ثقافة وأدب

أ. د. أياد حسين عبد الله

وحدة الذهنية العربية في الفن الاسلامي

03/10/2009 15:59:59
فكرة التوحيد
تجلت الحضارة العربية الاسلامية في انطلاقتها من منظور التوحيد ، في الرؤية الشمولية للكون والحياة لتفصل بين الخالق وخلقه وما يقتضيه ذلك في تحقيق ارادة الخالق في الكون ، الذي يعمره الانسان الاكثر مسؤولية في هذه الحياة .

ولما كان الاسلام هو جوهر الحضارة ، وكان التوحيد هو جوهر الاسلام ، فقد اشتمل هذا المنطق على كل القوانين الداخلية للاشياء ، في مستواها الدنيوي والاخروي ، وجعلها في اطار وتسلسل منهجي دقيق وليجعل من التوحيد تصورا عاما للحقيقة ومدركاتها .

فكان الخالق عز وجل يتجلى بصفاته التي تساعد المخلوق لادراك تلك الصفات وارادة الخالق في خلقه وملكوته ، وكان القران الكريم معبرا عن تلك الارادة وسننها في الارض لان هذه الارض والعالم التي امامنا مجموعة لا متناهية من الاشياء ومجموعة من الموضوعات التي تؤثث الكون ، وتجعل منه كيانا قابلا للادراك والمعاينة والتغيير . وبالتالي اشتغال الكون كمستودع داخله سلسلة من الاشياء وينتج عبر ميكانيزماته الخاصة نمط ادراك هذه الاشياء .

وكان لمبدا التوحيد كجوهر حضاري في الاسلام ، اسلوبا يحدد الشكل الذي تنتظم به المبادئ ، المكونة للحضارة في عملية التطبيق ، والثاني في المبادئ نفسها التي تنتظم داخل الشكل بما ندعوه الان بالمظهر والجوهر او الشكل والمضمون .

لقد اتضحت فكرة التوحيد انطلاقا من موقف الدين والحياة والوجود في عرضيتهما ، وبما يحويانه من انسان وحيوان وطبيعة ، ازاء جوهرية المطلق ، الذي هو الغيب جل جلاله . المطلق الغائب الموجود في كل شئ ، ( اينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله ) و( كل شيء هالك الا وجهه ) و( وسنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق ) والعديد من الايات الكريمة التي تؤكد وهمية وعرضية الزمان والمكان ، والوجود كعالم يشهد ازاء مطلقيته وجوهريته وازليته ، وابدية الله .

مبدأ الجمال
وامام هذه العرضية ، يفقد الموضوع قيمته الاساسية في العمل الفني الاسلامي ويتحول الى المبدأ مع قيمة الشكل بدلا من الشكل والمضمون او الموضوع فالجمال في الفنون العربية الاسلامية تتميز بتفردها بتلك اللمسات الروحانية التي ترتاح اليها النفوس وتتماهى مع تعابيرها وتوريقاتها اللامتناهية ، لتوحي بشعور الانتماء الى عوالم كونية بعيدة تمد الروح القلقة فيها بسلامها وطمأنينتها . حتى اعتبرت الزخرفة نوعا من الطقوس المقدسة والمنمنمات تمثل لا نهائية الحياة . حيث يقول (مارسيه) : ( في كتاب الفن الاسلامي ) ( ان وحدة الرقشة الزخرفية بغير بداية او نهاية ، فهي سرمدية استوحت قواعدها من القواعد الرياضية وتكرار الموضوع والرغبة في حل معادلة اللانهاية ) .

ويكشف لنا ابن عربي عن جوهر الفن الاسلامي بقوله : ( الذات محجوبة بالصفات ، والصفات محجوبة بالافعال ، والافعال محجوبة بالاكوان والاثار ، فمن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجبت الافعال ، رضي وسلم ، ومن تجلت عليه الصفات ، فني في الوحدة ، فصار موحدا مطلقا ، فتوحيد الافعال مقدم على توحيد الصفات ، وتوحيد الصفات مقدم على توحيد الذات ) ( الفتوحات المكية ) .

من هنا تغيب الذات في الفن الاسلامي ، وتضمحل امام عظمة الخالق ، ولاتظهر الا في سمات ذلك الفن الجمعي ، الذي يعيد عزفا اسلاميا جماعيا ، فيغيب الفنان المسلم بينما يتجلى الفن الاسلامي في ابهى صوره .

كما تنعكس صفة المطلق من خلال ذلك التكرار الذي لا ينتهي في انتشار الزخرفة باتجاهات متعددة لا تنتهي او تتوقف انما تتوالد بصورة مستمرة . وهكذا ينمو الفن من نقطة واحدة تتراكم بنظامية هندسية رياضية ، او تتكرر حسب نظام كلي فتصير خطاً والخط يكون اشكالا مربعة ، دائرة ، مخمس ، مسدس ، مسبع ، مثمن .... الخ ثم تدور هذه الاشكال حول مراكزها ... انها النقطة .

قواعد اساسية
الجانب الاسلوبي الذي يحدد علاقتنا بالفنون الاسلامية عموما والخط العربي خصوصا ينطلق من مبادئ اساسية ثلاث هي :
( الوحدة ، والعقل ، والسعة ) .
فالوحدة في الفنون الاسلامية عملية انتظام في علاقات داخلة مع مكونات تلك الفنون مهما اختلفت اساليبها ووسائلها ، فكأن وحدتها الاسلوبية هي في حقيقتها وحدة جوهر مع اختلاف جميع الاغراض . اما العقل فكان يؤكد على ما يخالف الحقيقة واستمرار التناقضات والانفتاح وتقبل الدليل المخالف . فكان رفضه لمخالفة الحقيقة حماية له من الظن والذي يكون احيانا اثما ( ان بعض الظن اثما ) . ورفض المتناقضات كان اتفاق على مصدرية المعرفة اليقينية اما اشتغال العقل فقد كان حماية للانسان من الانغلاق .

وفي هذا الاطار تمتد فكرة التوحيد لتشمل المبادئ الاساسية في حياة الانسان المسلم وتكون في وقت واحد مبدأ اخلاقيا وقيميا ، واجتماعيا ، وجماليا . وفي ذلك يقول : ( روجيه غارودي ) ( الفن الاسلامي كالعلم الاسلامي والحياة الاجتماعية الاسلامية والفلسفة الاسلامية ، لا يمكن فهمها الا من خلال مبدأها الاساسي وهو العقيدة الاسلامية ) .

المرئي واللامرئي
ولتأكيد الثوابت الشكلية ، والجوهرية الموزعة على محور الزمان والمكان ، في حياة الفنان المسلم . سنعيد تشكيل سلم احالات داخلية في النسق الفكري الذي انتهى اليه الفن الاسلامي والذي لا شك ان في تنظيم تاريخه الجمالي ، وبنيه خطابه المتماسك داخل صيرورته ستساعدنا كثيرا في قراءة الجانب المرئي منه ، وتحرك فينا تلك الاصداء التي تكشف عن خطاباتها الجوهرية الغير مرئية وهذا هو ديدن الفن الاسلامي في اكتشاف ذلك الجوهر ، ومنحه ذلك الجسد المرئي ، اي استقراء الجوهر الماورائي واعادة تمثيل ذلك الجوهر .

ولما كان هذا الجوهر الماورائي الهي في طبيعته ومصدريته فهو جدير بالتقديس والجلال والمهابة . واذا كانت الفلسفات القديمة تبحث وتؤكد على ذلك الجمال الذي تدركه الحواس فان الاسلام كان يؤكد على ذلك الجوهر ( الجمال الذي يدركه العقل ) في محكم بيانه العظيم او في تجسيده للايمان والوفاء والتقوى والشجاعة والكرم .
واعتبر الامام الغزالي ان ذلك الجمال المدرك بالعقل تعجز الحواس بحكم محدوديتها عن ادراكه او نقله الى العقل ، وانما يدركه العقل مباشرة دون ان يكون للحواس فضلا في ذلك لانه من المدركات الاعتبارية المؤثرة في النفس والوجدان .

الجمال الحسي والجمال العقلي
توضح لنا امران في ادراك الجمال في الاسلام ، جمال حسي ، وجمال عقلي . الاول يدركه البصر والاخر تدركه البصيرة . وان يكن الامام الغزالي قد كشف عن عمق جمال البصيرة بقوله ( البصيرة الباطنة اقوى من البصر الظاهر) ( القلب – العقل – اشد ادراكا من العين ) وجمال المعاني المدركة بالعقل اعظم من جمال الصور الظاهرة للابصار . ولذة القلب في ادراك الامور الجليلة الالهية اقوى وامضى . وهكذا وحد الجوهر في الفن الاسلامي ، بين ذلك النسق في العلاقات الشكلية بين المفاهيم والاسباب التي ادت الى تالفها او اختلافها ، ويصر ذلك النسق على الاكتمال في الرؤية ، بعد ان كانت كل الوقائع مستعصية على الانصياع .فالمدرك بالبصر والبصيرة غير الملموس باليد او البعيد المنال .

وهكذا تحرر الفن الاسلامي من الحضور العيني للوقائع البصرية . انه فن يؤمن بالتوحيد ويشهد على الالوهية ، عندما يقضي الفنان المسلم بان لا شئ في الطبيعة يحمل صورة الله او يعبر عنه ، اي ابعده عن طبيعته ، وتامل الفنان الموحد بان عدم التعبير عن الله شئ ، والتعبير عن عدم التعبير شيء اخر ، اي ان استحالة التعبير عن اله ، هي اسمى الاهداف الجمالية ( ليس كمثله شئ ) و ( لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار ) التي يمكن ان ينشدها ، وراى انه يمكن التعبير عن استحالة التعبير وذلك يحمل ما يرى في بصيرته على الايمان بالانهائية وهو المحال التعبير عنه فكان فن الخط والزخرفة والعمارة والكثير من منتجات الفن الاسلامي . وعند استحالة التعبير في شكل هذه الفنون بعد تغير موضوعاتها ايقن الفنان الموحد معنى من معاني التنزيه . لهذا كانت كل الفنون الاسلامية تسعى الى تجاوز لغة الشكل والتقليد .

لغة الشكل وايقاظ العين
وتتسم لغة الشكل بتجردها من القيم المادية بالطبيعة ، فتتحول تلك القيم الى خطوط والوان مسطحة ومجردة من اي دلالة في العالم المنظور بل تقود تلك الخطوط والالوان الى نزعة صوفية تزهد بكل ما هو عاطفي او حسي او عرضي . حتى قيل في الخط ( بانه هندسة روحانية وان ظهرت بالة جسمانية ) او ( الخط اصيل في الروح ) و ( والخط لسان اليد ، ومطية الفكر او العقل ) كما اورده ابن النديم .

وتحمل لغة الشكل في الفن الاسلامي استعدادا مبكرا لايقاظ لغة العين لان المدرك بالبصر والبصيرة غير الملموس باليد او البعيد المنال ومحاولة قراءته بطريقة بنائية – تركيبية وبنسق يوضح العلاقة بين المفاهيم والاسباب التي ادت الى تالفها او اختلافها لانها عندما تتوجه اولا للعين تتخذ منها طريقا للوصول الى الانسان ككائن موحد .
وايقاض لغة العين يعني ، ان يكون باستطاعتها ان تقرأ مضمون المستقيم والمنحني والمتحرك والثابت والمغلق والمفتوح وتجليات النقطة واكتمال الدائرة وكل النظام الحي الذي يحكم مسار العناصر وبالتالي ان تقرأ لغة الشكل كمضمون .
والسؤال الذي يقدمه الفن الاسلامي هو : كيف ترى ؟ لا ماذا ترى .

فقد شهد الفن الاسلامي منذ حضوره ، على كيفية الرؤية لا على موضوع الرؤية ، وهو ما تسعى اليه المدارس الفنية الحديثة ، والمناهج الفكرة في التلقي والتاويل سواء في الادب او الفن اليوم . فالعين اذاً هي القصد الاول سواء كانت في مجال القراءة او التامل او التذوق او الفهم ، والعين هنا ليست اداة العقل او المخيلة او اداة الحس ، كما هي بالنسبة للكثير من الفنون بل انها الطرف الاخر المستقل التي تمثل الانسان ككل في عقله ومخيلته وحسه . ومفردات لغة العين من شكل وخط ومساحة وحدود ونظام ، كالحروف التي تتالف من الكلمات والجمل والمصطلحات والرموز والاشارات والحركات وذلك باقتدائها بنظام خاص يشكل سر اللغة وجوهرها في الاصغاء لهذا النظام الذي يتحكم بالشكل وعناصره في قوانينه وعلاقاته وامكاناته وفي الاصغاء لمعنى تجلياته ومصدرها ، يتم الفهم واللقاء بين المتامل وبين الفن . فتحجب عندها اللغة والعين معا ، ليقف الانسان ككل متوحد امام الشهادة التي يشهدها هذا الفن .

اننا ازاء فن لا يروي ولا يصف ولا يعلق ولا يشرح ، فقد غاب الموضوع عنه فتجرد من الفرح او الحزن ، كما تجرد من الزمان او المكان فلا حاجة اذاً للتواريخ والاماكن ، بل تبرز الحاجة للعين التي تعرف كيف تقرأ تلك العناصر والخطوط والالوان في تلاقيها وتقاطعها وتنافرها وتناغمها كاشارة او رمز او نظام خفي .

وحدة الرؤية
وكنا فيما سبق قد شهدنا وحدة الرؤية في الفن الاسلامي ومصدرها ويحضرنا قول لـ(تيتوس بوركهارت ) ( بان الفن الاسلامي يستقي مكانته من التزاوج بين الحكمة والمهارة الحرفية ، وتبرز قيمة الاتقان هذا في الفن الاسلامي ، كنوع من الاخلاص والاجادة في اداء العمل ، وهي رؤية شمولية لحياة الانسان في عبادته وفكره وحياته اليومية فضلا عن فنه . لا شك ان مثل هذه الرؤية الفنية والتراث الخالد مبنيان على البراعة والحكمة في كافة تجليات الفن الاسلامي .

ولمناقشة وحدة الرؤية في الفن الاسلامي ، فاننا نعود الى تفسير وحدة الفكرة لدى بورك هارت حيث يقول : ( ان لدى الفنان المسلم ثلاثة وسائل :
(الهندسة) وهي تترجم النظام المكاني .
(والايقاع ) وهو يكشف النظام الزمني ، وكذلك في المكان على نحو غير مباشر .
( والضوء ) بالنسبة للوجود المحدود ، وهو في حقيقة الامر غير قابل للانقسام ، وطبيعته لا تتغير بفعل انعكاساته على شكل الوان ، ولا تقل بفعل انعكاساته او تدرجاته من النور الى الظلمة . )
وهذه الوسائل الثلاث تبدو بشكل نموذجي في الفنون الاسلامية في العمارة والزخرفة والخط ، كما الغى الاسلام الحدود الفاصلة بين الدين والحياة ، وكان المسلم يبدأ بالبسملة عند شروعه القيام باي عمل .
اما الوسيلة الاولى ( الهندسة) ، او ما يسمى بالعلاقات الهندسية في الفن العربي الاسلامي ، فهي التي ستكون محور موضوعنا الحالي ، ومن الضرورة هنا التمييز بين العلاقات الهندسية والعلاقات الرياضية . 

النسبة الذهبية الاغريقية
والعلاقات الهندسية في عمليتي النسبة والتناسب لم تكن بجديدة على الفن الاسلامي اذ سبق ذلك في الحضارة اليونانية عندما وجد فيثاغورس بان اجمل العلاقات التناسبية التي تربط بين الحجوم والاشكال والمساحات هي تلك التي تتساوى بالنسبة الذهبية والمتمثلة بالشكل المستطيل الذي يتكون من مربع ومستطيل اخر صغير ، لكن المستطيل الصغير والكبير متماثلان . بمعنى ان النسبة بين اضلاعهما متشابهة، اي ان ناتج قسمة الضلع الكبير للمستطيل على ضلعه الاخر ، تساوي تماما ناتج القسمة للضلع الكبير للمستطيل على ضلعه الاخر .

وقد وجد الاغريق بان هذه النسبة التي تبلغ 1,61803398875 وتبسط الى 1,618 هي اجمل العلاقات التي تريح البصر ، وتشكل احد اهم معايير الجمال في الطبيعة كما في المعبد اليوناني (البارثيون) لهذا فقد اعتمد هذا المعيار في عمارتهم واعمالهم الفنية . وقد وجد بعد ذلك تطابقا لهذه النسبة مع الكثير من المظاهر ، بعد ان اجرى ( روبنسون ) دراسته على الهرم الاكبر الذي بناه الفراعنة ، فوجد انه يخضع لقوانين النسبة الذهبية ، حيث ان النسبة بين المسافة من قمة الهرم الى منتصف احد اضلاع وجه الهرم وبين المسافة من نفس النقطة حتى مركز قاعدة الهرم المربعة تساوي النسبة الذهبية .كما تم العثور على تطبيقات عديدة جدا لهذه النسبة .
وقد استخرج بعد ذلك العديد من النسب من القطاع الذهبي من اجزاء ومضاعفات النسبة الذهبية الاولى كما في نسبة مستطيل الجذر الخامس ، والنجمة الخماسية للقطاع الذهبي ومثلث القطاع الذهبي ، والنسبة الجوهرية ، ونسبة الجذر التربيعي للعدد 2 ، والنسبة الرقمية البسيطة ، ونسبة فايبوناتشي ، ونسب عديدة تبحث في اصل تناسب القيم الجمالية في حياة الانسان .

النسبة الذهبية الاسلامية
اما في الحضارة العربية الاسلامية ، وبعد تحليل العديد من المظاهر المعمارية المختلفة زمانيا ومكانيا ، فقد وجد بانها ترتبط بنسبة ذهبية ايضا مع اختلاف ابعاد هذه النسبة وبما يبلغ 1,414 اي ان مستطيلها الذهبي اقصر طولا من المستطيل الذهبي الاغريقي الذي وضعه فيثاغورس .

كما تطابقت هذه النسبة مع العديد من منتجات الفن الاسلامي ، وما يخصنا في بحثنا هذا هو هل يمكن ان تنطبق هذه النسبة او اي نسبة اخرى على الخطوط العربية ، خاصة اذا علمنا ان الفكر الرياضي يشكل اهمية كبيرة في المنطق الجمالي للفنون الاسلامية في العمارة والزخارف النباتية والهندسية فضلا عن الخط العربي .

ومنذ ان وضع ابن مقلة النسبة الفاضلة في هندسة الخط العربي والتي قدرت ابعاد الحروف ورسم اشكالها وفق نسبة معينة تستمد جمالها من طبيعة الاشياء وتعد هذه النسبة من اولى المحاولات التي ارست هذه العلاقة ، وقيدت الخط بنسب ثابتة لا تتغير ، حتى عرف خطه بالخط المنسوب ، واتخذ شكل النقطة المربعة – المرسومة بنفس القلم – والتي يعتبرها جزءا من الحرف ، وسيلة لقياس ابعاد الحروف . ومن الجدير بالذكر ان مقياس الحروف بواسطة النقطة اصبح ومنذ عهد ابن مقلة الوسيلة لتحديد العلاقة العضوية بين اجزاء الشكل للتعبير عن علاقات فنية صحيحة – ويجد القارئ المزيد عن جهد ابن مقلة في رسالته في الخط والقلم الا ان الاساس في ذلك هو وجود علاقة هندسية صحيحة تربط الحروف مع بعضها .
وقد اعتبرت ما قام به ابن مقلة احد المسلمات الجمالية في الخط العربي .

لكن عودة الى ابسط الاشكال الفنية للخطوط العربية نجد ان تلك المفردات من الجمل التي تنتظم فوق سطر الكتابة الاكثر اهمية في حركتها من اليمين الى اليسار وفي علاقة الحروف والكلمات ببعضها والسطر هو اهم العناصر الذي يمنح الكتابة بناءا هندسيا منتظما كما يرى ذلك القسطالي في ارجوزته اذ يؤكد على ضرورة وضوحه كونه يعمل على ارشاد الكاتب في سير اتجاه القلم ويححده كما انه يستوعب الحروف في اتساق وانتظام كعقد الؤلؤ ، وشبه الحروف الحسنة بالجواهر والسطر بالسمط – الخيط - وهذا يوضح اهمية السطر كوتر لجميع الحروف لا يجوز المحيد عنه لانه الاصل .

وكما يعلم الخطاطون بان الحروف تتوزع على سطر الكتابة في ثلاثة مجاميع اساسية :

الاولى : تلك الحروف التي تقع على السطر وتمتد عموديا فوقه ( ا ، ط ، ك ، ل ، لا ) .
والثانية : الحروف التي تقع مع مستوى السطر وتمتد افقيا عليه ( ب ، ت ، ث ، د ، ذ ، ر ، ز ، س ، ص ، ف ، ق ، ن ، و ، هـ ، ي )
والثالثة : تلك الحروف التي تقع على سطر الكتابة وتمتد تحته ( ج ، ح ، خ ، ع ، غ ، م ) .

اي ان السطر هو العامل المشترك الاساسي الذي تلتقي عنده الحروف مهما اختلفت مواقعها ، وتتفاوت اعداد كل من فصائل هذه الحروف في اشكال الخطوط العربية ، واختلاف هذه المواقع واعدادها هي في الحقيقة تشكل جمال الخطوط وقيمتها الوظيفية . وحيث ان جميع الخطوط العربية التي تكتب فوق سطر الكتابة تكون محصورة بين خطين افقيين من اعلاها ومن اسفلها فضلا عن سطر الكتابة .

تم تحليل المسافة التي تقع فوق سطر الكتابة ومقارنتها بالمسافة التي تقع تحت سطر الكتابة ووجد بان العلاقة بينهما تنطبق على ذات النسبة التي انطبقت في العمارة وتبلغ 1،414 ، وبمعنى اخر اذا كان المربع الذي يقع فوق سطر الكتابة هو واحد فان المسافة التي تقع تحت سطر الكتابة هي 0،414 وبهذا يتشكل المستطيل الذهبي في الخط العربي ليكون ذات العلاقة الجمالية المستخدمة في فن العمارة وقد طبقت هذه النسبة على جميع الخطوط العربية ( الاقلام الستة ) ووجد بانها انطبقت على بعض الخطوط ولم تنطبق على خطوط اخرى ، اما الخطوط التي انطبقت عليها فكانت الثلث والنسخ والكوفي بانواعه ، ومن المعروف بان هذه الخطوط وما يتفرع منها في تاريخ الخط العربي ذات اصل عربي ، اما الخطوط التي لم تنطبق عليها النسبة فهي الفارسي والديواني والرقعة وما يتفرع عنها وهذه الخطوط ذات اصول غير عربية . مما يؤكد بان هناك وحدة في الذهنية العربية داخل الفكر الاسلامي ووجود بنية عربية جمالية ذات سمات خاصة داخل البنية الجمالية الاسلامية .

الترديد العمودي والافقي
ولم تكن نتيجة التحليل للتوصل الى وجود هذا المستطيل الذهبي فقط ، وانما الكشف على العديد من العلاقات الجمالية في الكتابة العربية بما اسميه الترديد العمودي المتمثل بالخطوط العمودية الحقيقية والوهمية المتوازية وبزاوية ميل محددة في كل خط من الخطوط العربية فكانت زاوية الترديد العمودي في :
الخط الكوفي = 90 درجة لتعامد حروفه على سطر الكتابة .
خط الثلث = 80 درجة .
خط النسخ = 85 درجة .
الخط الفارسي = 100 درجة .
الخط الديواني = 75 درجة
خط الرقعة = 85 درجة .
وذلك يعني ميل الترديد العمودي في جميع الخطوط العربية الى جهة اليسار للدلالة على اتجاه سير الكتابة من اليمين الى اليسار ما عدا الخط الفارسي الذي يميل ترديده العمودي الى جهة اليمين .
اما بالنسبة ( للترديد الافقي ) في الخطوط الافقية المتوازية وبزاوية ميل محددة في كل خط من الخطوط فكانت زاوية الترديد الافقي كما يلي :

الخط الكوفي = 90 درجة لاستقرار حروفه على سطر الكتابة بطريقة مستوية .
خط الثلث = 10 درجات .
خط النسخ = 15 درجة
الخط الفارسي = 40 درجة .
خط الديواني = 60 درجة .
خط الرقعة = 20 درجة .

وتكشف لنا مجموع زوايا الترديدات العمودية مع زوايا الترديدات الافقية بان هناك مبدأين اساسيين :

الاول – خطوط تكون الزاوية الحاصلة بين الترديد العمودي والافقي = 90 درجة .
الثاني – خطوط تكون الزاوية الحاصلة بين الترديد العمودي والافقي = زوايا منفرجة مختلفة وكما مبين ادناه .

الخط الكوفي : الترديد العمودي والافقي = 90 درجة
خط الثلث : الترديد العمودي 80 درجة + ترديد افقي 10 درجات = 90 درجة .
خط النسخ : الترديد العمودي 85 درجة + الترديد الافقي 5 درجات = 90 درجة .
الخط الفارسي : الترديد العمودي 100 درجة + الترديد الافقي 40 درجة = 110 درجة .
الخط الديواني : الترديد العمودي 75 درجة + الترديد الافقي 40 درجة = 115 درجة .
خط الرقعة : الترديد العمودي 85 درجة + الترديد الافقي 20 درجة = 105 درجة .

يتضح من الارقام اعلاه تاكيدا اخر على وحدة الذهنية العربية في اشتراك الخطوط ذات الاصل العربي في زاوية قيمتها 90 درجة اما الخطوط ذات الاصل غير العربي فكانت زواياها وحاصل الترددات العمودية والافقية زوايا هندسية منفرجة .

زاوية البداية
ان التقاء قلم الخط مع سطر الكتابة الافقي يشكل زاوية هندسية محددة وهي الزاوية التي يبتدأ بها رسم اي حرف من الحروف وهذه الزاوية التي نسميها زاوية البداية ثابتة بمقدار معين في كل خط من الخطوط وتنطبق على جميع حروفه وقد تم الكشف عن قيمة زاوية كل خط من الخطوط .
فحروف خط الثلث مثلا تبتدأ بزاوية قيمتها 70 درجة .
وحروف خط النسخ زاوية بدايتها هي 75 درجة .
والخط الكوفي زاوية بداية حروفه 45 درجة .
والخط الفارسي زاوية بداية حروفه 70 درجة .
والخط الديواني زاوية بداية حروفه 85 درجة .
وخط الرقعة زاوية بداية حروفه 70 درجة .
ويدل اختلاف هذه الزوايا بين انواع الخطوط على اختلاف سمك حروف كل خط من الخطوط ، وكلما اقتربت زاوية القلم من الـ ( 90 درجة ) كانت الحروف العمودية دقيقة ( رفيعة ) والخطوط الافقية عريضة ( سميكة ) . ولهذا فان حروف الخط الكوفي معتدلة جدا لان زاوية القلم 45 درجة فيكون عرض الخطوط العمودية مشابها لعرض الخطوط الافقية . بينما تختلف رشاقة وعرض الخطوط الاخرى بسبب تغير زاوية القلم بين خط واخر وهكذا فان قيمة زاوية القلم تحدد قيمة الجمال والوظيفة في كل خط من الخطوط العربية .

ولم تكن النسبة الذهبية الاسلامية ومتوالداتها تنطبق على الحروف الابجدية المنفردة وفقا لموقعها من سطر الكتابة وانما على التكوينات الفنية التي انجزها العديد من الخطاطين الاوائل ، وكانت هذه التكوينات تبرز المهارة الفائقة في ابداع تكوينات متنوعة فكانت احيانا تاخذ اشكالا متراكبة او هندسية كالدائرة والبيضوي والمربع او المثلث ، او رسوم لطيور او حيوانات ، ولكن اجمل تلك التراكيب والتكوينات هي تلك التي كانت تنطبق عليها النسبة الذهبية الاسلامية وذلك ما يحتاج الى مزيد من الدراسة والبحث والتحليل .
وقد كان هذا سببا في ان يكون الخط العربي زاخرا بالقيم الجمالية والفنية التي تعبر عن تجليات الفكر العربي في قيمه المجردة وفي ذلك يقول ( بيكاسو ) بصراحة وموضوعية ( ان اقصى نقطة اردت الوصول اليها في فن الرسم ، وجدت الخط الاسلامي قد سبقني اليها منذ امد بعيد ) .

ورافق الخط العربي الزخرفة الاسلامية باشكالها المتعددة النباتية والهندسية والحيوانية والكتابية والمختلطة والتي شكلت تناغما رائعا في الشكل واللون والايقاع والحركة و في نسيج اكمل الرؤية الجمالية الاسلامية ، والتي يقول عنها المؤرخ ( غوستاف لوبون ) في كتابه ( حضارة العرب ) ( ان للخط العربي شانا كبيرا في فن الزخرفة فهو ذو انسجام عجيب مع النقوش العربية ويتضح ذلك في كتابة السطر الاول من القرآن هو بسم الله الرحمن الرحيم ، وان كل بلد خفقت فوقه راية الرسول تحولت بسرعة وازدهرت فيه العلوم والفنون والاداب والصناعة والزراعة ايما ازدهار ) .

خصائص واساليب
ورغم ثبات قواعد الخط العربي واستقرار اشكاله الفني الا انه يمكن التمييز بين الحروف والعديد من الاساليب والاتجاهات في طريقة الكتابة واول هذه الاساليب نجده عندما تبتعد زاوية البداية عن الزاوية العمودية فتكون الحروف العمودية عريضو ويسميها الخطاطون ( حرفا مشبعة ) كما هو الامر لدى الخطاطين الاتراك سامي ونظيف وكامل وحامد وعندما تكون زاوية القلم اقرب الى الزاوية العمودية تكون الحروف دقيقة ورفيعة كما هو الامر لدى خطوط الخطاطين المصرين مثل سيد ابراهيم واخرين .
لقد كانت عملية تحليل هذه الترددات والزوايا تعتمد على كتابات افضل الخطاطين في تاريخ الخط ولمرات متعددة لتكتسب صفة الثبات والمنطق ومن المؤكد بعد ذلك ان عدم انطباقها على خطوط اخرى يعني ان تلك الخطوط هي خطوط ضعيفة لا ترقى الى مستوى الاتقان في الخط العربي .

والسؤال الاكثر اهمية الان هل كان الخطاط العربي المسلم يخطط ويهيء لهذه الزوايا والنسب الذهبية والترديدات العمودية والافقية مع اختلاف الزمان والمكان ومن قبله المعماري العربي المسلم ... هل كان يخطط في عمارته بنفس النسب . وهل كان المزخرف في الزخارف الهندسية والنباتية والكتابية والحيوانية والمختلطة يخطط ايضا لهذه النسب والابعاد ، فهل كانت هذه المنتجات الفنية الحضارية تنتج وفق منهج ( يونج ) الذي يعمل على الرأي الجماعي .

لا شك ان القيم الجوهرية الماورائية التي تقف وراء الفنون الاسلامية كان مصدرها منطق واحد .
وفي الخط العربي على الاقل لم يكن للخطاط المسلم من وسيلة للكتابة والاتقان سوى يده وعقله وقلمه ولم يكن يعتمد وسيلة قياس او اداة فكانت لغة العين سائدة كوسيلة تختزن الالاف الصور الجميلة المتقنة بحروف الخطاطين البارعين ، ولترتقي بهذه الصور الى اعلى مستويات التهذيب والتجلي في الفكر ثم تسعى يد الخطاط بالممارسة والتمرين الوصول الى طواعية اليد لاعادة تطبيق اجمل الصور الذهنية المحفوظة بالذاكرة عن اولئك الخطاطين الاوائل . هكذا توارث الخطاط روحية وجوهر القواعد دون ان يكون لكل زوايانا وترديداتنا ونسبنا اي حساب ا واعتبار .

ان عمل النسبة الذهبية في هذا النظام الدقيق بين الفنون الاسلامية كانت تشكل مجموعة انساق سيميائية وضمنية وهي اشكالية لا يمكن ان تكون في حالة تقاطع مع الانساق المعرفية وتداخل منظوماتها المصطلحية ، اي ان الاشكالية يطرحها حضور النسق وغيابه وانطباقها على منتجات متعددة مع اختلاف مكان وزمان انتاجها او يجعل الاشياء تنضوي ضمن انساق تحدد لها شكل وجودها كحالات التشابه والتقابل والتطابق .
وفي اطار وتسلسل منهجي دقيق يعاد اكتشاف القانون الداخلي لمفردات الفن الاسلامي والخط العربي بتلك الشبكة المتداخلة بين منظومة النظرة والفكرة واللغة لتجعل الفن الاسلامي نظام خطابي يؤسس مكوناته المفهومية والمنهجية في الذاكرة الفنية والخطابية الجمالية .

لا شك ان خلف كل تقنية او اسلوب ميتافيزيقيا يجب حصر معالمها لفهم تلك الرؤيا الماورائية للعمل الفني ، من خلال الارضية الثقافية والتاريخية لاشكال الخطوط العربية والفنون الاسلامية عموما .
وهنا يكشف الفن الاسلامي بناء ثوابته الشكلية الموزعة على محور الزمان والمكان ويؤسس لسلم احالات داخلية تنظم تاريخه وبنية خطابه المتماسك في صيرورة تعيد النسق الفكري الى تلك النقطة الجوهرية التي ابتدء منها الفن الاسلامي. 


أ.د إياد حسين عبدالله - عميد الكلية العلمية للتصميم - مسقط

مشاهدة الموقع بالنسخة العادية