مقالات

د. علي ثويني

المحطة العالمية.. شجون التلاقح المعماري

02/06/2014 05:44
يمكن أن تكون المحطة العالمية في منطقة العلاوي، من أكثر معالم بغداد دلالة وحضورا، فقد أبهرتنا أجيالا بعد أجيال، ونتذكر أنها كانت حتى نهاية عقد الستينيات تقبع في خلاء الأرض وطرف المدينة، ويشاهد من تخومها أفق يمتد حتى كرادة مريم، وكانت قبتها ومنارتاها شاخصين سامقين يوحيان بدخول بغداد قبل توسعاتها.
كان يراد لموقعها الطرفي في بدايات القرن العشرين أن يكون بؤرة لنسيج حضري لاحق، لكن خطة دوكسياديس الإنفجارية في الخمسينيات جعلتها وسطية. ويدخل المعلم ضمن سياق التسابق للمصالح العالمية للوصول لمكامن الثراء في الشرق وأريد له أن يربط أوروبا بالهند، ضمن مشروع سكة حديد برلين- بغداد سنة 1908 وفي خضم المنافسة بين الألمان والإنكليز والفرنسيين. وتوقف المشروع أثناء الحربين العالميتين، وتسنى له أن يصل البصرة تباعا، ومشروع إقامة تلك المحطة بدأ في ثلاثينيات القرن المنصرم تماشيا مع خطة تطوير النقل القاري التي شهدها العالم. واختير الموقع على أن يتكامل وظيفيا مع (مطار المثنى) المتاخم، الذي كان مطار بغداد المدني الوحيد ويقع خارجها حتى بواكير سبعينيات القرن المنصرم. وقد انفصلا تباعا بعد أن فتح الزعيم عبدالكريم قاسم الشارع الرابط بين العلاوي والكاظمية سنة 1961، موازيا للطريق الوارث لخط الكاري المخترق لبساتين العطيفية والشالجية.
وبالرغم من الحداثة النسبية لمباني محطات القطار منذ بواكيرالقرن التاسع عشر، لكنها تصاعد دورها لتشكل تباعا من أكثر مباني المدن وجاهة ودلالة، حتى عرفت المدن بمحطاتها وتبارت فيما بينها، فلا يمكن أن تذكر مدن مثل باريس ولندن وميلانو وفيينا إلا من خلال محطات قطاراتها. وأمسى ذلك المعلم بؤرا مدينية ومكانا وسطيا تلتقي عنده الطرق، وازدحم محيطها بالمرافق الحيوية التي تقرب للزائر أغراضه كي لا يبتعد باحثا عما يريده. وأمست تلك الصروح وبرج الساعة عند مداخلها مكان التلاقي ومضرب المواعيد، وأمست الساعة البرجية إحدى دالاتها كما في المحطة العالمية.
بيد أن المحطة البغدادية مكثت معزولة ولم يتطور محيطها الحضري، بالرغم من اختيارها على تخوم الكرخ الذي شكا من  شحة عمرانه وقلة ساكنيه مقارنة بالرصافة.
والأرض التي تمر عليها قضبان الحديد تخبئ في باطنها مدينة السلام العباسية المدورة التي بناها أبو جعفر عام 762م، وربما جاء اسم (الكرخ) من هيئتها المدورة (جرخ)، وهي مفردة آرامية، فهذا المكان هو أصل بغداد الأول قبل انطلاق أرباضها اللاحق. وشكل الموقع تخوم المدينة الإسلامية، واحتفظ المكان بمقبرة الكرخ (الشيخ معروف) التي أعاقت المخطط حتى اليوم.
وأنجز مبنى المحطة بين أعوام (1947-1951)، والطراز العام للمبنى جاء مهاجنا بين طرز شتى غلبت عليها العناصر الإنكليزية للحقبة الفكتورية المتأخرة مع بوادر الحداثة التي انطلقت بقوة بعد الحرب الثانية كخيار غالب حتى عند الإنكليز المحافظين. و نرصد نجاح معمارها ويلسون ج.م. Wilson G.M (1887-1965م) ، في إضفاء سمات محلية من خلال خامة الطابوق. وقد وظف قبة كروية مقطوعة(طاسة)، ومنخفضة نسبيا وغطى بها البهو الرئيس. وهذا العنصر الأزرق الفيروزي وهب المبنى سمة محلية تتواشج مع السماء والمقدس في رمزيتها، وتعد إنشائيا من أمهات المنتج العراقي الدهري مثل عنصري العقد والطاق.
لقد عمل المعمار ويلسون  في الإدارات الإنكليزية في الهند قبل مجيئه للعراق مثقلا بالتجربة والأحلام، بعيد مشاركته في تخطيط مدينة نيودلهي سنة 1920. وقد عمل في بغداد ضمن حقبة الانتداب البريطاني(1915 - 1932م)، وشارك مساعدا للسير آدوين ليتوين في نيودلهي، فتأثر بمنهجه العمراني والمعماري المشرئب للتراث. وقد استفاد من الطرق البنائية والخبرات المحلية (أسطوات الحرفة) ولاقح العمارة العراقية مع  الكلاسيكية الجديدة الإنكليزية التي تهاجنها خامة الطابوق، وربما تأثر الإنكليز بالهنود الذين تتجذر فنون الطابوق عندهم منذ (موهانجو دارو 2100ق.م) السومرية في السند. وهنا نسجل اعتماد ويلسون على الأسطه حمودي العزاوي- الكظماوي صاحب المناقب البنائية. وقد ألتقينا أحد من مكث من بُناتها وهو الأسطة عبود حمود الكناني، الذي يتذكر كيف نفذ (الجف قيم) على واجهاتها.
وكان ويلسون قد شغل  منصب أول مدير للأشغال العامة في العراق بعد تأسيس الدولة العراقية 1921، قبل أن يحل أحمد المختار، وتجسد خطه بناية جامعة أهل البيت(1922-1925) بالأعظمية. وتتصف أعماله على العموم بالوظيفية والتناظر التام ومحورية لتكريسه مع صرحية مقصودة. وعادة ما كان يرفع في المحور شاخصا صرحيا كالقبة، ويسبق المداخل رواق باسق. واكتنفت أعماله تفاصيل وريازة  الآجر في الاطناف والمقرنصات. ونجده على الورق في مخطط قصر الملك فيصل الأول (1927) الذي أهمل فيما بعد.
وقد اقترن اسم  ويلسون بزميله مايسون هـ .س  Maison H.S (1892-1960)، حيث نفذا عدة مشاريع مشتركة بقى بعضها قائما مثل: المستشفى التذكاري للجنرال مود في البصرة 1921، والبلاط الملكي في بغداد 1923 والذي لم يبق منه أثر اليوم ،وكنيسة سان جورج 1926، ومقر قيادة القوة البحرية في البصرة 1929 ومطار البصرة 1931 ، وبناية البريد والبرق 1929، وكذلك مطار بغداد (المثنى) 1931 ، والقصر الملكي في الحارثية 1933.  واختلف مايسون عن زميله ويلسون معمار المحطة العالمية بعدم اكتراثه بالعمارة التراثية وغضاضة في التوجيه البيئي. وكرس على خلاف ويلسون  النمط الإنكليزي المحض في البناء المتضام ومعالجة الواجهات بالأعمدة والسقوف الجمالية المنحدرة.
ولم تشذ المحطة العالمية عن تخطيطات ويلسون المتناظرة، فمدخله خيلائي تتصاعد به الأساطين(الدلكات) الثمانية لأربعة طوابق، بما ندعوه اليوم (دبل فاليوم)، ويقبع خلفها بهو واسع وأجنحة على جهتيها موزعة على ثلاثة طوابق. وقد رام ويلسون أن يرفع المدخل مستوحيا البوابة (الدروازه)  من الأعراف المحلية، وذلك من خلال رفع حجمه عن حجم البناء العام، وإرساء برجين تقليديين على
جانبيه يتدرجان في الحجم حتى نهايات أخدودية أصغر حجما، وإضفاء شرفتين شكليتين على جانبيه. وهذا العنصر  قادم من الكلاسيكية الجديدة الإنكليزية الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وامتد حتى الحرب الثانية واقنص بعض عناصر الطراز القوطي Gothicالمتأخر، ووظف بحسب طبيعة المعلم، كما في محطة توليد الكهرباء على التايمز التي أمست اليوم متحف الفن الحديث (Tate museum)، أو أن تكون برج ساعة في مباني البلديات والإدارات والمحطات أو صومعة النواقيس أو وبرج الكنيسة، وجميعها هيئات شاقولية تشق رتابة خط سماء المدينة الإنكليزية.  
وعلى العموم فإن استلهام الطراز البنائي المحلي في الحداثة دعاه الفرنسيون  (الارابزانس Arabisance). وكنيّ بالحداثة أو الحداثة الكلاسيكية،أو (العقلانية المحلية )، بما وسم بالربط العضوي الوظيفي لاجزاء  البناء مع محيطه الحضري. وقد شاع ذلك الطراز كحركة تجديد وإحياء من داخل العمائر المحلية. واستعمل الأشكال الموروثة في المعالجة المعمارية ،واهتم بالجانب النسبي والحجمي واللوني واضيفت كاسرات الظل، وتراكب الحجوم من اجل لعبة الظل والنور. واستخدمت مواد البناء الحديثة التي تتواءم مع الأشكال المعمارية المنظورة وكذلك التأكيد على الكفاءة البيئية لتلك المواد لتكون صنواً لمواد العمارة المحلية.  وقد تم استحداث الهياكل الحديدية في التسقيف (الشيلمان) ذات المقطع حرف (I) ، بدلا عن الخشب. وذلك منذ قبيل الحرب الأولى، من طرف الألمان ضمن مشروع السكة.
ويمكن أن يكون مبنى محطة بغداد علامة لطراز لم يستمر تداوله لا في بلد المنشأ ولا الفرع العراقي. حيث أن ثمة صراعا نشأ بين الحداثة الإختزالية والكلاسيكية الجديدة التزويقية، وتصاعد الصراع في عقدي العشرينيات والثلاثينيات، واستمر حتى نهاية الحرب الثانية ، حينما غلبت كفة  الحداثة وشاع الطراز العالمي في العراق، تقليدا لما حصل في أوروبا التي خربت مدنها
الحرب وأملت عليها إعادة هيكلة المدن أن تسلك طريق التسريع بالإنجاز الذي توفره الحداثة.
لكن الحداثة لدينا تمادت وأمست منفلتة، فقد شطح جل من شارك خلال جيلين مؤسسين وأكثر من المعماريين مثل أحمد مختار(1907-1960)، ومدحت علي مظلوم (1913-1973) وجعفر علاوي(م:1915)  و محمد صالح مكية(م:1914) ثم الثاني الذي يمثله  الجادرجي(1926) و هشام منير (م:1930) و عبدلله إحسان كامل (م: 1919) وقحطان عوني (1926-1972) وقحطان المدفعي(م:1927)، ثم تلتها أجيال لاحقة أشاعت تداول خامة الخرسانة على حساب الطابوق الطيني، واختارت التخطيط المتضام المغلق، الذي يتضارب مع وخمة العراق وحاجة الفضاءات الى ترويح. واليوم ندفع ثمن حداثتنا التي لم تتواءم مع ظروفنا البيئية،بل كانت تخص لندن وليفربول اللتين لن تطأ درجات الحرارة بها 40 درجة والمطر بها دائم، فشتان بينها وبين بغداد. لقد كانت حداثتنا في الفكر والعمارة صنوا لحداثة الغرب ، وما معاناة الناس اليوم مع انقطاع الكهرباء الا نتاج لها، فبيوت مكتومة لا نسمة تنعشها ولا حوش وشذروان ينديها، ولا بادكير يهويها ليست سوى طامة حكمت تلك الشطحة المعمارية.

"الصباح"

مشاهدة الموقع بالنسخة العادية