يقال بأن الفلسفة لا تأتي سوى متأخر إلى موقع الأحداث ، هذا ما قال هيجل من قبل ، فبومة منيرفيا( رمز الحكمة) لا تحلق الا وقت الغسق ، فهي تأتي لتعيد ترتيب ما خلفته الأحداث . وهكذا ، بعد كل ما حدث في العراق ، من خراب ودمار وحتلال أرضه ، يتم أنتخب له رئيس فيلسوف . والرهان يقوم الآن على رئيس ذو نزعة الفلسفية ، فهل يقدر أن يصلح ما خربه رجال السياسة ؟ ، فما في جعبة الفلسفة وما الذي تقدر أن تعمله لبلد أنهك أهله والاغراب . أضاف إلى أن التاريخ يخبرنا أن قلة من الفلاسفة من يتمتع في الحس الواقعي ، فلعله سيكون من تلك القلة ، لأنه كان أيضاً رجل سياسي كذلك ، وإذا توجد كلاهما في شخص واحد فيمكن له أن يهرب من مصير الفيلسوف حينما يكون حاكماً . فرغم أن أفلاطون قال بان لا إصلاح لدولة بدون تعطى للحكم الفلاسفة. ولكن مشكلة فيلسوفنا الرئيس هي ليس هو الذي يحكم ، بشكل كامل ، وأنما فقط يصادق على خطوات السياسين وخططهم ، وبذلك يصادر حق الفلسفة في الحكم ، ويحملها مع ذلك أخطاء كل السياسين . ومع ذلك يبقى علينا أن نسر بأن يكون على رأس الدولة فيلسوف . فقد يعمل في حكمته على كبح أهواء السياسة . ولن مع ذلك ، أن نستبشر بالخير ، بكون الرئيس المنتخب شخصية سياسية وطنية معروفة كرسة جهدها في النضال من أجل قضية عادلة ، هي حق الشعب الكردي في حياة كريمة ومساواة عادلة مع بقية أقسام الشعب العراقي ، فمعروف إلى الكل مقدار الظلم الذي لحق في الشعب الكردي من النظام البعثي . وهذا الظلم لا يحتاج لوقفة لتبيانه وتعداد مظاهره فقد بات معروف ليس على الصعيد المحلي والعربي ، وإنما قد هتز له العالم له كله ، في مواقف عديدة ، ولعل مأساة حلبجة والانفال وغير من الجرائم المعروف على الصعيد العالمي . هذا الظلم الذي أصاب الكرد أعطى لقسم كبير منهم مناعة في أن يكون في موقف الظالم أو يكونو عون له . لقد تمتع جناح كبير من المناضلين الأكراد بهذه الخاصية ، خصوصاً الجناح الوطني الكردستاني . ولعل خير من مثلهم هو السيد جلال الطالباني ، رئيس الجمهورية العراقي السابق . ولقد شهدت له الساحة العراقية في وقت الأزمات مواقف مشهودة . في العمل بحس عراقي صميمي بعيد عن عن كل التحيزات . فالعراق كان في أمس الحاجة لهذه الشخصية الوطنية التي تميز في حس يعلو كل الانحيازات الصغيرة والتفاهة ، فجاءت شخصية جلال الطالباني في وقتها المناسب . ولذا تميز الفترة التي حكم بها الطالباني بتحسن نسبي ، رغم شدة الهجمة البعثية والإرهابية . ونرى اليوم الموقف يتكرر ، وأن بصيغة جديدة ، ولكن وسط مخاطر جسيمة ، يراد لها شخصية ، متماسكة تتميز بحس وطني شديد ، ولها خبرة وحنكة سياسية . فالعراق كله عربه وكراده يقفون على شفير هاوية لا قرار لها ، فأي زلة وأي تأزيم للموقف أكثر مما هو عليه الآن سيؤدي لا محالة إلى الانزلاق في الهاوية . وصحيح أن رئيس الجمهوري ليس هو الشخصية الرئيسة الحاكمة في العراق الديمقراطي ، كما كان في السابق ، ولكن العراق لهشاشة وضعه محتاج كل جهد وكل موقف صائب ومشوره ، فما بالك في شخصية مثل فؤاد معصوم ذي الخبرة والباع الطويل في السياسة والموقف الصعبة التي عاشها في حياته النضالية الطويلة . فهذا الرجل يجيد العربية ، ويعرف النبض العراقي ، فقد عمل أستاذ محاضر في جامعات العراق ، وحاصل على شهادة الدكتورا في الفلسفة الإسلامية ، ومعروفه أطروحته لنيل الدكتور من جامعة الأزهر حول أخوان الصفاء . وهذا الاختيار بحد ذاته يشي بميل معصوم وفلسفته في التعايش السلمي بين كل الطوائف والاثنيات . غير أن مجئ فؤاد معصوم إلى دفة الرئاسة في وقت يشهد تأزم خطير بين الأكراد والحكومة وكذلك بقية الشعب العراقي نتيج طموحات البرزاني الغير مشروعة ، بحتلاله مدن عراقية وتحالفه مع أعداء العراق ، في محاولة لتقسيم العراق ليسهل عليه من بعد تحقيق تلك الطموحات الغير مشروعة . ومن هنا تبدو صعوبة الوضع الذي سيجد الرئيس نفسه فيه . فلو عمل الرئيس على وضع مصلحة العراق ككل فأن بالتأكيد سوف يغيض البرزاني ، ويعمق الخلاف بينهم ، فالبرزاني ، يضع كل أماله في أن يلحق بالعراق المزيد من الانتكاسات والتدهور ليكون له مبرر في المطالبة في الانفصال ، لأن كل أستقرار يصيب العراق معناه ، نهاية حلم الاسقلال . ولهذا فكل ما عمله خلال تلك الفترة يرمي لهذا القصد ولهذا الهدف . فكيف سيوفق الرئيس الفيلسوف في حل هذا الأشكال . لا شك أن الفلسفة في شخص الرئيس سوف تعرض لامتحان كبير . فالفلسفة هي بالتحديد التجرد ، والحكم لصالح الكلي ، ضد الجزئي والخاص ، فهو إذا ما أختار مصلحة العراق ككل وأنحاز إلى الذين يغلبون مصلحة العراق على مصلحة الأقاليم والاثنيات ، يكون قد غلب الفيلسوف على الرجل السياسي الذي فيه . وسوف يتصارع هذين الجانبين في شخصية رئيسنا حتى يتغلب أحداهما على الآخر . والطبع سيكون من مصلحة العراق أن يتغلب الفيلسوف في فؤاد معصوم على السياسي . فالسياسي المحترف عادة ما يكون ضيق الأفق لا يرى سوى ما يتناغم مع مصالحه الشخصية أو مصالح حزبه الضيقة . وبما أننا نعول على الفيلسوف في معصوم ، وعلى فلسفة أخوان الصفاء التي نذر له قسم كبيرة من وقته ومحضها حبه ، بأن يسترشد في مقولاتهم في العيش بين الشعوب المختلفة وتغليب الجانب الإنساني على الاهواء والانحيازات الضيقة للبشر . فالعراق الآن في حاجة لبلسم الفلسفة منه لمبضع السياسة . فهل ينتصر أخوان الصفاء ، أصحاب النزعة العابرة القوميات والطوائف ، على الحنابلة والأشاعرة ، الذين ينظون أنهم وحدهم الفرقة الناجية ومن يتبعهم . فهل يخذل فؤاد معصوم الفلسفة الشاملة بعد ذلك وينتصر للسياسي الضيق الأفق الذي سوى مصالح حزبه وقومه ، هذه ما سيواجه الرئيس فؤاد معصوم في القادم من الأيام .
هاني الحطاب