د. هادي حسن حمودي
لا يضيرني أن يكون الخمر حلالا أم حراما، ولكن من المقرف جدا التلاعب المقيت بمعاني التنزيل العزيز وإشغال الناس بأمور ثانوية لا قيمة لها في ظروف العصر الحديث.. هذا مع علمنا أنه في أزمنة الانهيار، تربط الأشياء وأضدادها بالدين، فتغدو الصراعات الطائفية، مثلا، أمرا مقدسا، ويجد اختلاس المال العام خيمة شرعية.. وهكذا..
وما كان لي أن أكتب هذه السطور لولا اطلاعي على مقال في مطبوعة ورقية وإلكترونية تشرف عليها دولة عربية مسلمة، عنوانه (الخمر منظم وليس محرم في القران الكريم كما يدعي الفقهاء) يعتبر الموقف من الخمر يحدد مصير الحضارة فأحببت أن أوجز الكلام على ذلك المقال لا انتصارا للتحريم ولا انتصارا للتحليل، وإنما لبيان مدى الجدب الذي وصل إليه بعض أدعياء الثقافة وجمهور أنصاف المتعلمين.
وقبل الحديث لا بد من ذكر ثلاث نقاط:
الأولى: على من يريد الحديث عن القرآن أن يتقن اللغة العربية. المقال مكتظ بالأخطاء النحوية واللغوية. ففي العنوان يقول (الخمر منظم وليس محرم) وكان عليه أن يقول محرّما لأنه خبر ليس . والمقال يقرأ من عنوانه.
ولا أريد أن أذكر جميع الأخطاء اللغوية والنحوية التي وقع فيها لأن ذلك يحتاج إلى مقالات عدة، ولأني لا أرغب في ذلك. ولم يجد في نفسه حرجا من ادهاء أنه عالم لغوي خداعا للقارئ، بالرغم من الأخطاء والخطايا اللغوية والنحوية التي ارتكبها. بغض النظر عن موقفه من التحليل والتحريم.
الثانية: حديثه عن عبيد الفقهاء لا مسوغ له. ولا حاجة لهذا الحكم الجازم. فالمسألة لا تعود إلى الفقهاء وغيرهم بل إلى اللغة ومعاني الكلمات وسياقها.
الثالثة: من أراد شرب الخمر ليس مضطرا في هذا الزمن لتبرير ذلك دينيا. إن من أبرز سمات التخلف أن يُربط الشيء ونقيضه بالدين في الوقت نفسه.
وعلى أية حال سأتناول الآيات التي ذكرها الكاتب. وهي:
أولا: (يسألونك عن الخمر والـمَيْسِرِ قُل فيهما إثْمٌ كبيرٌ ومنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهما أكبرُ مِنْ نفعِهما)(سورة البقرة 219).
ثم قال: /سأذكر نص كلامه بأخطائه النحوية واللغوية/. (شرح هذه الاية في اولا اعلاه كما يفهمها كل عربي هو ما يلي ــ لا يوجد اي تحريم في هذه الاية وان ما يدعيه الفقهاء هو غلط في غلط(؟) .. فان الله سبحانه يعلم الرسول ان يجيب الناس الذين سالوه عن الخمر بان في الخمر فوائد ومضار وان مضاره اكثر .. وانا كعربي(؟) افهم ان سبحانه لم يحرمه في هذه الاية انما يحذرنا من مضاره .. اما فوائده فان سبحانه لا يمنع عنا فائدة اطلاقا وعلينا ان نتجنب المضار والاثم في تعاملنا مع الخمر طبقا لهذه الاية وليس ممنوع(؟) علينا تناول الخمر).
** الجواب هذا مجرد تخليط وهذيان بأسلوب هزيل مليء بالأخطا اللغوية والنحوية. فهو يعترف بأنه إثم وقد جاء ذلك في نصّ الآية، ثم هو: إثم كبير. ونتيجة الإثم في القرآن معروفة ومن ذلك قوله، تعالى (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (آل عمران 178). وغير ذلك من آيات عديدة. أم إن الكاتب سيقول إن الشرك ليس محرما؟ أما المنافع فلا أحد يُنكر أن هناك من ينتفع من الميسر فيربح من المال ما يربح، وهناك من يبيع الخمر فيحصل له ربح، أو قد يصف الطبيب شيئا منه لمريض ما. وهذا لا يعنِي تحليل ذلك لهم. بل هو تصوير لما هو واقع اجتماعي فعلا وحقيقة. وتكفي كلمة: إثم كبير، لتحريمهما وذلك لدى من يفهم اللغة العربية ودلالات ألفاظها حق الفهم
ثانيا: (ياايها الذين امنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) (43 سورة النساء)
ثم قال فضيلته /أتجاوز أيضا عن أخطائه النحوية واللغوية /: (شرح هذه الاية في ثانيا اعلاه كما يفهمها كل عربي هو ما يلي ــ وهو ان لكم ان تشربوا الخمر الى حد السكر .. ولكن لا يجوز لكم ان تقربوا الصلاة اذا حان موعدها الا اذا خف تاثير السكر عندكم الى درجة بحيث تستطيعون ان تعلموا ما تقولون اثناء الصلاة .. وهذا واضح لكل عربي(؟) ان الخمر مباح بعيدا عن الصلاة الى حد السكر ولكنه ممنوع اثناء الصلاة الا اذا خف تاثير السكر لدرجة ان يعي الانسان ما يقول .. وهذا عكس التحريم تماما وان من يدعي من الفقهاء ومن عبيد الفقهاء وغيرهم ان هذه الاية قد نسخت فهو كفر(؟) حسب رايي لان علم الناسخ والمنسوخ ابتكار بشري وهو مخالف لاوامر الله .. (
** الجواب: حسنا فلنتجاهل التكفير الذي يصدره. علما أن لي موقفا من النسخ ثبته في مقدمات الجزء الأول من موسوعة معاني القرآن الكريم حسب تسلسل النزول، بيروت 2012، ولا أقول بتكفير من غاير ما رأيت. ولذا أقول له إن معنَى الآية لا يدل على ما أراد، وإنما هو وبكل بساطة إن الخمرة محرمة، ولكن لنفترض أن امرءا تناول الخمر فلا يقترب من الصلاة حتى يعرف ما يقول. وهذا لا يعنِي التحليل والإباحة. بل هو معالجة حالة اجتماعية ستتكرر عبر العصور. وهناك كثير من الناس يعرفون أن الخمر محرم ولكن بعضهم يتناوله في حفل زفاف أو ما أشبه، فهذا وأمثاله لا يقرب الصلاة حتى تزول منه حالة السكر. تماما لو ارتكب المرء الزنا أو اللواط فعليه أن يتطهر قبل الصلاة ولا يعنِي ذلك إباحتهما.
ثالثا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة 90). يقول الكاتب: /وأنقل كلامه بأغلاطه وقضّه وقضيضه/: (شرح هذه الاية في ثالثا اعلاه كما يفهمها كل عربي(؟) هو ما يلي ــ ان الله سبحانه يؤكد لنا ان في الخمر مضار(؟) .. والمضار هذه هي الرجس الذي يدسه الشيطان في الخمر والميسر والانصاب والازلام .. وعليه فعلينا ان نجتنب الرجس في عمل الشيطان لا ان نجتنب شرب الخمر (فتأمل؟) .. لان سبحانه قد قال اجتنبوه وان فعل اجتنبوه هذا يخص المفرد الوحيد في هذه الاية الذي هو عمل الشيطان .. اما لو ارادنا سبحانه ان نجتنب الخمر والميسر والانصاب والازلام لكان المفروض ان يقول لنا فاجتنبوها .. لانه حسب ما ورد في القران الكريم ان كلام الله عربيا(؟؟) .. ومبينا (؟؟).. ومفصلا (؟؟).. ولقوم يفقهون .. ولذلك لا يمكن ان يقول اجتنبوه ويقصد بها مجموع اربعة اشياء هي الخمر والميسر والانصاب والازلام .. انما اجتنبوه واضحة لكل عربي(؟) انها تخص المفرد الوحيد الذي هو عمل الشيطان .. وعليه فان سبحانه يامرنا باجتناب عمل الشيطان وليس باجتناب شرب الخمر وهو تاكيدا(؟) لاوامره في اباحة شرب الخمر الى حد السكر على ان لا نقرب الصلاة ونحن في حالة سكر لا نتبين ما نقول .. وهكذا يبدو واضحا ان ليس في هذه الاية اي تحريم للخمر (
** الجواب: حقيقة لا أستطيع أن أصف هذا التخليط إلا بالتحايل الذي عُرف به المزيفون لحقائق الأديان، هو يقول إن الرجس عمل الشيطان يدسّه في هذه الأشياء، ثم يوجب علينا اجتناب ذلك الرجس وأن نمارس الميسر ونعبد الأنصاب والأزلام ونحتسي الخمر، ولكن بعد تخليصها من عمل الشيطان الذي هو الرجس يعني أن يأخذ المحروس زجاجة الخمر إلى مختبر التحليلات الطبية ويطلب منهم أن يُخرجوا منه رجس الشيطان ثم يحتسيه هنيئا مريئا لأنه أخرج رجس الشيطان منه
أما ادعاؤه (لو ارادنا سبحانه ان نجتنب الخمر والميسر والانصاب والازلام لكان المفروض ان يقول لنا فاجتنبوها)، فأعجب من ذلك. فهو يجهل أن الرجس وصفٌ لما قبله من الأشياء المذكورة جميعا. وهو يستعمل للمفرد والجمع. ويكفي ذكر الخمر مع الأنصاب والأزلام.
رابعا: نص الاية 91 من المائدة .. (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)(المائدة 91). يقول المحروس: (شرح هذه الاية في رابعا اعلاه كما يفهمها كل عربي(؟) وليس كما يدعيها تجار الدين المتفيقهون هو ما يلي ــ ان الله سبحانه يشرح لنا اساليب الشيطان الخبيثة كيف ان الشيطان يخبث بيننا ويصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة عندما نصل في شرب الخمر حد السكر .. ثم يسالنا الله محفزا ايانا فهل انتم منتهون وفي هذا افهم انا ويفهم كل عربي(؟) ان الله يسالنا فهل نحن سنضعف امام خبث الشيطان وننتهي عن ذكر الله وعن الصلاة .. ام اننا سنتغلب على خبث الشيطان حتى لو لعبت الخمرة في رؤوسنا ..
** الجواب، ولكن هل يحتاج هذا التخليط إلى جواب؟ ومن عجب أن الكاتب يستطيع أن يتغلب على خبث الشيطان حتى لو لعبت الخمرة في رأسه أما ما هو خبث الشيطان المقصود فالكاتب الحصيف أدرى به
خامسا: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) (67 النحل)
** لا أجد مبررا لذكر قول الكاتب المحروس المتخلص من خبث الشيطان وذلك لأني ضجرت من تخليطه وإنما أذكر له ما يلي :
أ ــ إن السَّكَر بفتح السين والكاف يختلف عن السُّكر بضم السين وسكون الكاف. ولتوضيح ذلك أكتبهما بالحروف الإنكليزية (sakar) والأخرى (sukr) إن الحركة في اللغة العربية تغير المعنَى وخذ كلمة النّجم هذا الذي نراه في السماء، ونَجَمَ بفتح النون والجيم معناه ظهر وبرز. والمَنْجَم معروف.
السَّكَر، بفتح السين والكاف، دواء مذكور في كتب الطب التراثية ومنها كتاب الماء لأبي محمد الأزدي الصحاري كان القدماء يستخلصونه من التمر والعنب والتين وفواكه وأعشاب أخرى، لتخفيف آلام المرضى وتغذيتهم. أما السّكر بضم السين وسكون الكاف فهو يعرفه خيرا منِّي.
ب ــ وعلى فرض أن المراد بالكلمتين معنَى السكر من شرب الخمر، على الرغم من أننا لا نُقرّه، فأين هو التحليل؟ كان القرشيون يعتبرون الخمر نعمة وخيرا، فما دامت نعمة وخيرا أفلا يعبدون من أوجد ثمرتها؟ وهذا أسلوب تعبيريّ قرآني ورد في مواضيع أخرى، كالنذور التي تأكلها النار على ما كان بنو إسرائيل يزعمون بأنه دليل قبولها.
واخيرا ينصحنا أن نعلن تأييدنا (لما يقول ولو بكلمين، ليكون في ذلك توعية مسلم متخلف ولو واحد فقط. ولكي نثبت أننا متحضرون ومن أجل الحرص على سمعة المسلمين وسلامة غير المسلمين والتعايش الحضاري مع بقية البشر ممن يؤيدوني فيما اوردت اعلاه..) حسب نصّ كلامه لأن مسألة الخمر هي مسألة مصيرية في الحضارة البشرية الإنسانية .
فأنجدوه ولو بكلمة أو كلمتين، كما يقول، لأنه عبقري زمانه والزمان الذي يأتي بعد زمانه .