ولو راجعنا مسير واقعة الطف هي كان فيها انتصار عسكري لجيش مؤلف من(30)ألف شخص من معسكر المجرمين وهو جيش يزيد في أقل الروايات وهناك روايات تصل الى إلى (80)الف مقابل معسكر النور والحق لا يزيد عن (74) وهو معسكر الشموخ والعنفوان والآباء والذي كان أفراده يتسابقون الى الموت من أجل حماية سيدهم وقائدهم وأمام زمانهم الأمام الحسين وأهل بيته، ولهذا كانت المعركة في ظرفها انتصار لمعسكر يزيد وباقي المجرمين من أبن مرجانة وعمرو بن سعد وباقي السفلة من الجيش وهو انتصار ظرفي مكاني قصير جداً، إذ سرعان ما تهاوت تلك الانتصارات الزائفة مع وصول سبايا آل محمد إلى دمشق وخطبة الإمام زين في خطبته والأهم ما خاطبت به بطلة كربلاء زينب الحوراء(ع)وهي سحقت كل ما خطط له يزيد(لعنه الله)ومعسكره المجرم وأولهم مستشاره سرجون النصراني ليفرغ نصر يزيد من كل محتوى ويمرغ أنفه في التراب.
وهذه عقيلة الطالبيين تخطب خطبتها المعروفة في مجلس الطاغية يزيد والتي نأخذ مقاطع منها والتي تخص مقالنا البحثي فتقول {...أمِن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهنَّ الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفَّحُ وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهنَّ من حُماتهنَّ حميّ ولا من رجالهنَّ وليّ، وكيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان ثمَّ تقول غير متأثِّم ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحاً *** ثمَّ قالوا يا يزيد لا تشل....} ثم تقول وهو المهم { فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردنَّ على رسول الله صلى الله عليه وآله بما تحمَّلت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمَّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.
وحسبك بالله حاكماً، وبمحمَّد صلى الله عليه وآله خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك ومكَّنَك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً وأيّكم شرٌ مكاناً، وأضعف جنداً.
ولئن جرَّت علي الدواهي مخاطبتك، إنّي لاستصغر قدرك واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى.
ألا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تَنْطُفُ من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمّهات الفراعل ولئن اتّخذتنا مغنما، لتجدنَّا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد الا ما قدَّمت يداك وما ربُّك بظلام للعبيد، والى الله المشتكى وعليه المعول.
فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جُهدَك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيَّامك الا عدد، وجمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين }(1).
فهذا الذكر الخالد لأبي عبد الله والتي تنبأت به زينب(ع) بقى خالداً والذي يمثل الانتصار الحقيقي للإمام الحسين(ع) ومعسكره معسكر الحق والنور فكان انتصار الحسين(ع) انتصار على مدى التاريخ ليبقى خالداً على مدى التاريخ وإلى قيام الساعة.
وهذه الحقيقة بلغت حداً من الوضوح بحيث لفتت أنظار غير المسلمين، ليقفوا عندها ويسجلون انطباعاتهم، فهذا المستشرق الألماني (كارل بروكلمان) يقول: ((الحق إن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين، قد عجلت في التطور الديني لحزب علي، وجعلت من ضريح الحسين في كربلاء أقدس محجة))(2)، ويقول المستشرق الانكليزي(د.ج. هوكار): ((دلت صنوف الزوار التي ترحل الى مشهد الحسين في كربلاء والعواطف التي ما زال تؤججها في العاشر من محرم في العالم الاسلامي بأسره...كل هذه المظاهر استمرت لتدل على إنَّ الموت ينفع القديسين أكثر من حياتهم مجتمعة))(3).
لتصبح كربلاء المقدسة قبلة الأحرار وكعبة الثوار كما تقول المقولات للكتاب والمؤرخين ولتكون تضحيات الحسين وأخيه أبي الفضل العباس وأهل بيته وأصحابه المنتجبين هي الدستور والمنهج الذي يسير عليه كل الثوار والأحرار وبغض النظر عن الديانة والعرقية واللون والجنس بل يصبح كل ثائر وحر يفتخر بسيره على نهج الحسين وما قام به من بطولات وتضحيات وقيم إنسانية زرعها وبناها في تاريخ الفكر الإنساني والتي لم يقم به من الأولين والآخرين وعلى مدى التاريخ، فبقى ذكر الحسين ووحيه كما قالت زينب باقٍ وخالد مهما حاول يزيد وأتباعه سواء في ذلك ولحد وقتنا الحاضر لأن يزيد وأتباعه موجودين في كل زمان ومكان، لم يستطيعوا وإطفاء ألق الحسين وسعاه الذي لا يخبو مهما حاول غربال الغش والتحريف حجب شمس الحقيقة والتضحيات التي جرت في أرض الجنة كربلاء والدماء الزكية والطاهرة التي جرت في أرض الطفوف لتصبح تلك البقعة أطهر بقعة في الأرض ولتكون قبلة لكل العاشقين صوب محجة الأحرار والثوار وهو ضريح أبي عبد الله الحسين(ع)وليكون الإمام الحسين هو أمام ليس للشيعة ولا للمسلمين بل هو أمام وقائد لكل البشرية يستلهم منه كل المؤمنين وكل الشرفاء الذين يؤمنون بقيم الحق والعدالة خطبه وكلماته الخالدة وسيرته العطرة منهج ودليل في السير بالحياة بكل عدالة وحق ومساواة، ولهذا جاء كلمة أبي عبد الله الخالدة والتي تقول {إِنِّي لا أرَى المَوتَ إلا سَعادةً ، وَالحَياةَ مَع الظالمين إِلاَّ بَرَما }(4)لأنه في موت الحسين قد بدأت الحياة السعيدة وبهذا الموت السعيد قد بدأت حياة الخلود لأبي الأحرار والثوار هو وأخيه أبي الفضل العباس وأخته الحوراء زينب(عليهما السلام)وأهل بيته وأصحابه المنتجبين لتكتب بهذه الدماء الطاهرة والزكية ملحمة النهضة الحسينية الإنسانية وبأحرف من نور ولتبقى هذه الملحمة خالدة ما بقي الزمان وليتذكرها جيلاً بعد أخر ولتزداد كلما يمضي الزمان ألقاً وإشعاعاً.
والى هنا نتوقف عن تسجيل الملاحم الإنسانية والتي سطرها أبي الأحرار روحي له الفداء لكي والتي كلها تبعث على الفخر والزهو لمن كان أمامه بهذه البطولة النادرة والتي لم يجد الزمان بها لا في الأولين ولا في الآخرين بعد جده وأبيه وأخيه (سلام الله عليهم أجمعين).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصادر :
1 ـ السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص 181 وما يليها. أ علام النساء لمحمد رضا كحالة ج2 / 504. التذكرة الحمدونية، لابن حمدون ج6/262 رقم (631). بلاغات النساء، لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور الخراساني - المشهور بابن أبي طيفور( ت 280 هـ) ص 70 - 73. طبع دار الفضيلة، القاهرة، تحقيق د. عبدالحميد هنداوي. نثر الدر، لأبي سعيد الآبي ج4 / 26.
2 ـ الإمام الحسين (ع) في الفكر الغربي .."عاشوراء ثورة كونية".. ، بحث منشور في الانترنيت. موقع المنار. الرابط
http://archive.almanar.com.lb/article.php?id=647106.
3 ـ نفس المصدر السابق.
4 ـ بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٤ - الصفحة ٣٨١. الارشاد ص 209 و 210. تحف العقول: 174. الحسين بن علي عليه السلام ”مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم ص/٢٦٥.