَتَبْتَغِي في قوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ، لأنك - بِزَعْمِكَ - أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي نَالَ فِيهَا النَّفْعَ، وَأَمِنَ الضُّرَّ !! " (11)
ثم يصف حاله الذي يرثی له مع شيعته:
" وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الأمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي. اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا ".
ومن ثم يقول: " شُهُودٌ كَغُيَّاب، وَعَبِيدٌ كَأَرْبَاب ! أَتْلُوا عَلَيْكُمُ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا، وَأَعِظُكُمْ بِالمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا، وَأَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا، تَرْجِعُونَ إِلى مَجَالِسِكُمْ، وَتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ، أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً، وَتَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً، كَظَهْرِ الْحَنِيَّةِ، عَجَزَ الْمُقَوِّمُ، وَأَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ ".
ولقد بلغ يأسه منهم درجة تمنی أن لو وافق معاوية أن يعطيه رجلا واحدا من أفراد جيشه وأخذ عشرة من شيعته، فيقول: " أَيُّهَا الشَّاهِدةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الْـمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، المُبْتَلَى بِهمْ أُمَرَاؤُهُمْ، صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللهَ وَأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ، لَوَدِدْتُ وَاللهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ! ".
ويستمر في مخاطبتهم بالقول: " يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلاَث وَاثنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاع، وَبُكُمٌ ذَوُو كَلاَم، وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَار، لاَ أَحْرَارُ صِدْق عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَة عِنْدَ الْبَلاَءِ ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ ! يَا أَشْبَاهَ الإبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا ! كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ، وَاللهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيَما إخالُ: لَوْ حَمِسَ الْوَغَى، وَحَمِيَ الضِّرَابُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبي طَالِب انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا، وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّي، وَمِنْهَاج مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً ". (12)
وفي نفس الخطبة يقارن بين الذين يدعون التشيع وبين أصحاب رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) الذين کانوا يتفانون في عبادة الله، إذ يقول: " لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله)، فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ! لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً، قَدْ بَاتُوا سُجّداً وَقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَخُدُودِهِمْ، وَيَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ! كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ! إِذَا ذُكِرَ اللهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ، وَمَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ، خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ، وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ! " (13)
ويصفهم في خطبة أخری: " وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، نَقْتُلُ آبَاءَنا وَأَبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً، وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ، وَصَبْراً عَلى مَضَضِ الاْلَمِ، وَجِدّاً عَلى جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالاْخَرُ مِنْ عَدُوِّنا يَتَصَاوَلاَنِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا، أيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ المَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا، ومَرَّةً لِعَدُوِّنا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الإسْلاَمُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ، وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلاَ اخْضَرَّ لِلاِيمَانِ عُودٌ، وَأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً! " (14).
ويصف تلك الشلة التي إبتلی بهم، الذين تظاهروا زورا وبهتانا بحب أهل البيت، بتخالف النفوس وتباين الأفکار وتفرق القلوب، ويبين أنه آيس منهم: " أَيَّتُهَا النُّفُوسُ المخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الأسَدِ! هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ الْعَدْلِ، أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجِ الْحَقِّ ". (15)
يتبين من أقوال وخطب أمير المٶمنين علي بن أبي طالب مدی مان کان ينال من الأتعاب علی أيدي أدعياء التشيع. إذا عزم علی أمر ثبطوه، وإذا هم بالخروج تقاعسوا وخذلوه، وإذا قام أقعدوه، وإذا حثهم علی الجهاد أصموا آذانهم استغشوا ثيابهم کأنهم لا يرون شيئا ولا يسمعون، هکذا کان الحال معهم حتی مل منهم کثيرا وسئم.
لذلك لما طلب معاوية التحکيم سارع إلی إنتهاز الفرصة، فبادر إلی الموافقة عليه. ولما رأی الغوغائيون أن وحدة الصف الإسلامي قد اقترب، وأن البساط ستسحب من تحتهم، وأن خططهم العدوانية ستذهب أدراج الرياح، وأن نهاية أيامهم باتت قاب قوسين أو أدنی، انقلب کثير منهم علی أمير المٶمنين، وانشقوا من جيشه، وکفروه ومن ثم قتلوه غدرا، والشيعة الإثني عشرية اليوم لا يلعنون أولئك القتلة، ولا يلطمون من أجل أمير المٶمنين رغم أنه کان أفضل من الحسين (رضي الله عنهما) لأنهم إمتداد لأولئك الأوائل.
ولما بويع الحسن بن علي (رضي الله عنهما) بالخلافة بعد إستشهاد والده، وأراد مصالحة معاوية وأخبر شيعته بذلك کفروه وحاولوا قتله، فشدوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته، ثم شد عليه رجل يقال له عبدالرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه (16)، إذلالا له وإهانة. وبدر إليه رجل من بني أسد، إسمه الجراح بن سنان، وأخذ بلجام فرسه وبيده مغول، وقال: الله أكبر، أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل، وطعنه في فخذه فشقه حتى بلغ العظم (17).
لکن الحسن (رضي الله عنه) بدهائه وحنکته السياسية وتجربتهم الطويلة معهم، خبرهم جيدا، لم يسمع لهم ولا خضع لتهديداتهم بل تصالح مع معاوية وتنازل بموجبه عن الخلافة له حقنا لدماء المسلمين، وقطعا للطريق أمام المنافقين والمتربصين بالإسلام والمسلمين، وتحقق فيه نبوءة النبي (صلی الله عليه وسلم)، عندما قال: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ) (18) ومن ثم رحل هو ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم وابن عمهم عبدالله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
وقال جوابا لسٶال أحدهم عن سبب صلحه مع معاوية (رضي الله عنهما): " أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي، وأومن به في أهلي، خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما، والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير (19).
وجاء في رواية أخری أنه قال: " يا أهل الكوفة ! ذهلت نفسي عنكم لثلاث: مقتلكم لأبي، وسلبكم ثقلي، وطعنكم في بطني وإني قد بايعت معاوية فاسمعوا وأطيعوا، فطعنه رجل من بني أسد في فخذه فشقه حتى بلغ العظم (20).
ولما وجدوا أن الأمر قد خرج من أيديهم بدأوا يسبون الحسن، کما قال له سليمان بن صرد الخزاعي: مسود وجوه المؤمنين. (21) وقال له سفيان بن ليلی: یا مذل المٶمنين (22). هکذا، وبعد الصلح حقنت الدماء، وساد الأمن والإستقرار في البلاد الإسلامية.
وبعدما ذهب معاوية وتولی إبنه يزيد الخلافة من بعده، لم يبايه الحسين بن علي (رضي الله عنه)، ولما علمت الشيعة بذلك راسلوه وألحوا عليه بالخروج إليهم ووعدوه بمبايعته، وأکثروا من ذلك حتی بلغت الرسائل التي وصلته خمسمائة رسالة، وقيل أکثر من ذلك.
وللتأکد من صدقهم، بعث إليهم إبن عمه مسلم بن عقيل ليأخذ البيعة له منهم، فبايعه أکثر من عشرين ألف من أهل الکوفة وأطرافها، وبعث إليه إبن عقيل يستقدمه عليهم. ولما وصل الحسين (رضي الله عنه) إلی أرض کربلاء علم أن مسلم بن عقيل قتله إبن زياد، وأن الذين راسلوه وبايعوه قد نکثوا بيعتهم، وخذلوه کما خذلوا أباه وأخاه من قبل، وصاروا في جيش إبن زياد، فقتلوه ومن ثم تباکوا عليه. والذي باشر قتل الحسين (رضي الله عنه) کان شمر بن ذي الجوشن الذي کان ممن بايع عليا وشارك في معرکة صفين.
هکذا تبين، من هو أول من قال بالإمامة وکيف بدأت الفکرة، وکيف کان حال أمير المٶمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وولديه، سبطي رسول الله (صلی الله عليه وسلم) مع الذين کانوا يدعون التشيع لهم.
حلقات أخری تتبع..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رجال الکشي. ترجمة عبدالله بن سبأ. وبحار الأنوار. ج25. باب 10: نفي الغلو في النبي والائمة صلوات الله عليه وعليهم. رقم الرواية: 42.
(2) فرق الشيعة. النوبختي. ص19- 20، استنبول. مطبعة الدولة.1931).
(3) هناك إختلاف في الروايات عن مصير إبن سبأ في کتب الشيعة الإثني عشرية، کما نجد في هذه الرواية والرواية السابقة التي تقول أنه کان في المدائن عندما بلغه خبر إستشهاد علي (رضي الله عنه) وهذا يعني أنه کان حيا عند إستشهاد الخليفة الراشد علي (رضي الله عنه) ولم يحرقه.
(4) رجال الکشي. ترجمة عبدالله بن سبأ. وبحار الأنوار. ج25. باب 10: نفي الغلو في النبي والائمة صلوات الله عليه وعليهم. رواية 39. نقله عن الکشي.
(5) تاريخ الطبري. ج2. ص647.
(6) البداية والنهاية. إبن کثير. ج7. ص265- 266.
(7) نهج البلاغة. الخطبة 34.
(8) نهج البلاغة. الخطبة 68.
(9) نهج البلاغة. الخطبة 70.
(10) نهج البلاغة. الخطبة 115.
(11) نهج البلاغة. الخطبة 78.
(12) نهج البلاغة. الخطبة 96.
(13) نهج البلاغة. الخطبة 96.
(14) نهج البلاغة. الخطبة 55.
(15) نهج البلاغة. الخطبة 131.
(16) کشف الغمة. ص540). والإرشاد للشيخ المفيد. ج2. ص11.
(17) کشف الغمة. ص540). والإرشاد للشيخ المفيد. ج2. ص12.
(18) رواه البخاري/ رقم الحديث 2704. وذکر الحديث المسعودي أيضا، وهو من مٶرخي الشيعة، في مروج الذهب. ج1. ص 348.
(19) الإحتجاج. للطوسي. ج2. ص10. وبحار الأنوار. ج44. باب18. العلة التى من أجلها صالح الحسن بن على صلوات الله عليه. رقم الرواية 4.
(20) مروج الذهب للمسعودي. ج1. ص348.
(21) بحار الأنوار. ج18. باب10، ص127.
(22) رجال الکشي. ترجمة سفيان بن ليلی الهمداني.
- نظرية الإمامة لدی الشيعة.. عرض و نقد -1- - خالد سندي
09/10/2012 - 20:47 مقالات
- نظرية الإمامة لدی الشيعة.. عرض و نقد -2- - خالد سندي
16/10/2012 - 22:24 مقالات
- نظرية الإمامة لدی الشيعة.. عرض و نقد -3- - خالد سندي
21/10/2012 - 21:17 مقالات
- نظرية الإمامة لدی الشيعة.. عرض و نقد -4- - خالد سندي
31/10/2012 - 00:48 مقالات
- نظرية الإمامة لدی الشيعة.. عرض و نقد -5- - خالد سندي
06/11/2012 - 21:57 مقالات