مقالات

سليم البصون

في ذكرى مصطفـى جـواد

02/12/2010 19:04:16
قد لا تكون هذه الذكريات ، اليوم ، متأخرة .. ذلك ان ذكرى العظماء الخالدين قائمة أبدا .. لا يوءبه بأيامها تقدمت شيئا أو تأخرت بعضا .. كما إنها لن تنسى بكر الأيام ومر الأعوام .

كان ذلك قبل ربع قرن . وكنت في بداية حياتي الأدبية الصحفية ، حين كان أسم الدكتور مصفى جواد يلمع .. أكثر من كونه أستاذا في دار المعلمين العالية ، وأبعد من كونه احد رجال اللغة والأدب .. كانت له مقالات وبحث وتعليقات ، وكانت له أراء واجتهادات وتفسيرات .. ثم كانت له مناظرات ومساجلات .. وكان له ما كنا نعتبره ـ في حينه ـ جريئا في اللفظ ، وجديرا في الاكتشاف ، وغريبا في الاستنتاج ، فقد بدا يخطئ الكثير مما كان يعتبر صوابا ويقوم العديد مما كان يعد صحيحا . وبدأ يتصدى لهذا وذاك من الكتاب والأدباء ، ويجروء ان يقول لهذا الأديب الكبير ، قل هذا ولا تقل ذاك ، وقل هذه الكلمة ولا تقل تلك .
كنت محررا في احدى الصحف اليومية المشهورة في ذلك الوقت . لم تمضي بعد ثلاث سنوات على عملي الصحفي ، غير ان نشاطات أدبية في شتى الضروب كانت لي في هذه الصحيفة أو في تلك . وكنت أتتبع وأتابع من خلال ذلك "جرأة" هذا الرجل القصير الهادئ حامل المسبحة الطويلة الذي يعمل أستاذا في دار المعلمين العالية وقد بدأت شهرته تنفذ وتتسع بأكثر مما تحدده درجته العلمية .
كنت أشاهده قبل ذلك في نفس المحلة التي نسكنها بين القشل وصبابيغ الإل . كان يروح ويعود هادئا في مشيته ، خفيفا على الاركى ، يحي هذا الذي يمر به واقفا يتحدث وذاك الذي يلمحه قاعدا في دكانه . وحين نشر ان الدكتور مصطفى جواد سيلقي محاضرة في قاعة مكتبة المعارف ـ كما كانت تسمى آنذاك ومكانها في الباب المعظم ـ طلب الي صاحب الجريدة التي اعمل بها ان احضر لاستماعها والانفراد في الحصول على نصها لنشره . وقد سارعت إلى المكان ـ إذ كنت في نفسي معتزما ذلك ـ وكان عدد الحاضرين قليلا ، إلا طائفة من المهتمين بمثل أبحاث مصطفى جواد في ذلك الحين . فكانت محاضرة شجاعة جريئة . وكانت على المنضدة بجانب المحاضر مجموعة من الكتب ، كان يأخذ منها كتابا بعد آخر ويقرأ الكلمات التي يخطئها والعبارات التي يصونها .. ولم تكن هذه الكلمات أو العبارات لهذا الكاتب الناشئ أو لذاك الأديب الجديد ، وإنما كانت لعمالقة في الكتابة ، وفي الأدب .. لتوفيق الحكيم ، للمازني ، وحتى للعقاد .. ولم يسلم من مصطفى جواد ـ على ما اذكر ـ غير الدكتور طه حسين .
وانتهت المحاضرة وبعضنا بين مصدق لما سمعه ومكذب ، ويتساءل : أصحيح ان المازني يخطئ ، وان الحكيم يغلط ، وان العقاد هذا الذي كان ملء السمع والبصر يجروء مصطفى جواد على التصدي له وتخطئته . وقال بعضهم : ويل لمصطفى جواد من العقاد !..
وأخذت منه المحاضرة . كانت مكتوبة على ورق الدفاتر المدرسية بخط الدكتور الرقعة الخشن وبالحبر الأسود . ورجا ان يشرف على تصحيحها المطبعي بنفسه . ونشرت المحاضرة بأعداد متتالية ، فقد كانت طويلة واستحوذت على مساحات واسعة ..
وبعد أيام أطلع المرحوم عباس محمود العقاد على المحاضرة ، ولا ادري من بعث بها إليه ، فطلع بمقالة فيه الكثير من التجني والشتم بحق الدكتور مصطفى جواد . ولكن مصطفى جواد لم يسكت وهو الأبي في نفسه الغزير بعلمه ، فلجأ إلى بطون الكتب ، والى الصفحات ، والى الأرقام ، يثبت قولته ويؤيد حجته ..
وقبل عشر سنين .. وكنت اعمل في صحيفة أخرى اختلفت مع صاحبها في لفظة، ان تقال على هذا الشكل أم على ذاك . وقام بيننا رهان . وكان علينا شهود . واتصلنا بالدكتور مصطفى جواد هاتفيا نحتكم إليه . ولم يكن في بيته ، فقد كان مدعوا إلى مأدبة ، فأبلغنا من في بيته رغبتنا في سوءاله .. ثم اقترحت على صاحبي ان نتصل بالأديب الناقد المحقق الأستاذ فوأد عباس نسأله . وكان عند حسن رأيي به . فقد أجابنا إلى بغيتنا شارحا ورد على ثقتنا شاكرا ، وابد موقفي مشكورا ، فربحت الرهان مسرورا .
وبعد ساعتين ، وكاد الليل ان ينتصف أتصل بنا الدكتور مصطفى جواد ، معتذرا ان لم يكن حاضرا ، وشرحنا له الأمر فأجاب وأسهب وأكد على ما ذهب إليه الأستاذ فؤاد عباس من تأييد رأيي .
لقد كان المرحوم مصطفى جواد ينزل العلم من نفسه منزلة حياته ..لا يضيره أن يسأل في ليل أو في ننهار ، ولا يقعده عن ذلك مرض أو تعب .
حدثني عميد الشعر العربي الأستاذ الجواهري ان مصطفى جواد كانت ليه الأهتمامات اللغوية والتاريخية منذ بداية حياته التعليمية وابلغني انه ـ الجواهري انه حين زاول التعليم تنقل بين عدة مدارس كان منها المدرسة المأمونية ، وكانت مدرسة نموذجية . وقد تولى فيها تدريس اللغة العربية . وحين نقل منها ـ ويرجع ان يكون ذلك عام 1932 إلى كاتب تحرير في وزارة المعارف ، نقل من هذه الوظيفة مصطفى جواد ليكون بديل الجواهري في المدرسة المأمونية .
حضرت قبل سنين ، جلسة التأمت مصادفة ، كان بين حضورها الدكتور مصطفى جواد والأستاذ الجواهري ، والمعروف أن مصطفى جواد بقدر براعته في اللغة والتاريخ بارع النكتة ، وهو يرويها أدبية أو رمزية أو مكشوفة ، وقديمة أو حديثة . والجوهري هو الأخر يحب النكتة ويرويها أيضا ، وقد تكون مكشوفة حتى رمزيتها أو توريتها . وعلى هذا فقد كانت الطرف والنكات التي دارت في هذه الجلسة ، وضع إعجاب الحاضرين بهذا العلامة الذي ألم بكل شيء .. حتى في الفكاهة والنكتة .
رحم لله الدكتور مصطفى جواد ، فقد أفاد لغة الضاد وأمة الضاد .


نشرت في بغداد ولم اعرف بأي صحيفة ولا بأي تاريخ ،اعتذر من القراء.
بقلم المرحوم سليم البصون

مشاهدة الموقع بالنسخة العادية