عندما كتبت قبل أيام عن "معارك الرگي" في ناحية العظيم وما أثارته عندي من ذكريات قديمة، استدرجتني الذاكرة للبحث في عالم "الرگي" ودنياه. قصص وحكايات وأحاديث وطرائف كثيرة ما كان المجال يتسع لذكرها في العمود السابق، فاستهوتني فكرة ان أمر على بعضها اليوم.
يعرف اغلب العراقيين الذين عاشوا في الدول العربية ان العرب يسمون "الرگي" بطيخا، فصرنا حين نشتريه منهم نسميه "البطيخ الأحمر". وبالمناسبة ان اسم "الركي" هو من اختراع البغداديين بحسب الباحث عبود الشالجي. فقد ذكر في موسوعته "الكنايات العامية البغدادية" انهم يسمونه الرقّي نسبة الى الرقّة، وهي كل لسان في شاطئ النهر، يغمره الماء ثم ينحسر عنه. وتكون الرقّة هذه من أحسن الأماكن لإنتاج البطيخ، فوصفوه بالبطيخ الرقّي، مثلما يقولون: التين الوزيري والعنب الرازقي ثم حذف الاسم للتخفيف وبقيت الصفة فسمي: الرقّي. ويسهب الشالجي في سرد حكايات وأحداث ممتعة حول "الرگي" وطريقة بيعه وكيف انه كان في ايام مواسمه يباع بالعراق بأكوام وليس بالميزان وبأسعار زهيدة جدا. ومن بين اغرب ما استوقفني في أحاديثه انه في العام 1931 كان حاصل "الرگي" ببغداد، وما جاورها من المزارع، من الكثرة بحيث ان حمولة اللوري الواحد منه كانت تباع بكاملها بثلاثة أرباع الدينار! ولكم أترك أمر المقارنة بين خير الأمس وبؤس اليوم.
ومن بين ما اذكره انا هو ان وجبات "الرگي" كانت محضر خير في جلسات العراقيين المنفيين قبل السقوط. كان الأخوة الإسلاميون، قبل ان يصعدوا لكرسي السلطة طبعا، يدعوننا نحن "العلمانيين" الى جلساتهم للتداول في أمور السياسة والأدب ومجمل القضايا الاجتماعية وحتى الدينية ايضا. لم يكفّرنا فيهم احد ولم نشعر نحن ايضا بأي حواجز تفصلنا عنهم. كانت جلسات "السمر" تلك يندر ان تخلو من الصواني العامرة بأفضل انواع "الرگي". وللأمانة ان الإسلاميين العراقيين يجيدون اصطياد "الرگية" الحمراء والحلوة. بينما تجد اغلبنا حظه في اختيار "الرگي" لا يرقى الى مستوى حظوظهم ابدا.
اذكر انه في واحدة من تلك الجلسات، عادة يلفظها إخواننا بفتح الجيم واللام والسين، ان شيخا معمما طيبا حثنا على الإكثار من أكل "الرگي" وكان يقدمه لنا بيده. ولكي يشجعنا على تناوله قال: أكثروا من أكله فانه " فياجرا المؤمنين". ولأننا قد لانحسب على المؤمنين، كما تعلمون، انبرى احد الملتحين، وهو ايضا طيب مثل الشيخ، ليتدارك الامر فصحح القول الى انه: "فياجرا الفقراء" وليس المؤمنين فقط. رد عليه الشيخ برصانة ونبرة واثقة: "كلنا فقراء لله".
وحين شعر الشيخ الجليل ان بعضنا، وان لم يفصح بالقول، تمنى عليه ان يأتينا بالدليل، استشهد بحديث للنبي الكريم يقول: "عليكم بالبطيخ فإن فيه عشر خصال: هو طعام، وشراب، وأشنان، وريحان، ويغسل المثانة، ويغسل البطن، ويكثر ماء الظهر، ويزيد في الجماع، ويقطع البرودة، وينقي البشرة".
سألته: وهل من اجل هذا تكثرون من أكل "الرگي" يا شيخ؟ رد علي بأدب جم: "ليس هذا، حسب، انما اكل "الرگي" عبادة وفيه اجر عظيم. كيف؟ أجابني ان الرسول صلى اله عليه وآله قال ايضا: "عض البطيخة ولا تقطعها قطعا، فإنها فاكهة مباركة طيبة، مطهرة الفم، مقدسة القلب، تبيض الأسنان، وترضي الرحمن، ريحها من العنبر، وماؤها من الكوثر، ولحمها من الفردوس، ولذتها من الجنة، وأكلها من العبادة".
ناشدته: ناولني اذن تلك "الرگية" يا شيخ لأعضها عضا عظيما وجزاك الله، عني وعن اصحابي، الف خير.