لو وجه المسئولون عن مهرجان بابل الدعوة إلى حسينيات الهند وباكستان وإيران وأفغانستان وغيرها من البلدان لكي ترسل فرقها للطم وللنواعي والزنجيل وللقامة ولكي تشارك الملالي والملايات الرواديد والرادودات بما يتناسب وثقافة البكاء والعزاء الملائية، لرأينا سيلا من برقيات التهنئة ولتبريك تغرق الجرائد والفضائيات ترحب بهذا المهرجان الذي يتناسب وسياسة التخلف المنظم التي تقودها أحزاب الإسلام السياسي باقتدار فضيع. ولرأينا مجلس محافظة بابل يملأ الطرقات إلى مكان المهرجان بقدور محروقة مثل جباه المؤمنين تطهى فيها القيمة والهريسة وقدور أخرى يسيل منها الشربت والشاي غير المعقم المخلوط بغبار أقدام الزائرين ولرأينا الرايات السوداء والحمراء والخضراء والصفراء تملأ الشوارع بتنسيق غير منظم ينسجم ويتلاءم كليا مع دولة اللا تنظيم الإسلامية الديمقراطية فيخامرنا شعورا بأننا نشاهد مشهدا لفلم هندي في بولي وود وليس مهرجانا في مدينة بابل. ولرأينا جماهير المحتفلين يأتون مشيا على الأقدام من كل فج عميق أو تقلهم سيارات حكومية مخصصة من لدن رئيس الوزراء شخصيا وسينشغل جنود الجيش والشرطة عن واجباتهم ويقصرون عملهم على حراسة الطرقات لتامين الوصول ليذرف المشاركون دموعهم حتى تنشف ويضربوا صدورهم حتى تدمى ويعودوا مثلما ما جاءوا يطبق عليهم الغبار من فوقهم ومن تحتهم ومن شمالهم ومن يمينهم فارغي الجيوب والأدمغة.
كل المسألة إن الجهة المسئولة عن عقد المهرجان أخطأت التقدير فظنت إن الشعارات التي ترفعها أحزاب الإسلام السياسي اثناء مواسم الانتخابات هي شعارات صادقة تعكس توجهها صوب التمدن والتحضر وليس شعارات للاستهلاك الانتخابي، لذلك وجهت الدعوات للفرق الفنية والمسرحية والموسيقية وغيرها من فرق الفنون الإبداعية لتقديم عروضها في بلد مهد الحضارات. لكن مجلس محافظة بابل قرر منع الموسيقى والغناء لأنها حرام واتهم القائمين على المهرجان بالزندقة لان يوم افتتاح المهرجان يوافق يوم وفاة الإمام الصادق، وقام المتطرفون الشيعة بتعليق اللافتات والبوسترات التي تطالب بمقاطعة المهرجان بينما تكفل خطباء الجمعة بشن حملات عشواء على من أقام وشارك أو ذهب إلى المهرجان وكان مهرجان بابل أصبح قسيم الجنة والنار فمن شارك فيه فهو في النار ومن قاطعه فهو في الجنة، ولعلهم وعدوا المقاطعين بـ 72 من حور العين ووجبة عشاء كباب مع النبي. كان الأجدر بمجلس محافظة بابل إن يعرب عن وجهته الحقيقة وينادي بإقامة مهرجان بابل للطميات بدل كل هذه الأساليب الملتوية عن الذي يناسب أو الذي لا يناسب تقاليد مدينة بابل وكأن مدينة بابل مكة أو يثرب.
لقد أصبح العراق رغم تعدده الثقافي ولأثني واللغوي والديني ذو اتجاه واحد، يُعرف ويُعَرًف به، هو عراق البكاء الإحزان، فلقد أصبح منحباً ومحراباً للبكاء والعزاء واقتصرت الثقافة فيه على المراثي و البكائيات ، حتى البكاء فقد معناه ولم تعد الناس تعرف من كثرة مناسباته لماذا تبكي، لقد فقدت بوصلتها وأضاعت اتجاهها ووجدت نفسها غارقة في هذا الفيضان الغريب من البكائيات والنحيب فاختلطت عليها المناسبات والأحداث. وتمكن الإسلام السياسي بواسطة سيطرته على مجالس المحافظات بفرض ثقافة الإحزان التي أصبح الإيمان والعمل بها شرطا لحسن السلوك والمواطنة الحقة.
فهل لنا بعد نكسة مهرجان بابل إن نتساءل وان نستغرب مهاجرة الفنانين والمبدعين والمغنيين والممثلين والرسامين والمسرحين والمبدعين العراقيين واستقرارهم في البلدان المجاورة أو في بلاد المنافي الباردة؟
هل نعيب عليهم ذلك وهم يرون إن العراق لم يعد بلدا يزدهر فيه الفن والإبداع بقدر ما تزدهر به ثقافة التيارات الأصولية المتطرفة السنية والشيعية.
هل نستغرب إذا ما استمرت سيطرة تيارات أحزاب الإسلام السياسي على مجالس المحافظات إن تتصحر الثقافة وتجف روافد مياهها ونغدو بلدا مستوردا لكل شيء حتى للثقافة الوطنية.