(دروبُ الموت (3) السجنُ الأخير 1984
    الأربعاء 23 يونيو / حزيران 2021 - 21:03
    قاسم محمد الكفائي
    في هذه الحلقة سأخفي الكثير من الوقائع التي وثقتها لدى أوساط رسمية خارج العراق ممن كنت أعتقد أنهم يستحقونها. تفاصيل هذه المرحلة تعبرعن مدى وطنيتي وكفائتي، وتعبر عن الواقع المُرٍّ والمُميتٍ لا يُمكن نسيانه. وإني أعتذر بعدم نقل تفاصيلها وإن مضى عليها عقود من السنين تخللتها المخاطرُ ومصائرُ الموت تجعل من الذاكرة هشة، مُشتتة، وقد يظنُّ الكثيرُ من عامةِ الناس أن السَجين السياسي الذي يُطلق سراحُه من سجون أمن ومخابرات صدام حسين في ظروف إستثنائية يَنعمُ بعدها بالحرية والراحة والطمأنينة وهذا الظن مخالفا للواقع السيء الذي فيه تتعدد أوجُه الخطر حين يصطدم ذلك السجين بسلوكيات إنتقامية وعنجهياتِ تلك الأجهزة وضغوطِها، ليبقى رهينا يدور في رَحى حسابات تلك المؤسسة الظالمة لتبعث عليه الحياة أوالموت بالتقطير. 
    في عام 1984 الشهر الرابع منه كما أتذكر إعتقلتني مديرية الأمن في مدينتي بأمر مباشر من علي حسن المجيد مدير الأمن العام في بغداد وأودِعتُ السجنَ فيها. لما حضرتُ التحقيق الذي أجراه الرائد كامل السامرائي (أبو مصطفى) عرفتُ سبب إعتقالي، كان فيه تداخلات شخصية جعلت من المشتكي الإستغاثة بالأمن العام على وزن سبقني واشتكى.             
    المعاملة التي واجهتها في هذه المرّة كانت مختلفة عن سابقاتها لولا أن هدَّدني رائد الأمن وعضو الفرع بالحزب (عبد الحسين حَرِج) الذي تسلم قبل أشهر الوسام على صدره من قبل الرئيس صدام ببغداد بعرضي على التلفزيون الملون وإعدامي في حال إثبات التهمة. في فترة التوقيف كانت المعاملة والإجراءات تتغير بحقي بين الحين والحين عندما أدافع عن نفسي بمهارة عالية بناء على برائتي من التهمة الموجهة ضدي أو بعمق الخبرة التي أخذتها من الإعتقالين الماضيين لعامي 1974 و 1979 موضوعَي الحلقتين الأولى والثانية. كذلك حالة الموهبة التي تجذرت في نفسي وتعمقت في ذهني وكل حواسي فصرتُ لا أنشغل بأوهام الحلم ولا بواقع العيش التقليدي سوى التفكير في كيفية خوض غمارعالم المخابرات والإبداع فيه خارج حدود العرف الساذج الذي لا يتلائم والواقع الذي نعيشه خصوصا وأنا أفكر كمواطن بكيفية التخلص من صدام حسين ونظامه بالوسائل السهلة الممكنة بدلا عن خوض غمار الحروب المُدمرة. كانت التهمة الموجهة ضدّي غير سياسية دفعت مدير الأمن العام بإصدار أمر باعتقالي فورا. في كل الأحوال أطلق سراحي بعد أشهر من التوقيف المؤقت دون كفالة الى الحرية بعوامل متباينة هيمنت عليها شخصيتي المتزنة وكفائتي المتنامية بإدارة الأزمات التي تنتابني، فكانت برائتي من التهمة الموجهة صدّي هي الأساس. أما الطريقة التي   أطلق بها سراحي أثارتني ولم أشعر بالسعادة وبقيت أترقب ما الذي سيحصل بعدها، كان هذا تحليلي واستنتاجي مع تنامي خبرتي وكفائتي. 
    بعد أيام معدودات إستلمت تبليغا بواسطة معاونية أمن البلدة تفيد بوجوب حضوري الى مقر إستعلامات مديرية الأمن العامة وفق تاريخ مثبت على ورقة التبلغ. فعلا بذاك الموعد فقد حضرتُ مقر الأمن العام ما قبل الساعة التاسعة صباحا. رافقني أحد الأفراد الى أحد أقسام التحقيقات فجلست مع إثنين من كبار ضباط وأُجريَ التحقيق معي حول أسباب وتفاصيل التهمة. عرفت فيما بعد إسم واحد منهما النقيب عماد أما الرائد الآخر فلم أتأكد من هويته. كنتُ رائعا، ذكيا بالردّ على جميع الأسئلة وقد هيمن سلوكي هذا على جلسة التحقيق. بعد انقضاء ساعات في الأمن العام شكراني وطلبا مني المغادرة. شعرت مرة أخرى بنعيم الحرية حين عدت الى مدينتي سالما بلا كسر ولا خُدوش.                                                    
    بعد مضي عدت أسابيع إتصل بي أحدُ الضباط وأخبرني بأن (السيد العام) يريد التحدثَ معي وسلمني رقم هاتفه الخاص. فرحتُ في حينها وحزنت لسببين، الأول هو أني تأكدت تماما أن التهمة تبخرت وليس لها أثر وقد انتصرت على ( بن حرج) الذي توعدني بعرضي على شاشة التلفاز الملون، والثاني هو شعوري بالخوف العميق من هذا الرجل (علي حسن المجيد) الذي ليس له صديق ولا يحترم إنسانيته فكيف بمواطن لا يجمعه معه سوى هواه ومزاجه. بقيت أحسب حساباتي، مرة أصيب ومرة أخطىء، عرفت ذلك بعد اجتيازي مراحلَ الإمتحان الصعب والرعب في قلبي وإن تأطّر بصيغة الإحترام والوطنية وانا مازلت على روعة الهندام والإبتسامة لا تفارق مُحيّاي. المكالمة دامت عشرة دقائق كان فيها هادئا، دبلوماسيا في كلامه وتمنى لي الموفقية ثم طلب مني زيارته. تلك المكالمة سجلتها على الجهاز(مسجلَّ قديم مازلت محتفظا بها)، هوأيضا كان يسجل المكالمة بطريقة غبية مثله، حددتُ من خلالها ذكائي والغباء الذي هو فيه (أكرر..كل ما ذكرته سبق تدوينه عند أكثر من جهة سياسية أو مؤسسة دولة منذ الثمانينات). واحد من الإمتحانات التي اجتزتها بنجاح كانت مع وكيلة الأمن (س) تلك الفتاة الجمبلة والذكية جدا ، فكانت روحي بيدها لو أرادت أن تبالغ بنقل أقوالي أو تزوِّرَ الحقائق. النتائج تصل أول بأول الى مديرية الأمن العامة، فما بين الرعب وإبداء التوازن تبلغت رسميا بحضوري الى الأمن العامة ببغداد وبحسب الموعد المقرر. لقد حضرتُ مكتب إستعلامات المقر العام الذي نقلني بدوره الى سكرتير المدير العام. لم أكن قلقا من حضوري هناك ودخولي أروقة الخوف في حينها غير أني كنت خائفا من المجهول ما بعد المقابلة. عرَّفني السكرتير بإسمه، وزعم أنه النقيب (علاء) وأخبرني بأن السيد العام هو الذي يريد مقابلتي لكنه غير موجود في مكتبه بسبب إنشغالاته خارج الدائرة ويمكنني الإنتظار...إنتظرت طويلا ولم يحضربعد الى مكتبه حتى وقت الظهر أخبرت علاء بضرورة عودتي الى مدينتي. إتصل بسيده وعاد ليعتذر عن التأخير وتحدث معي بحديث الوطن والوطنية والثورة والقائد. كنتُ معه لبقا، متحمسا ولما دخل في صلب المقصود اعتذرت ووضعت أولادي السبعة من أولويات معاذيري، قبل هذا اليوم كان لي علم ببعض ما طرحه من مصدر آخر. فيما بعد اضطررت لإخبار والدي بما جرى علي، (فأجابني بما معناه..أخرج من العراق وخلص روحك) ولما سألته عن أحوالهم من بعدي وأخشى ما أخشاه ردّ علي،(ما عليك وحافظ على دينك). تريثتً ثم تريثت بذكاء مُفرط، وسلوك يليق بالواقع الصعب الذي عشته آنذاك بعد نفاد جميع الحلول. بين هذي وتلك ولما غفلَ الجميع عن حقيقة نواياي التي هي عند رب حكيم يعلم الجهرَ وما يخفى وجدتُ نفسي في شمال العراق، أعبرُ باتجاه  الأرض المُحرمة المُسيطرعليها من قبل الأكراد وذلك في منتصف عام 1985. بمجرّد نزولي من الشارع العام اعترضني رجل كردي مُسلح (واشٍ) سألني فأجبته، كاد أن يسلمني بقوة السلاح الى عناصر هو يعمل معها من طرف الحكومة. بأعجوبة تخلصت منه  وتفاصيل القصة أخطر ومثبتة لدى أكثر من جهة منذ العام 1985. تابعتُ السير على مسلك ضيق كان قد سلكه المشاة لعقود، فبقيتُ أشعر بالضياع منذ بداية سلوكي الطريق الموحِش بين الجبال، وما كنتُ أعرف أي محطة سألجأ اليها. لم يدم هذا الضياع لأكثر من ساعة حين التقيتُ شابا كرديا إسمه (صالح وما أدراك ما صالح في تواضعه وخلقه وكرمه وبلادته). كان يسير بنفس الإتجاه الذي أنا عليه، راكبا بغلته. سلمتُ عليه وبقيت أسير بالتوازي معه. كان يتحدث العربية بفهم ركيك، لكنني أفهم مقصده. سألني عن إسمي فأجبته بوضوح، إلا أن وُجهتي لا أعلمها وتمنيتُ أن أبلغَ مقر حزب الدعوة. بينما نحن نسير على المسالك الضيقة التقينا بثلاثة مسلحين سلموا علينا وتحدثوا الى صالح باللغة الكردية لعشرة دقائق تقريبا ولما ذهبوا أخبرني بأنهم أكراد شيوعيين، سألوني عنك وتمنوا أن يأخذوك معهم فقلت لهم هذا ضيفي وسأساعده بالوصول الى مقر حزب الدعوة. أشار لي صالح أن هؤلاء (الجماعة) قد يكونوا شريرين لو ذهبتَ معهم، فقلت له بيني وبينهم الإلحاد والايمان.
    مشينا لأكثر من ستة ساعات كان يرجوني خلالها أن أركب بغلتة وانا أرفض حتى وصلنا بيته المتواضع، المبني من الحجر والطين. دخلتُ ذلك البيت الطاهر وجلست في غرفة الضيوف، ثم تناولنا غدائنا الذي أعدته أمه وزوجة شقيقه خورشيد ذلك الرجل المملوء خلقا وشرفا ونبلا. دخلت علينا أم خورشيد المتقدمة في العمر وحدثتني باللغة الكردية بينما صالح يترجم حديثها بلغة عربية ركيكة. كانت هذه المرأة العجوز تبكي على الحالة التي أعيشها، وتبكي على أطفالي السبعة الذين هجرتهُم مُكرَها تحت وطأة نظام صدام حسين الظالم. مكثتُ ثلاثة أيام أنتظر خورشيد شقيق صالح الأكبر كي يتفرغ وينقلني الى حيث أريد وكما حللت الوضع أنه (بيشمركه) له مهام يقوم بها. خلال مكوثي في البيت دخل علينا ثلاثة ضيوف من أكراد تركيا ومكثوا معنا ليلة واحدة غادروا بعدها على بغالهم صوب حدود بلادهم. في اليوم الثالث كنا على استعداد للرحيل فانطلقنا أول الصباح ومشينا لأكثر من ستة ساعات حتى وصلنا مقر حزب الدعوة في منطقة الزيبار. شعرتُ في حينها بالسعادة والأمان بينما صورة ذلك الشبح الشيوعي الأعور لن تفارق مخيلتي وبحسب كلام صالح أنه كررعليه الطلب أن أصطحبهم الى مقرهم. أعدَّ بعضُ شباب مقر حزب الدعوة لنا الغداء الذي حسبته طعام المُحارب فتناولناه ونحن مُرهَقين. بعد أقل من نصف ساعة غادرَنا كاكه خورشيد وغادَرَت روحي معه عائدا الى بيته البعيد وبقيت أنا في المقر مع الأخوة أعرِّفهم بنفسي جيدا ليطمأنوا، وأحدثهُم عن الداخل. الى حلقة رابعة قادمة.

    قاسم محمد الكفائي
    Twitter..Qasim Alkefaee

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media