ثقافة وأدب

صالح الرزوق

الشاعر أديب كمال الدين بعيون أصدقائه

13/05/2014 19:48
في كتابه (إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين)، الصادر في مطلع عام 2014 عن دار ضفاف، يقدم لنا صباح الأنباري صورة قريبة للشاعر أديب كمال الدين. وأقول قريبة لأنه من جيله أولا. ولأنه يتقاطع معه في بعض التفاصيل ثانيا. و منها الجغرافيا و الخلفيات الثقافية.
وكانت مقدمة سعد محمد رحيم للكتاب بمثابة إغلاق لهذه الدائرة. ففي التوطئة التي جاءت بعنوان (الكتابة بمحبة) وضع يده على المفاصل الأساسية في تجربة الشاعر و الناقد و بلغة كخيوط الشمس.. مشعة و دافئة.
و لكن هنا لا بد من الإشارة لنقطتي نظام.
يعتقد رحيم في مقدمته أن لأديب كمال الدين دورا مشابها لدور السياب في الشعر (ص9). هذا بالمعنى العريض و الواسع للعبارة. و لكن أرى أن حياة السياب مرت بمحطات كثيرة و منعطفات. في السياسة انتقل من الشيء لنقيضه. و في الشعر ابتعد عن مفهوم الدائرة المغلقة التي تعبر عن وحدة الجوهر و تآلف المتناهي مع اللامتناهي. و بدأ بالشعر العمودي ثم انتقل لقصيدة حرة لا تتكرر فيها التفعيلة بانضباط و ربما لذلك أجد أنه أقرب لمفهوم اللامنتمي و ليس الحداثة.
نقطة النظام الثانية و أسميها شائعة التصوف عند كمال الدين (ص14). لقد انتشرت هذه الفكرة كالشرارة في الهشيم بالإستناد لتراكيب و مفردات لعب بها المتصوفة للتعبير عن محنتهم مع الخالق و السلطان الجائر و علاقة النفس بالمجتمع. بينما قصائد أديب كمال الدين تربط اللاشعور الفردي بأسبابه. و تقترب من الخط الذي يفصل بين الإيمان و السخط. و كما نعلم لا يوجد عتاب و لا ممانعة في جوهر المخيلة الصوفية. إنها تجربة تقوم على الخنوع و التفاني. بينما كانت قصائد كمال الدين تتدرج من الملاحظة و حتى الهجاء و بمنطق فوق واقعي. و لكن مع تصورات عن تجارب شخصية. و قد لاحظ الأنباري هذه الظاهرة حين قال في المقدمة: " إن سيرة هذا الشاعر هي حرف أول في أبجدية حياته" ( ص 32).
***
أما بداية كتاب الأنباري فهو اتفاق يعقده مع القارئ ومفاده: أن السيرة الشخصية غالبا تحدد توجهات الكاتب، على الأقل من ناحية الموضوع.
وعليه يرى أن أديب كمال الدين مدين في كل كتاباته لحياته القلقة و غير الآمنة و الحزينة، و بالأخص خلال الطور الثاني منها في المنفى حيث يحاصر الإنسان نوعان من المشاعر " الغربة و الحنين".
لقد تركت هذه الحالة أثرا لا تخطئه العين في القصائد، و التي تنتقل دائما من الفجيعة إلى الخسارة. و من العذاب إلى الألم المبرح. و بين المبتدأ و المنتهى تتفاقم عدة إشكالات و منها السؤال عن الماهية، و تجسيم شبح الموت، و أعباء الغربة ، بعد المرور بأعباء الحرب و الحصار (ص 28 ).
و لذلك اعتمدت القصائد على أسلوبين في التعبير: التكرار لأن عالم الشاعر دائرة تحيط به (ص 34 )، و شخصنة العواطف (ص 49 ) بمعنى رسم بورتريه لشخص لديه عقدة تماثل عقدة الشاعر.
**
و يوجد هناك ميثاق آخر يعقده الأنباري مع غيره من النقاد. فهو يتفق معهم على أهمية الحرف في مسيرة الشاعر كمال الدين ( ص38). و يلاحظ بيقظة شديدة تواتر هذه الكلمة في عناوين القصائد و متونها و في عناوين المجموعات أيضا. و لكنه لا يشير لعلاقة ذلك مع سيرة الشاعر. فهو جوهريا شاعر مؤمن. و لا أشك لحظة واحدة أنه يحفظ عن ظهر قلب أول كلمة نطق بها الوحي و هي (اقرأ) للدلالة على أهمية الفرق بين الماضي الوثني و الحاضر الإيماني. فالقراءة (و بإبدال رمزي تعني المعرفة و الحرف) هي الحد الفاصل بين الشرك و التوحيد. و هي بنفس الوقت نفي و ورقة ضد. زد على ذلك أنها من خطوط العزل التي تفصل ما بين الوجود و العدم. فبالحرف يدخل الإنسان ميادين الثقافة و اللغة. و هذه ظاهرة هامة حتى في التحليل النفسي. فاللغة عند فرويد (و بعده لاكان ) اختراع أوديبي به يكتشف الطفل قانون الأب و يكتشف ضرورة احترام المعايير. ثم ضرورة الماهية الخاصة و معنى الحرية المشروطة.
***
أما أهم ما تطرق له الكتاب هو المتشابه و المختلف في أشكال و معاني الموت عند أديب كمال الدين. و قد صنفها ببراعة يحسد عليها في ثلاثة أشكال: ما قبل الموت و عند حده الفاصل و ما بعده. و كان المعيار هو الفترة التي تفصل بين الحالتين: الوجود و العدم ( ص 121). و لكن لم أفهم كيف يكون الشاعر من المتصوفة و يخاف من الموت و يفكر به على الدوام. إن أهم رموز التصوف في التاريخ الإسلامي قد عاشوا حياتهم خارج نطاق الزمان و المكان و لم يعترفو لا بالوقت و لا الجغرافيا و تعاملوا مع أزمنة فلكية و نفسية و مع جغرافيا لا وجود لها إلا في تصوراتهم، و انطلاقا من هذه الفكرة أرى أننا تجاه عدة إشكالات.
الأولى معنى الغيابة في الجب و شرح صباح الانباري لها بالإستناد لمعناها الثابت الذي توارثناه كابرا عن كابر. و بالعلاقة مع حكاية سيدنا يوسف عليه السلام (ص 46) . إن الإلقاء في الجب حدث عابر له معنى دلالة.. كالغيرة و الحسد و طبيعة البشر التي تحل المشكلة بالعنف و الغدر. غير أن الغيابة فيه تبدو لي أكثر تجريدا. إنها جوهريا لا ترادف الموت. وفي علم النفس ما بعد البنيوي (و لنحتكم لجيل دولوز) يكون للسقوط في الفراغ و نحو الأسفل من شاهق معنى الولادة اللامتناهية. و إن رهاب أو حصر الأماكن المرتفعة يعبر عن الرهبة من الولوج في المرحلة المتحولة المجهولة. أو الإرتحال من معلوم و منظور إلى مجهول و غامض (و لنضرب مثلا بنموذج البورجوازي الصغير الأول في تاريخ الخيال الفني و هو روبنسون كروزو و قبله حي بن يقظان). إن السقوط هنا لا يعادل السقطة لأن الضحية بريء حقا. و لكن قد يحتمل معنى الكمون. و بعبارة أوضح إنه يدل على توقيف النشاط الحيوي الطبيعي و تحريض النشاط النفسي، و لنضع بعين الاعتبار مسألة بغاية الأهمية تجد جذورها في الفكر الباطني العَلَوي و تفريعاته من توحيديين دروز و إسماعيليين. إنهم جميعا مصدر أساسي لحركات التصوف. حيث أن الموت يعبر عن مساحة فارغة و تحل محله فكرة التجسد و الفيض و الإحاطة و أخيرا التقمص. ألم يخرج النبي يوسف من البئر و يحكم مصر؟ لقد كانت غيابته مجرد بشارة بولادة لها تفصيلات أخرى فحسب. و علم الاجتماع السياسي هو فقط الذي يتعامل مع هذه الحكاية على أنها صراع على الحكم و الثروات.
الإشكال الثاني. هو خيط قصة النبي يوسف نفسها. إنها لا تتكرر في القصائد فقط و لكن أيضا بين المجموعات و بدأب غريب. و كأننا حيال أحلام فرويد الذي لا تمر عليه ليلة إلا و يحلم بيوسف.
و إن كانت التوراة ترى في القصة رموزا جنسية فاضحة، و دراما للصراع بين العفاف و الغدر، فإن الرابط مع القصائد مثل الرابط مع التحليل النفسي. كلاهما يعزو للنبي عليه السلام قوة لاشعورية هي موهبة تفسير الأحلام.
و للتوضيح. كان فرويد و النبي يوسف يهتمان بتفسير المنامات. أما القصائد فهي تهرب من واقعها و تفسره بواسطة اللاشعور الذي نعيد تشكيله في تصوراتنا، أليس الشعر و الفن عموما في نهاية المطاف نوعا من حلم اليقظة؟.
الإشكال الثالث. يدور حول رموز أدوات الموت. هل هي واقعية أم أنها متخيلة؟.
لا توجد و لو إشارة واحدة لهذا الموضوع. مع أن شاعرا عمل على تجسيد و شخصنة الحروف  المجردة و النقاط لا بد له من ترميز هذه الموضوعات التي شغلت الذهن البشري منذ أيام غلغامش و حتى أيام ماري شيللي مؤلفة (فرنكنشتاين). و غني عن القول إنه توجد أكثر من صورة في قصائد عديدة تعمل على أنسنة ملاك الموت بشكل شاب يرتدي الثياب السود، و خذ قصيدة (حارس الفنار قتيلا ) على سبيل المثال (ص55).
و لكن هنا لا بد من الإشارة إلى أن الثقافة الإسلامية في تاريخها الطويل لم تحتكر اللون الأسود ليدل لا على الحزن و لا الموت. و هذه عادة تعزى للثقافات المسيحية الغربية حيث يرتدي المعزون ربطة عنق سوداء. و تجد ذلك في معظم الأعمال الأدبية العالمية التي ترزح تحت مظلة الموت. و منها مثلا: الغريب لكامو، و المرحوم لجيمس جويس، و الموت يستأذن بالدخول لوودي ألين و غيرها. و لا أرى غضاضة من ربط رموز الموت عند أديب كمال الدين برموزه في الثقافة العالمية. و خير مثال قصيدته (حلم ). فهي حلم فرويدي نموذجي و تتضمن صورة لقطار أسود. و هو بنظر فرويد إشارة لا محيد عنها للموت. و قد انتبه الأنباري لذلك بفطنته المعهودة (ص 84).
على أية حال إن الخشية من الموت موضوع متكرر في قصائد أديب كمال الدين. و هو ليس دليل ادانة أو خوف و لا هو حالة رعب مستفحل من الشيخوخة. بمقدار إحساسه بالضعف و الوهن تجاه هذا العالم القاسي القلب.
و هكذا تلتقي حالته الوجودية مع تنامي مساحة الإغتراب لديه مع ضعفه البشري الذي أصبح مادة أساسية لمجمل أشعاره.
المشكلة الأخيرة و هي بخصوص المصطلحات و المفاهيم. لقد استعمل الأنباري بجدارة التحليل النفسي مع التحليل الفني (قراءة الأسلوب و معناه المستتر) . لذلك حصل لبس في بعض المفردات. فهو مثلا في قراءته لقصيدة جان دمو استعمل الضمير الجماعي بمعنى رقابة الوعي (101). و هذا تضارب له ما يبرره. و إن كنت أرى فعلا حاجة لوضع خط أحمر تحت اللاشعور و اختلافه عن الرقابة. فالوعي هو الـ " ego" بينما اللاشعور هو الـ " id". و هذه هي حالة جان دمو. إنه يعيش خلف حدود الرقابة. و لكنه رمز للتمرد و العبث و السخط و الاستياء. و مثل هذه المشكلة تنتشر بسرعة البرق لا سيما بعد تعدد المسميات لجوهر واحد. فموت الإيديولوجيا و موت التاريخ مثلا هما موت المؤلف لو وضعنا بعين الإعتبار أننا نقرأ النص خارج سياق تطوره. و لكن لا يمكن أن ننظر للبنيوية و التفكيكية على أنهما شيء واحد مع أنهما من ضمن التيار العريض للحداثة.
***
زد على ما سبق عدة متوازيات في المفاهيم و المعاني. و أشير هنا لظاهرة التلازم بين ما يقول عنه الأنباري التكرار و وحدة الجو العضوي لتجربته مع الشعر. إن التكرار لا يعني الرتابة و الإضجار (يسميه الأنباري الترهل - ص 72). بل بالعكس، لقد كفانا مؤونة مثل هذه الشبهات. فتشخيص الرموز و أنسنة الحروف موضوع متكرر و لكن بصور متبدلة. إنه لا فرق ، مثلا، بين رومنسية عبدالحليم و كلاسيكية أم كلثوم و وطنيات فيروز. كل شخصية تشير إلى الكم الهائل من الضغينة المتفشية في عالمنا المشوه و المحكوم بقانون الرياء و المداهنة. ضع في حسبانك صورة السرير الوحيد (في قصيدة فيروز ) و لواعج الروح و الشوق و الأسى في (قصيدة المطربة الكونية) ( ص 72) . و لكن هذا لا يمنع من وجود علامات فارقة. و غني عن القول إن غزليات نزار قباني بصوت عبدالحليم حافظ لن تستعمل نفس الصور و الرموز التي تتوفر في شعرية أحمد رامي و بصوت أم كلثوم. فما بالك لو انتقلنا لخلفيات الحضارة المتوسطية التي تتبناها فيروز بجدارة و تعيد إنتاجها بصوت السبرانو الأوبرالي.
و قل نفس الشيء عن علاقة الخيال الفني بالحياة. و كان الأنباري مصيبا في أن الشخصيات الفنية هي غير الشخصيات الموجودة بيننا (ص 69 ). فالفن يعيد تفكيك و تركيب الواقع المتكرر نفسه لتوضيح وجهة نظره بطرق متباينة. و لوأانه اكتفى بالنقل من الحياة لما كانت له شخصية و لما كانت هناك ضرورة لمئات بل آلاف القصائد التي تتحدث عن الحرب و الطغيان و غير ذلك. و إن فكرة غارودي عن الواقع اللامتناهي لا تتعارض مع مبدأ الإنطباعية و التعبيرية في الفن. فالحياة النفسية للشاعر أو الفنان لها وجود مستقل عن حياته الإجتماعية. و دائما للكاتب مطلق الحرية في اختيار ما يراه و ما يغمض عينه عنه. إن رواية (المستنبت الزجاجي) لكلود سيمون تعيد بناء الذهن المعاصر و تقدمه لنا بصورة مساحة يتقاسمها الخيال و الوهم و الواقع. و هذا هو حال هذه الباقة من القصائد. إنها ترسم صورة مجملة لكل جوانب الشخصية المعاصرة، التي تتحرك على عدة محاور في نفس الوقت. لقد أصبح الذهن الحديث مثل الأدوات متعددة الوسائط. يرى من خلف شروط المكان، و يعيش في عدة عصور في نفس اللحظة.
حقا لم يكن الشاعر في أية قصيدة ضمن إطار المحاكاة الكلاسيكي. حتى قصائد الشخصيات الخيالية لم تنقل عن الأصل. و أضرب قصيدة (زوربا ) مثالا على ذلك. فهي تتحدث عن صراع الشك و الإيمان كما تفضل الأنباري بالتوضيح (ص 79)، مع أن كتاب كازانتزاكيس يتكلم عن دور الرجولة (الماشيزمو بالمصطلح النفسي ) في ترويض الطبيعة و إعادة تأهيل العلاقة بين السلطة و المجتمع.
***
أخيرا أرى أن الأنباري لم يتكلم في كتابه عن فن الشعر فقط، و لكنه كان جريئا في الكلام عن ظاهرة الموت و أثرها على تشكيل العقل الحديث. و قد ترك ذلك لمسة جمالية على كتابه. فكما نعلم للموت رهبة. إنه مثل الألغاز الطبيعية الأخرى المحيرة التي لا يمكن البت بشأنها، و التي دائما تتطلب المزيد من التأمل و التفكير..

-    من جريدة الصباح – الملحق الثقافي

مشاهدة الموقع بالنسخة العادية