د. عقيل عباس
بخلاف النظرة النمطية السائدة عراقياً، لم يكن اليهود العراقيون تجاراً وصانعي أموال فقط، بل توزعوا على مختلف جوانب الحياة العامة ومهنها وساهموا فيها، وأحياناً بفعالية عالية وتأسيسية. مثلاً يمكن المحاججة بسهولة أن الغناء العراقي الحديث هو صناعة يهودية عراقية، أساساً على يد موسيقيَّين يهوديين، هما الأخوان صالح وداود الكويتي اللذان وضعا الأسس الموسيقية لهذا الغناء عبر تلحينهما الأغاني الأولى في هذا التقليد الجديد الذي برز في ثلاثينات القرن العشرين، بعد عقد من تشكيل الدولة. كانت المغنية العراقية الأولى التي قدمت هذا الغناء يهودية أيضاً، سليمة مراد، بأغنيتها المشهورة "گلبك صخر جلمود" في عام 1932 والتي اعتبرت فاتحةً لتقليد الغناء الجديد هذا الذي سيكبر على مدى العقود التالية، لتُطلق عليه تسمية الغناء العراقي، بمعنى كونه غناءً يغطي البلد، وليس غناءَ منطقة أو مناطق محددة فيه. قبل بروز "الغناء العراقي" ومرافقاً له أيضاً، كان هناك الغناء المناطقي، كغناء الريف، الذي اختص، كما يدل إليه اسمه، بالمناطق الريفية، وغناء المقام الذي اختص بالمدن، وعُرف بالمقام العراقي. وحتى المقام العراقي، كان اليهود، مغنين وموسيقيين، يمثلون جزءاً كبيراً ومهماً فيه.
لليهود العراقيين أيضاً دور بارز في السياسة يغيب غالباً في التناول التاريخي لقصة البلد. دخل كثير منهم في الحركات اليسارية، أساساً بسبب تبنيها للمساواة القانونية بين العراقيين في إطار وطني جامع، ووقوفها ضد التمييز الاجتماعي على أساس الاختلافات الدينية والعرقية. من هنا مثلاً شهدت الثلاثينات دخول شخصيات يهودية مثل نعيم طويق ويعقوب كوهين ويوسف مكمل وشوعة بطاط في حركة الأهالي التي كان من أبرز زعمائها جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي وعبد القادر إسماعيل، وذلك قبل أن تتفتت الحركة عملياً بعد تحالفها الموَقّت والفاشل، مع انقلاب بكر صدقي في 1936، واعتزال أبو التمن السياسة، ومن ثم تشكيل الحزب الوطني الديموقراطي بزعامة الجادرجي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
لكن الشيوعية العراقية هي التي اجتذبت معظم اليهود المنشغلين بالسياسة، وهم عموماً كانوا يساريين، بسبب يساريتها الواضحة وتمثلها الحقيقي، في صفوفها، للمواطنة العراقية دون تمييزات اجتماعية عرقية أو دينية. انتقل إليها الذين خابت آمالهم في تجربة "الأهالي". كان حضور اليهود في الحزب الشيوعي بارزاً ومؤثراً. منح اليهود العراقيون الحزب الشيوعي شهيدَه الأول، شاؤول طويق، الذي سقط في حزيران 1946 في تظاهرة نظمتها "عصبة مكافحة الصهيونية" دعماً لحقوق الفلسطينيين ومطالبةً بجلاء القوات البريطانية من البلاد. على إثر ذلك، قررت السلطات الملكية منعها من العمل السياسي وسحب إجازتها وإيقاف نشر جريدتها واعتقال أعضائها. تشكلت العصبة، بدعم من الحزب الشيوعي، في 1945 من شباب يهود شيوعيين. كان تشكيلها محاولةً يهودية عراقية للفصل بين اليهودية كمعتقد ديني والصهيونية كحركة سياسية، في إطار عراق غاضب على الصهيونية ولم يكن معظمه يميز بينها وبين اليهودية.
تَمثل اليهود في مواقع كثيرة مهمة في الحزب الشيوعي وحضروا في بعض حوادثه المفصلية. عُقد مؤتمر مهم للحزب الشيوعي في آذار 1945، أُقر فيه النظام الداخلي للحزب، في بيت يهودي شيوعي في بغداد، يهودا صديق، واسمه الحركي "ماجد". حضر ذلك المؤتمر 27 مندوباً شيوعياً يمثلون مختلف التنظيمات الشيوعية في البلد، وانتُخِبت فيه لجنة مركزية من عشرة أعضاء كان صديق أحدهم، وانتُخِب أخوه حسقيل عضو احتياط. بعد عامين، في 1947، يصبح صديق عملياً زعيم الحزب الشيوعي بعد اعتقال الزعماء الثلاثة الكبار: فهد (يوسف سلمان يوسف) وحازم (زكي بسيم) وصارم (حسين الشبيبي). من موقعه هذا، يساهم صديق في تنظيم الاحتجاجات العراقية المعروفة بوثبة كانون 1948 التي استمرت بحدود شهر في بداية ذلك العام ضد تجديد المعاهدة العراقية - البريطانية، وبالتالي بقاء القوات البريطانية في العراق، وهي الاحتجاجات التي لعب الحزب الشيوعي دوراً مهماً في تنظيمها وإدامتها، واتُّهم "فهد" بلعب دور بهذا الخصوص من خلال الرسائل السرية التي كان يسربها من السجن وتحث على مواصلة الاحتجاج وتنظيمه.
مع تولي عدو الشيوعية الأول والأشد شراسة، نوري السعيد، رئاسة الوزراء في بداية كانون الثاني 1949، كان العراق الملكي يتجه نحو المزيد من المواجهة مع الشيوعية، بما عناه هذا من اعتقال وإعدام يهود عراقيين ناشطين شيوعياً. أدى إعلان تشكيل حكومة نوري السعيد هذه، للمرة العاشرة، إلى اندلاع إضرابات طلابية في كليات مختلفة كالصيدلة والحقوق والطب، ورافقتها تظاهرات احتجاجية في محافظات النجف والبصرة وكركوك والسليمانية، كان الشيوعيون وراء تنظيمها. وقف نوري السعيد أمام مجلس النواب وهو يعدد الأنشطة "التخريبية" للشيوعية وإجراءات الحكومة ضدها، ليُلخّص سياسة الحكومة بالقول "الحكومة الحاضرة ليس لها أي غرض انتقامي إلا أن تصفي حساب الشيوعيين، وتكافح الشيوعية إلى نفسها الأخير في هذه البلاد".
قبل نحو شهرين من وصول السعيد إلى سدة رئاسة الوزراء، يُعتقل صديق، ويُحكم بالإعدام هو والزعماء الثلاثة، ليُنفذ الحكم في شباط 1949 بعد أيام قليلة من إصداره، أي بعد نحو شهر ونصف من مجيء الحكومة الجديدة. كانت رغبة نوري السعيد، حسب ما نُقل عنه، أن يكون المعدومون الثلاثة، كمسلم ومسيحي ويهودي، ممثلين عن الديانات الرئيسية الثلاثة في العراق. لكن وزير العدل حينها، محمد حسن كبه، سأله إذا كان يفترض أن يكون المعدوم المسلم سنياً أم شيعياً، فكان رد رئيس الوزراء أنه من الأفضل أن يكون هناك مسلمان اثنان، واحد سني وآخر شيعي. وبالفعل انتهى الأمر بإعدام أربعة زعماء شيوعيين (فهد وحازم وصارم وماجد) توزعوا على المعتقدات الدينية الرئيسية في البلاد، مع أنهم، فكرياً وشخصياً، لم يكونوا ينتمون إلى هذه التصنيفات أو يؤمنون بها.
في الأشهر القليلة بين اعتقال صديق وإعدامه، يتولى قيادة الحزب الشيوعي العراقي يهودي آخر، شاب ذكي وشجاع حد التهور، هو ساسون دلال، ليُنظم تظاهرات احتجاجية شيوعية، دعا فيها المتظاهرين إلى استخدام العصي ضد الشرطة، في سعي منه للضغط على الحكومة الملكية لإطلاق سراح الزعماء الشيوعيين المعتقلين. ردت السلطة الملكية بقسوة أشد على المتظاهرين، وتتبعت مكان اختباء دلال واعتقلته، بعد بضعة أيام من إعدام الزعماء الأربعة. حوكم هذا الزعيم الشاب الألمعي وصدر عليه حكم الإعدام ونُفّذ بعد ثلاثة أشهر من اعتقاله.
في الدعاية الشيوعية العراقية في العقود المقبلة، يختفي عموماً الاحتفاء بأسماء مثل يهودا صديق وساسون دلال وشاؤول طويق ويعقوب كوهين. ثمة حجج مختلفة ترد بهذا السياق، بعضها مرتبط بخلافات داخلية حزبية (مثلاً انهيار يهودا صديق تحت وطأة التعذيب البوليسي واعترافه على زملاء شيوعيين آخرين، فضلاً عن مخالفته، السابقة لاعتقاله، لبعض أوامر فهد التي بعثها له عبر رسائل سرية من السجن)، وبعضها الآخر مرتبط بصعود انحيازات اجتماعية ظالمة في البلد. قد تكون الحجة الأقوى مرتبطة بهذه الانحيازات. فمنذ الخمسينات فصعوداً، مع خسارة الدول العربية حرب 1948 ضد إسرائيل وبروز التمييز المنهجي ضد اليهود العراقيين، بدأت قوى إسلامية وقومية "تُعيِّر" الشيوعيين العراقيين بالمساهمة اليهودية القوية في قصة حزبهم. كان يختصر هذا التعيير مقولة شاعت "اليهود إخوان الشيوعيين"، في إطار نزع الشرعية السياسية والأخلاقية والوطنية عن الشيوعيين العراقيين!
أن يصير الاقتران باليهود أو العمل معهم عاراً ويتحول إلى جزء من الخصومة السياسية يقول الكثير عن شدة التعصب في العراق. تصاعد هذا التعصب اجتماعياً، وتمظهره سياسياً ومؤسساتياً في سلوك الدولة على مدى العقود التالية هو الذي سيؤدي تدريجياً إلى اقتلاع اليهود العراقيين من بلدهم وإجبارهم على الرحيل عنه.