د. هادي حسن حمودي
(1)
لم تكن اللغة السياسية العراقية تستعمل كلمة الكابينة، ولكن منذ شهور عديدة، صارت كلمة (الكابينة) و(الكابينة الوزارية) تتردد على ألسنة معظم الساسة العراقيين وفي مقالات الكتاب العراقيين، وفي الصحف العراقية، وفي سائر وسائل الإعلام العراقية، وحتى في الثرثرة الفضائية. مما ذكرني بما كان الأطفال العراقيون يرددونه في ليالي رمضان وهم يدورون على بيوت محلتهم: (ما جينا يا ما جينا.. حل الكيس واعطينا.. إلخ) لأن كابينه على وزن ماجينه، ولكن هذه الأنشودة الرمضانية ذات أصل فصيح (جئنا وياما جئنا...) أما الكابينة فإذا كان أصلها من الإنكليزية (Cabin) فتلك مصيبة، وإن كانت من الجذر اللغوي العربي (كبن) فالمصيبة أعظم، واتبعني، هدانا الله وإياك للخير.
(2)
إذا كانوا أخذوها من اللغة الإنكليزية فما مبرر ذلك؟ وهل يريدون بها التفاخر على أساس أنهم من مثقفي العصر الذين يشترط بهم ترديد الكلمات الأعجمية كي يعجب بهم وبثقافتهم العميقة السامعون والقارئون. وهل يقاس المستوى الثقافي بترداد كلمات أعجمية؟
لك الله يا عراق.. أنت الذي تسيدت ميادين العلوم ومنها علم اللغة، منذ مدرسة البصرة والكوفة وبغداد منذ القرن الثاني للهجرة.. ومنها انتقلت العلوم إلى مشرق دول المسلمين وغربها.. صار مثقفوك اليوم لا يتحدثون إلا بلغة الكابينة.. وحتى من (رجال الدين) من لم يعد كلامه وخطابه يخلو من (الكابينة) ولو سألتهم عن معناها لرأيت أغلبهم لا يعرفون أصلها وفصلها، وإن كانوا يعرفون أن المقصود بها كراسي الوزارات أو مجلس الوزراء، لذلك تراهم يكملونها فيقولون (الكابينة الوزارية) وكأنها الماجينا الرمضانية. فتأمل.
(3)
كلمة (Cabin) الإنكليزية أطلقت على القمرة الصغيرة في السفينة للملاحين أو النوتية أو الأحمال. وترى بعض اللهجات العربية استعملتها لأعشاش السابحين على شواطئ الاسكندرية وغيرها. وحين طورتها الإنكليزية الصحفية إلى غرفة مجلس الوزراء صار على الجماعة الفصيحة أن تأخذها أيضا، لأن اللغة العربية تخلو من مصطلح مجلس الوزراء، مثلا، وهو المصطلح الذي استعمله الناس منذ أكثر من عشرة قرون، وصار المصطلح الرسمي للحكومة العراقية منذ أول تأسيس النظام الملكي في العراق قبل قرن كامل من الزمن.
(4)
والآن فلننظر في كلمة (كابين) هل لها أصل في اللغة العربية؟ وإذا كان لها أصل، فبأي معنى؟
إن أبرز مشتقات الجذر (كبن) الكابنة والكابينة وهو: الموضع الذي كان العرب يجمّعون به الدواب وفيه المعالف والمساقي، أي أحواض الماء تشرب منه تلك الدواب. وتختلف عن الحظيرة في أن الحظيرة مكشوفة غالبا، وأما الكابينة فلا تكون مكشوفة أبدا، وسياجها مرتفع إلى سقفها. والذي يستقر ويستكنّ في تلك الكابينة يقال له: قد كبَنَ. قال الشاعر:
واضحةُ الخَدّ شَروبٌ للّبنْ
كأنها أمّ غزالٍ قد كَبَنْ
كما يدل الجذر على تقبّض وقَبْض وانقباض. فلذلك قيل للبخيل كُبْنَة. وإذا سألت أحدا معروفا فتَقبّض وجهه فقد اكبأنّ.
وتقال أيضا للئيم الكزّ والذي ينكّس رأسه عن فعل الخير والمعروف. والذي لا يرفع طرفه لينظر إلى الناس خوفا من أن يسأله أحدٌ شيئا. وجاء في شعر الخنساء:
فذاك الرّزءُ عَمْرَك لا كُبُن
ثقيلُ الرأسِ يحلمُ بالنعيقِ
وقال الهذليّ:
يَسَرٍ إذا كان الشتاءُ، ومُطْعِمٍ
للّحمِ، غيرِ كُبُنّةٍ عُلْفوفِ
أي: هو كريم وليس بخيلا جبانا.
وربما توجه صاحبك لقضاء حاجة، ثم تراجع عنها، فتقول: كبَن عن حاجته، فإذا كان تراجعه من خوف فقد جبن عنها. وبين كبن وجبن حرف واحد مختلف.
وإذا انتفخ الكرش واندلعت البطن للأمام وتضخم الجسم واكتنز لحم البدن قيل: تكبّن فلان، أي أصابه كل ذلك أو بعضه. ولا يكون التكبّن تكبّنا إلا بتجمع اللحم والشحم في بدن المرء أو الدابّة. ومنه يقال: فرسٌ مكبونٌ، والأنثى: مَكبونة، والجمع: المكابين، على زنة المجانين والمهابيل، وهو القصير القوائم الواسع الجوف، أي: البطن.
(5)
فهل سيبقى أهل السياسة ومحللوها ومعقدوها وكتابها وأهل الإعلام في العراق وغير العراق من بلدان العرب يرددون كلمة الكابينة الوزارية؟
قال لي أحد أصدقائي أن الجواب سيكون: نعم.
هذا.... والله أعلم.