قبل فوات الأوانإطلقوا سراح طارق عزيز .. دعوه يموت عند عائلته مثلما فعلتم خيرا مع ابن قضيته في الحزب والدولة البعثي الشيعي سعدون حمادي.
"ان الهدف الأكبر لعملنا هو توفير فرص متساوية للجميع، وأن نعيد شعبنا من القمع والتمرد الى سلام التعايش، من القبيلة والطائفة الى المجتمع المدني ولن نرقى الى قلب ثأري لموائد القمع" غاندي أفريقيا: نيلسون مانديلادعونا أولا أن لا نقع في وهم مسيحية طارق عزيز، فالرجل، بعد خمس وسبعين سنة من عمره لم يكن مسيحيا لحظة واحدة، بل كان وبتلذذ عجيب يتبجح مزهوا بحزب البعث الذي جاء به الى السلطة والجاه وان ولاءه هو للحزب فقط. وقد أكدقداسة البابا الراحل، يوحنا بولص الثاني ذلك بقوله لطارق عزيز: أنت لا تمثل المسيحيين العراقيين بل تمثل حزبك في الدولة. والدليل على ذلك، انه لم ينبس بكلمة احتجاج واحدة عندما قام النظام السابق باعدام نخبة أكاديمية خيرة من أبناء شعبنا الكلدوآشوري بينهم ستة مهندسين بتهمة انتمائهم الى حزب محذور.
والد طارق عزيز، سرياني كاثوليكي من قرقوش وهي مركز قضاء الحمدانية في محافظة نينوى. كانت والدته امرأة تقية ورعة عملت في المشتشفيات لإعالة هذه العائلة الفقيرة التي نزحت من الموصل الى بغداد مبكرا حيث كان طارق صبيا صغيرا.
أعطت البطريركية التي كان مقرها الموصل آنذاك رسالة الى كنيسة بغداد للعناية بالعائلة وقبول الأطفال في الدراسة المجانية في مدارس الراهبات، وقد درس طارق وشقيقه وشقيقته في هذه المدارس مجانا.شقيق طارق الوحيد هو فوزي عزيز والذي كان يسميه الولد العاق، وقد عينه طارق مستخدما وعارضا للأزياء في أوروزدي باك عام 1963، ثم أصبح أشبه بسمسار لبعض أعضاء القيادة القطرية وبالأخص كريم شنتاف. ذات يوم أفرط فوزي في شرب الخمرة والعربدة، فاحترق ومات في غرفته دون أن يكترث طارق للحادثة.
واصل طارق عزيز دراسته بجد ونشاط حتى تخرج من دار المعلمين العالية/قسم اللغة الانكليزية في سنة 1958، وقد انتمى مبكرا الى حزب البعث لأنه كان ينسجم مع طبيعته ومسلكه المحافظ. تزوج من السيدة المتعلمة "فيوليت" التي كانت موظفة في مصرف الرافدين، وهي امرأة مكافحة لم تستغل مكانتها كزوجة لطارق عزيز.
أما شقيقته الوحيدة فقد تزوجت رجل تلكيفي هو فهمي روفا الذي كان مديرا عاما للسمنت وغيرها من المناصب، وهو أيضا بعثي قديم (عضو قيادة شعبة)، الذي صادف وجوده عام 1963 في الناصرية (الانقلاب الدموي) وتسلم قيادة الحرس القومي هناك، وكان قاسيا على الشيوعيين في الناصرية والديوانية والفرات الأوسط، لسعته حشرة برية سامة وهو في التدريب العسكري الالزامي كاد على أثرها أن يفقد بصره، ثم قتل (يقال بتدبير من عدي) في حادث اصطدام مدرعة بسيارته أمام القصر الجمهوري.
غالبا ما يلتبس أسم فهمي روفا مع أسم منير روفا الطيار الذي هرب بطائرة الميك الروسية عام 1964 الى اسرائيل، ويقول البعث العراقي انها تمت بتدبير سري من رئيس الجمهورية عبد السلام محمد عارف. عاش منير بقية حياته في أمريكا تحت أسم مستعار، وكان يدير كازينو مقامرة في نيويورك، فيما تخرج ابنه من كلية الشرطة الأمريكية بتفوق، ولعله لا يعرف تفاصيل حياة والده الذي أغرته فتاة أوربية جميلة في بغداد تعمل لصالح اسرائيل وجعلته يهرب بطائرته الى اسرائيل بعد أن قتلت طيارا عراقيا في شقتها، رفض الذهاب بطائرته الى اسرائيل، وقد مات منير في أمريكا مؤخرا.طارق عزيز بعد التعديلات ..!بعد الانقلاب الدموي عام 1963 أصر بعض رفاق عزيز على ضرورة أن يختتن ليتقرب أكثر من العروبة والاسلام اسوة بمؤسس الحزب ميشيل عفلق الذي دخل الاسلام من بابه الواسع. وبالفعل أقنعوا طارق عزيز وكان عمره دون الثلاثين ويعمل في جريدة الجمهورية والمكتب الثقافي مع سعدون حمادي، فأخذوه مرتديا دشداشة بيضاء فضفاضة دون ملابس داخلية الى المستشفى الجمهوري، وبعد اجراء عملية الختان أخذوه الى داره مع الزفة والطبل والموسيقى واطلاق الرصاص، وبدا طارق وكأنه نسخة جديدة بعد التعديلات وكان كالطاووس المنفوخ، ولله في خلقه شؤون.
طارق عزيز يقمع اليسار في حزب البعثعند بزوغ نجم المثقف البعثي النبيل عبد الخالق السامرائي الذي أعدم مع جماعة عدنان الحمداني ومحمد عايش، كان للرجل مشاريع فكرية حالمة تنتهي بدمج الحزب الشيوعي بحزب البعث تحت شعار الماركسية العربية الخ..، وفي هذه الفترة دخل حزب البعث لمساندة شفيق الكمالي وعبد الخالق السامرائي عملاق الرافدين عزيز السيد جاسم (موسوي)، وحاول أن ينعش في البعث الفكر التقدمي، لكن طارق عزيز مع التيار البعثي العفلقي، أقصى اندفاع عزيز السيد جاسم وأبعده من المكتب الثقافي للبعث كما أبعد عددا كبيرا من الصحفيين التقدميين من الصحافة والاعلام ومؤسسات الدولة آنذاك، وقد قال لي صديقي عزيز السيد جاسم في جلسة على أبي نؤاس، انه اختار معركة صعبة قد تطيح به، ثم قال لنا عزيز السيد جاسم فيما بعد انه يقصد كراهية طارق عزيز له ولليسار في البعث.
فيما بعد، غيب النظام عزيز السيد جاسم في المعتقلات ومات شهيدا للكلمة الحرة الأبية بعد صدور كتابه المطبوع في لبنان عن الامام علي بن أبي طالب، الذي احتجزته وجمعته من الأسواق أجهزة النظام، وقد أعيد طبعه الآن من جديد.طارق عزيز، أبرز مثقف بعثي تقليدي، سر الرجل الغامض، موجه طارق دبلوماسيا..؟ منذ تأسيسه في الناصرية وبغداد على يد المهندس الراحل فؤاد الركابي، أصغر الوزراء عمرا في أول حكومة جمهورية عراقية، (قتله صدام في سجن بعقوبة)، ظل حزب البعث العراقي فقيرا في مثقفيه، بالمقارنة الى (الأشقيائية والبلطجية) في صفوفه، ويمكن تأشير شحة المثقفين من الرعيل الأول للحزب وفي مقدمتهم د. سعدون حمادي والشاعر شفيق الكمالي (غيب وابنه يعرب) والمحامي فيصل حبيب الخيزران والدبلوماسي والكاتب طارق عزيز، وهناك الشاعر حميد سعيد وسامي مهدي وعادل عبد الجبار (شقيق المثقف المبدع فالح عبد الجبار) وصلاح المختار وغيرهم.
خلا الجو الثقافي لطارق عزيز تماما بعد تقليص نفوذ سعدون حمادي.سر الرجل الغامض ومعلم عزيز الدبلوماسي ..؟بعد إبعاد سعدون حمادي بسبب محاكمة أولاده بتهمة الاختلاس والتجارة المغشوشة، صار طارق عزيز عميد الدبلوماسية العراقية بدون منازع، وهنا لا بد لي أن أكشف ما هو مستور عن طارق عزيز، وعلى قول المثل الشعبي المصري (كل شيء في أوانه)، هو ان الذي كان يدير ويوجه طارق عزيز دبلوماسيا وسياسيا هو دبلوماسي عراقي – أمريكي مخضرم، هو الذي يوعز الى طارق بايصال مشورته الى صدام مباشرة، ويبدو لي الآن ان هذا الشخص ظهر بشكل ما على انه عميل مزدوج (أمريكي – عراقي)، فهو الذي نصح القيادة السياسية وصدام بالدخول الى الكويت جزئيا في بادىء الأمر، والاكتفاء باحتلال المناطق النفطية المتنازع عليها مع الكويت، وهي ثمن معقول ومكافأة لصدام لقاء حربه مع ايران خميني، وقال لطارق أيضا: أما اذا عزمتم على غزو الكويت ولكي تتفادون ضربة أمريكية محتملة، عليكم أن تدخلوا لأحتلال السعودية بالكامل وقلب نظامها بالكامل وتبديل أسم السعودية الى جمهورية الجزيرة العربية، ثم تقومون بلغم آبار النفط في الكويت والسعودية والعراق أيضا، فتضعون أمريكا أمام أمر واقع جديد وخيارات مرة وتتجنبون الضربة بعد أن تطمئنوا أمريكا على ان نفط المنطقة يباع الى أمريكا بسعر بخس جدا! وقد نبه طارق صدام بهذه المعلومات التي لم يأبه بها صدام المتبختر بقوته وجبروته وكأنه نسي حقيقة، وهي انه عبارة عن زرزور واختراع أمريكي بامتياز ابان الحرب الباردة.
لماذا نطالب باطلاق سراح طارق عزيز؟استعرضنا السيرة الذاتية والسياسية لطارق عزيز وأهم المحطات في حياته، وعلينا أن نضيف الى ان الرجل لم يستغل مركزه الهام في الدولة لمآرب شخصية، وهو لم يسعى لاكتناز المال الحرام مثل رفاقه في البعث، ويبدو لي الآن انه كان مقتنع بأنه كان يقدم خدمة للعراق من خلال الدبلوماسية، وأهم من كل ذلك، ان يديه لم تكن ملطخة بالدماء أبدا، كما ان زوجته أم زياد كانت مثالا للعمل والاخلاص كموظفة بسيطة في مصرف الرافدين ببغداد طيلة فترة النظام السابق، وكانت حالتهم الاجتماعية بسيطة على حالها الى حين سقوط النظام السابق. يتضح لنا الآن تهافت وسخافة الاتهامات الموجهة والملطوشة به بعد سبع سنوات سجنه وهو منها براء.
فحكومة صدام بأجهزتها القمعية الرهيبة لم تكن بحاجة قطعا لاستخدام رجل عجوز ومريض مثل طارق لمطاردة عناصر حزب الدعوة وقتلهم، كما ان تهمة اعدام تجار الشورجة دبرها عدي لمآرب مالية، وأخيرا لا بد أن نشير الى انكم أطلقتم سراح الدكتور الشيعي سعدون حمادي بعد أسابيع من اعتقاله وأرجعتموه الى بيته معززا مكرما، وحسنا فعلتم، ولكن لماذا هذه القسوة غير المبررة تجاه طارق عزيز؟ نعم، قد يكون بعثي، وإن شئتم بعثي سيء فكريا، ولكنه ليس ببعثي قاتل ولم تكن يديه ملطخة بالدماء.ان إعدام طارق عزيز سيضع القانون والعدالة العراقية في مهب الريح!
صباح صادق/ كاليفورنيا