أ. د. شميسة غربي
قراءة في نصّ عباس خلف علي "النصراوي وخدوش الصورة"
دوماً؛ أتساءل: أيُّ معنى للحياة؛ لوْ لم تكن الكتابة سبيلاً لِتفْجيرِ بَرَاكين الوعْي في الذات..؟ أي معنى للحياة؛ لو لم تكن الكتابة مفتاحاً لِتفتيق طلسم الوجود والعدم؛ على السواء...؟ أيُّ مَعْبَر كُنّا سنسْلُكُهُ؛ لولاَ ذلك المَدَد؛ الذي تُسْعِفنا به الكتابة لحظة الاِنْسحاق...أوْ لحظة الهَوَس حين يَقْضِمُ تكهّناتِنا، ويتلذّذ بِأوْهَامِنا على مأدُبَة الإكْرَاهات... ويُحيلنا إلى أرْقام في أرْشيف الوقائع، أرْقام... لا تلبَثُ أن تُنْسَفَ؛ لتختلط بِالتُّراب والهوَاء؛ وتذوبَ في صدَى الأصْواتِ المبْحُوحة، والأعمار الهارِبة من صدْعِ اللحظة المنهارة...!
لولا الكتابة... كيف كنّا سنُعلّقُ الأحلامَ على أغصان الزيتون، وبين ضوء النجوم، وفوق حبّاتِ الرّمل... ومع تراتيل الفجر... لولا الكتابة... كيف كنّا سنستبدلُ الدمع؛ بشجن الحرف وسمفونية الرّثاء ساعة الفقد... كيف كنّا سنُحوِّلُ الاِنْسِحابَ إلى حُضور... كيف كنّا سنجعل من الإلغاء... تلك الدُّمْغَة...التي تُوَثَّقُ للحياة على وهج الفِكر الإنْساني وهو يستلم قيادة المَرْكَب في مهبّ الريح، وبين وُعورَة الصُّخور المُنتشية بتدفق الموج؛ وهو يغسلها من خطايا البرية..
لو لم تكن الكتابة؛ تمَثُّلاً لفضاءٍ مُتعالٍ؛ كيف كُنّا سنزرعُ الذّكرى على أكُفِّ الاِنْعِتاق مِنْ رِقِّ التّجاوُزِ البئيس لِسُلْطة النِّسْيان...!
الِكتابة "وَفاءٌ" للعقل... للقلب...للوِجْدان...للْأنا... للْآخر... لِنوَامِيس الأزْمِنَة المُعَلّقَة على ستائر المُفاجآت؛ حين تسلُبُ منك عزيزاً، وتخطف عنكَ أنيساً...إخْتَطّ في دَرْبكَ أعمق الدّلالات المُتحدِّرة من نكْهة الوَعْي الإنْساني الخَلاّق... فكنتَ له... كما كان لك... الجليس... المُحاوِر... الرَّاوي... السّائل... الفيْلسوف... المُفكّر... المُبْدع... المُحَلّل... العارف...المُتقصّي...
غادرَكَ "مُحَمّد علي النّصْراوي" فجْأة... فحَزِنْتَ... وطال حُزْنُكَ حُرُوفَــــــك...! ورُحْتَ تُشيّدُ معبداً، لا يرْضى قُرْباناً؛ إلّا نَزِيفَ الكِتابة على أعْمِدة الصّورة... فحكيتَ....
"عباس خلف علي" حاكياً عن علاقته بالمرحوم "محمد علي النّصْراوي" المُتوفّى يوم السبت 10 مارس 2018:
« على مدى ثلاثة عقود مسكونة برحيق الكتابة؛ هي عمرُ كلّ ما قرأ أحدنا للآخر، وحصيلة ما يُسمّيها صومعة براعم الأفكار التي تُغَذّيها هواجس ذلك العشق الصوفي الذي يرتشف مِنْ نخْبِ الروح؛ إخضرارَهُ وزهده.. تلك الصومعة لا مكان ثابتَ لها، فهي تتشكلُ خلاف نظام الأبنية وهندستها ومعمارها، هي توجد في أي مكانٍ يتّسِعُ لِهذيان رسائل النّفس وتداوُلِها... »
ثلاثة عقود من حياة الرّجُليْن...شكّلتْ مرحلة توثيقية لِعالمِهِما المُسْعَف برَحيق الفِكر؛ وهو يتحوّلُ على بِساطِ الحُروف إلى تجَاوُبٍ عِلمي معْرِفي ثقافي إبْداعي، لا تُقيّدُهُ الأمْكِنة، ولا تُحَدّدُهُ الأزمِنة، وإنّما تُوَحّدهُ الرُّؤيةُ العالِمةُ بتفاصِيلِ المشْهَد على خشبَة الوَاقِع... يقول "عباس خلف علي": « فلا يختلف رصيف الشارع عن مظلّةِ جِدارٍ عارٍ، في يومٍ عاصف، أو إلى جانب شجرةٍ باسقةٍ؛ يتساقط منها الورق الخريفي؛ هروباً من خجل اصفراره، أو بين ضجيج المقهى المسعور بأخبار السياسة والرّياضة...»
كانت فرص اللقاء بين الصديقيْن كثيرة، مزهرة، وَمَعها كانتْ تتجدّدُ فرص الطرْح والمعالَجة لِقضايا الفكر، ومناويل الإبداع، وملامح الوعي؛ تحت سقف مكائن الطباعة وهي تنقشُ الأحلامَ والأفكارَ والوِجدانَ والآلام والآمال والصراع والصّرخة العُظمى في وجه الإلغاء الأعمى للحقائق العُليا، يتحسس "عباس" الصورة؛ فيُتابع: « ... وما نقوم به من تبديل وتغيير في هيكلية الصومعة من داخلها وخارجها، ولا يلتفتُ إليه أحد. نعتقد في ذلك؛ سرَّ مبتغانا أنْ لا يَمَسَّنا ضرّ التّشويش وبلاهة التّلصّص عمّا يعترض منوال حاجاتنا، نفترش ذخيرتنا التي هي زاد ما نتقاسمه من رغيف الكلمات العابق برائحة مكائن الطباعة، وندوّنُ أحاسيسنا المغمسة بنكهة أريجها من عناوين مثل: البرقيل وكتاب الهامش ومدونة ألواح الرُّؤيا وجمرات التدوين ولوسيفر وطيف المنطقة المقدّسة وتوقيع الأثر، وهو يضيف مدينة الزعفران وكور بابل ومن اعترافات ذاكرة البيدق وعدسة الرؤيا وفرصة لإعادة النّظر...»
تقاسم الرّجلان حياة "المِداد" على أوسع نطاق... وشكّل كلٌّ منهما مَعْلَماً بارِزاً في صرْحِ الثقافة العراقية والعربية على السواء... كانت الجلسات على أريكة التّساؤلات تؤثّثُ لعُمْقٍ ثقافي معْرِفي باذخ... تُسَجّلُهُ حواراتُهُما على مِنَصّة الكتابة الحالمة بتوقيع النصوص الكبرى.. النصوص القادرة على استيعاب الأمكنة والأزمنة رغم ثقل "الإكراهات" وتشعُّب الاِلتواءات وأثر ذلك على المصداقية التاريخية المتهالكة على ضفاف النصوص...يقول عباس في ذات السياق: « ثمّ يسألني ماذا فعلتُ بـ: "عربة هولاكو"... فنقلتُ له ضجري من إيقاع حياتي الصّاخب بهؤلاء الأبطال الذين يتناسلون في خضمّ موجات النّزوح التي لا تستوعبها أمكنة النصوص ولا أزمنتها، والمدينة غاطسةٌ في وحل تاريخ الأضداد... يهزُّ رأسه بلا تعليق، ينتظر.. ربما أضيف شيئاً جديداً، ولكن أنا الآخر؛ يتلبسني الشك بما قلت... تطلق المخيلة مبخرة الأوهام وتسرح في البعيد؛ تاركة بيننا ذلك الوجوم الذي تتخطفه النظرات...» غير أن هذا الوجوم؛ الذي أشار إليه عباس، لا يلبث أن يتحول إلى استدراجات تأملية لمضامين الفعل الكتابي وهو يرصد حركية النصوص في ارتحالاتها وانفلاتاتها من المهيمن السائد؛ إلى المُؤَوَّلِ المُوَلَّد... يقول "عباس" مُعبِّراً عن رَأيه في كتابات صديقه؛ ومُذكّراً في ذات الوقت بأقوال الصّدِيق في شأن الكتابة : «... فالنص لديك؛ يقهر المعنى الواحد المعجمي، وينفلت من تكوينه في العبارة؛ إلى الذّهن، ولا يسعى أن يكون مرجعية ساكنة وقارّة، وهذا باعتقادي ما يدفعك للقول : وإذا ما أردتَ أن تكون تلميذ معرفةٍ؛ ما عليك إلا أن تدخل الكتابةَ عند مطلع الفجر، وبهذا تصبح الكتابة لحظة كشف لِبُؤر الحقيقة المحتدِمة بنزعاتها الشهوانية، وليس خلاصاً من أتون إرهاصاتها المقيتة بأمراضها، فهي قد تأتي ببديهية مدلولات الفحص السريري الذي يسبق نتائج الوصفة، الكتابة كما يقول بارث؛ كينونة تتحرى زيفها وحقيقتها في وجود لا يقين فيه...»
على هذا المستوى؛ كان الانشغالُ بفلسفة الكتابة بين الرّجُلَين، انشغالٌ يكاد يؤسّسُ لِمفاهيمَ تجعلُ كلّ واحدٍ منهما على المحَكّ... يقول عباس: « وربّما يكون هو الفخّ الذي يتربّصُ صداقتنا في هذه العقود الثلاث... » لعلّها إشارة إلى بعض الاختلاف في الرّؤى بين الناقديْن... إختلافٌ لم يكنْ من أجل الاختلاف فقط... وإنما كان هدفه البحث عن اليقين في وُجودٍ يعتريه اللُّبْسُ وتتناثر فيه الهواجسُ؛ فيتسلّلُ ذلك التناقض المخلُّ بأريحية الفهم الصحيح للممارسات الكتابية وفي مقدّمتها فضاء السرد بشتى أشكاله، وبعديد أبعاده.
"محمد علي النصراوي" في مرايا السيرة:
يُلخِّص الأستاذ "عباس خلف علي"؛ حياة الراحل في مقاطع تتراوح بين الإخبار والوصف، وأخرى تركن إلى التوثيق باستحضار شهادات المرحوم في مواقف معينة. ممّا جاء في سياق الإخبار عن النصراوي: «... كينونة تشرّبتْ بالحرمان والعوز والضنك المدقع، وفقْد الأب والأخ ومواجهة مرض الأمّ المزمن، وانقطاع الموارد تماماً إلّا من بعض الفُتات الذي كان يحصل عليه بالكاد بواسطة النشر، أو ما كان يجنيه من مهنة درج عليها أغلب المثقّفين أثناء السنين العجاف في بيع الكتب، وهو امتهان قسري لا طائل منه ولا يكفي بكل الأحوال أن يفي بالغرض ولا يقاوم صدأ المعيشة... ما تبقى من النهار يهبه للأمّ المسكينة المُقْعدة، فريسة المرض، آفة تتجول في جسدها النحيف وتفتك به بلا رحمة، يذوب رُوَيْداً رويْداً بهدوء وسكينة، تمتد على السرير ولا تقوى على الحراك... »
يستدعي التوثيق لمرايا السيرة؛ شهادة "النصراوي" وحكيه عن أمه، فيُدْرِجها "عباس" على هذا المنوال: « يقول عنها: إنها ثكلى بهذا العالَم، تعيش مخاض اصفرار وُجوهِنا واهتزاز تقلبات أمزجتنا، نُحسّها تفهم ما علينا وتكتم لواعجها... لا تضحك ولا تبكي، صارمة وحادّة مع نفسها، ولا يمكن رؤية تلك الموجات القاسية سحنتها على الوجه، تخفي غضبها وامتعاضها عمّا ندركه يخرج من ذروة الأحاسيس التي تجمعنا بعد أن يدلفنا الصمت، عصامية لا تريد من أحدٍ أن ينظر إليها بشفقة ويولول على عوزها وشقائها، تؤمن بأن الحياة رسالة ومواجهة لا إنهزام وضعفٌ وخيبة، ترفض أن تفكر أنها عالة على أحد، لقد كانتْ وقبل أن يهدها المرض اللعين؛ تدير ظهرها عن هذه الخدوش وتستعين بما تبقى لديها من إصرار؛ فلا شيء يمنعها من ركوب الموجة، واجتياز نقطة الصّفر، وهكذا صارت الليالي لا يخفت عنها صوتُ ماكنة الخياطة عن أسماعنا حتى الربع الأخير من الليل، سهر مشوب بالإرهاق والأرق لمواجهة إهمال الأب وعدم المبالاة وفتح كوة للأمل الذي يترقبه الأبناء... »
يتّسعُ الحكيُ ليشمل فرْداً آخر من الأسرة النصراوية، هذا الفرد هو الأخ "رزاق" الذي ستتصاعد معه الأحداث إلى منعطفات يُترجمها الراوي بقوله: « رزاق عاد لكلية الإدارة والاقتصاد، وأنا حزمتُ حقائبي لكلية الزراعة في الموصل، ولكن يبقى الشيء الأهمّ؛ أنك مهما تتأملُ في ما مضى؛ لا يدعكَ الحاضر أن تنسى مادام كل شيء يضيق بالحال ولا تقوى على النجاة منه بالهيّن... سنينُ عجاف لا تعطي ما تريد ولا يهجرك وباؤها، المواجهة مستمرة والاشتباكُ في أوج احتدامه... ما زال فيك رمق ينبض، يبدو من هذه السنين؛ برزتْ التحديات ليس في وجه الأبناء وحدهم؛ بقدر ما يُحاكُ أضعافه في وجه هذه الأمّ..تنظيمٌ سرّي محظور يمد خيوطه داخل البيت، الحرب العراقية الإيرانية الطاحنة دقّتْ أجراسها في كل مفاصل الحياة، موت الأب، استدعاء المواليد للجيش أخذ يتّسعُ ويتمدد بلمح البصر، وأصبح كلّ مَنْ عليها يلبس الكاكي، لا مفرَّ من الانحناء للعاصفة...وخُضنا أنا وأخي مع الخائضين لعبة الموت... »
يتأزم الوضع؛ ومع ذلك؛ لا بد من مخرج... يقول الراوي: « سلّمني بعض الحاجيات ذات مساء شتوي قارص وخرج... كنتُ أراه يعدو من الزقاق كمن يفر ظل القمر عن حلكة السواد، يا إلهي ! هل هي الحرب أم قيامة الحياة... تغاضيْتُ حرج السؤال من الأمّ ودلفت إلى غرفة "رزاق" ... كانت تتلصص بنظراتها المنكسرة شجوني وحسرتي؛ لونهما يعتصر فيه الخوف والقلق من المجهول، يتعرى أمامها بلا قناع... سمعتُها تقول: فَعَلَها !؟ ولم تمض فترة طويلة حتى تأكّد خبر فقدان "رزاق" في ظروف غامضة...»
محنة أخرى يسردها الراوي، تُفتّتُ استقرار هذه الأسرة، وتحيك لها خيوط يأس جديد، عندما يتعلق الأمر بضرورة مغادرة البيت: « ثم تقاذفتنا الريح بعد زلزال البيت، طُلب منّا التخلية، لا تنفع المماطلة مع المالك الشرعي للعقار أمام هذه التخلية، البيت صحيح؛ خارج التاريخ ومدار فلكه... لا شيء فيه يصلح للسكن، كل غرفه لا حصانة فيها من أي طارئ، لا شيء يهمني سوى غرفة "رزاق"...بينما الأم كانت تقول في سرّها: إلى أين؟.... وقبل أن تفرغ البيت الآيل للسقوط؛ رأيتُ دموعها تنهمر بحرقة كأنها تواسيني بهذا الجزع... أخبرتني بأنّ "رزاق" قد يأتي ولا يجد من يضمه إلى صدره...! »
بعد العودة إلى التذكير بأحوال الأمّ المريضة وهذه المعاناة "الإضافية" إن صحّ التعبير، يُركّزُ الراوي على وصف حال البيت الذي كان يسكنه وعائلته... فيقول: « الأبواب كلها مشرعة، الشبابيك مهشمة الزجاج، الريح تهُبُّ من خُللِه كما تشاء، لم يكن البشر وحده في هذا المكان يستاء – على ما يبدو- فلربّما قد يضرّ هذا التهشيم قوافل الفئران التي تهرب أسرع من البرق حين تسمع المواء القادم من الخارج بوضوح، لأنها تتنبأ مباغتتها في أية لحظة تلك القطط ذات النظرات الحادّة... كما أن الباب الخارجي للبيت؛ نادراً ما يُستَخدم.. ثمة فجوة أو شرخ بين الباب والجدار؛ فأحد أطرافه مثبت بشعرة معاوية كما يقال، كل ثقلها يتكئ عليه؛ ممّا أدّى إلى انحرافه وميلانه، بينما الجهة الأخرى مفتوحة أو منفصلة تماماً عن الجدار مما ترك مساحة سائبة، تعويض مباشر عن علامة ودالة الباب، وهذا لا يتطلب من الضيف سوى الإذن بالدخول بعد أن يجتاز عربات الباعة المتجولين ونهيق الحمير ونباح الكلاب المسعورة ونقيق الضفادع التي تتكدّسُ في بركٍ آسنة، يُغطّيها القصب والبردي، المنتشرة تفرّعاتها وسط المستنقعات في أطراف الحيّ... هذا البيت، بالكاد استطعنا الحصول عليه؛ بعد أمر التخلية الذي بُلِّغنا به من قِبَلِ مالك العقار القديم... »
الحديث عن بيتٍ بهذه المواصفات.... يتفيّأ تحت ظلال حكايا عن مثقفين آخرين؛ مَسّهُم القهْرُ والغُبْن في أقصى تجلّياته، يستحضرها حِوارُ الصّدِيقيْن في سياق معيّن. يقول عباس: « قلتُ له: وهو ما يُذكّرني بشهادة إلياس الخوري عن زيارته لمحمد زفزاف في المغرب، حيث تفاجأ بشقته المتواضعة أن يعيش فيها إنسانٌ بلا أبواب، وتكثر من حوله السلاحف... فيجيبه بضحكته البريئة: لا يهم كل ذلك، المهم أني أعيش زمني وكفى...! فهل أنتَ تعيش زمنك يا محمد؟! ردّ باقتضاب: هذا إن كان لي زمن يا عباس..! أنا أعيش معطف غوغول... فقلت له: وهلْ تعني أنك مرثية أكاكي، ذلك النّسّاخ الذي لا تتعب أصابعه من نسخ الأوراق، ومع ذلك؛ كل الذي يحصل عليه، لا يكفي شراء معطف آخر.. فكان كلما يتمزق منه شيء أو ينفتق؛ يُعالِجُ رتقه وترقيعه، حتى وصل الأمر إلى أنه لا ينفع معه الترقيع... فقرر اختصار وجبات الأكل؛ كي يتمكن من شراء المعطف، ولكن المشكلة أنه مات بسبب الحلم الذي تحقق بشراء المعطف، وأعتقد؛ هو ذاتُ المعطف الذي خرجتْ منه "الخبز الحافي" لشكري، و"مائة عام من العزلة" لِماركيز، و"نزل المساكين" لبنجلون، و"حيوات متجاورة" لبرادة، و"أطفال منتصف الليل" لرشدي، و"باب الشمس" لخوري، و"سيرة الوجع" لتاج السّرّ.. هي نسخة مكرّرة لذات الأنين الذي مازال يستمدُّ نشوته من دقات قلوبنا ليستعين بهذا النبض على ترويضنا... »
في ذات السياق الثقافي؛ وعلى وتيرة الحكي المشدود إلى سوداوية المشهد؛ يضيف الراوي:« تحت سرير الأم؛ يضع مجموعة من الكارتون المنضود بالكتب، لا يمكن أن يُعَدّ أو يُحصى، ومن مختلف الأحجام... فبادرتُهُ على الفور: كيف تنجيها من الرطوبة والفئران؟ ردّ ساخرا، وهو يناولني قدح الشاي: لا شيء عندي أُسند به هذا السرير المتهالك غير هذه الأمانة... الأمانة...؟ توقّعْتُ، أنه يستودع أمه بشكل يوتوبي بين جنبات هولاء المؤلّفين ليسعفوها بأحلامهم، وتعيش هواء الطموح وتهدأ من الأنين... بينما هو له حكاية أخرى تختلف تماماً عمّا كنتُ أظنّ...»
يحكي النصراوي لعباس:« "رزاق" ترك لي ذخيرة من الكتب، فتح عينايَ على ما كنتُ أجهله، حبُّهُ لنظريات ماركس ( الإشكنازي ) في الاقتصاد وعلم الاجتماع وتطوير الحركات الاشتراكية؛ التي كان يؤمن بحتميتها في إزالة الطبقية من المجتمع، جعله ُمدْمِناً على القراءة وشراء الكتب، فبين غيابه الثقيل على نفسي وملامحه التي لا تبرح مخيلتي؛ صِرْتُ مجبولاً على مسامرة هذه الكتب: تولستوي، أنا كارنينا، موت إيفان إيليتش، البعث، الحاج مراد، الحرب والسلام، ما الفن؟ وجورج لوكاش في كتابه الرواية التاريخية، تحطيم العقل، ترجمة إلياس مرقس، غوته وعصر ترجمة بديع نظمي، بلزاك والواقعية الفرنسية ترجمة محمد علي اليوسفي، التاريخ والوعي الطبقي ترجمة حنا الشاعر، وديوستوفسكي في المقامر، الشياطين، الأبله، الإخوة كرامازوف، الليالي البيضاء، الجريمة والعقاب، الإنسان والصرصار، المساكين، بيت الموتى، ومكسيم غوركي في إعتراف ، الساقطون، مولد إنسان، الحضيض، الأمّ، طفولتي، وكتب لينين، الدولة والثورة، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، موضوعات نيسان.....» قائمة طويلة لعناوين كتب متنوعة، تلك المركونة تحت سرير الأمّ...ويقول عنها الراوي: « هذه الخبطة من الكتب وغيرها سحرتني وجذبتني وصيّرتني جزءاً لا يتجزّأ من عاشق وَلِهٍ؛ لنكهتها الزكية وعطرها الأخّاذ، ورأيْتُ يوماً بعد يومٍ أنني متأثّرٌ بما أقرأ، حياتي كلها تحولتْ إلى إشارات تضجّ في مخيلتي، وترسم طريقي بلا إرادة إلى درجة شعرتُ معها أني أشبه أكاكي غوغول أو ميشكين في رواية الأبله، لديوستوفسكي، أو بيريسيفال ذلك الذي ينشطر على نفسه في رواية الأمواج لفرجينا وولف، وأخذتُ أفكر بطريقة أفول الأصنام عند نيتشه، فتراودك الحقيقة مضببة لأن واقعها مصلوبٌ تحت مضاربات الحيلة والغش والنفاق. الذي يطمح للفضيلة عليه أن يتخلى عن الامتيازات، بينما نرى الفضائل المزيفة كما البهلوان على الحبل، فلا يقين مع فضائح تحريف العقل... وأنْغَمِسُ مع تحليل سيمون دي بوفوار لجيل ما بعد الحرب من المثقفين مثل سارتر والبر كامو، وهي تنسج من هذا التحليل لوحة جدارية للعالم الفكري المتذبذب، وأتوقّفُ عند ايماضات كلود سيمون في رواية طريق فلاندرا، ترجمة باسيل قوزي، تلك التي ينتحل فيها كلود سيمون على القارئ، ليكون هو ذلك الكاتب المختلّ عقلياً، مدمن على الكحول، يتصور نفسه أنه على وشك أن يحوز جائزة نوبل بأسلوب يندفع إلى الرومانسية، يكاد التاريخ فيها يتدفق جارفاً في طريقه كل شيء، فنتحسس عُنفهُ الرّوائي؛ يعصفُ بخيالاتنا وعواطفنا، وأتأمّلُ طروحات الرواية الجديدة من أمثال آلان روب غرييه وناتالي ساروت، وصموئيل بيكت، وميشيل بيتور، وجان جينيه، وكلود سيمون، وأتفق تماماً مع مقولة عبد الملك مرتاض: كتابة هذه الجماعة الفرنسية اشتهرت بجنوحها الشديد إلى الضبابية المفرطة، وهذا النوع من الكتابة الروائية؛ أمسى معروفاً في مصطلحات النقد العالمي المعاصر بتيار الرواية الجديدة، وفي العالم العربي؛ نجد روائيين كُثْراً هجروا تقنيات الكتابة الروائية الكلاسيكية، وأقبلوا يكتبون هذا الشكل الجديد من الأدب الروائي.»
كانت هذه الجلسات بين الصديقين؛ روضة من رياض الفكر، تستحضر العباقرة ممن امتهنوا حرفة الكتابة، وعبروا من خلالها عن قناعات ورؤىً وتوجُّهات مُتباينة، تخضع كلها لسلطة الحرف، وتخلّد بصمتها على دفتر المعرفة المشرئبّة إلى خلق النموذج، الذي ربما يكون بإمكانه؛ ضمان الِارْتِواء للعقل الإنْساني الباحث عن الحقيقة الهاربة تحت ضغط الوجدان وقد سحقه الواقع، ولم يجد بدّاً من الإقلاع إلى عالم الإبداع... حيث الجَهْرُ بل الصّدحُ هو الترياق الأنسب للخلاص...!
يتابع "عباس" رسم مرايا سيرة صاحبه؛ وقد أخذ منه الحزن كل مأخذ، فيقول: « ثم يطلق آهة من صدره، أُحسّها كنتف غيوم سوداءَ؛ فتائلها مُحْتقنة ِبالِانفعال، (ثم يكظم الوجع ويتطلّعُ في أحضان الكتب التي نُضّدَتْ بين جدران الكرَاتين... وبنبرةٍ خافتة كالهمس؛ تتموج العبارة من شفتيْهِ) أُحِسُّ عينيْ "رزاق" تلاحقني وأنا أتجول في عوالم مقتنياته من الكتب، هاجسي الوحيد إنه لِمَ يُبعد هذا الرحيق عنّي ولم يدْعُني لوليمة الاحتفال بطعم القراءة ولا يحدثني عنها أو يحثُّني عليها، ما هذا السرّ الذي يغلف حياة هذا الكائن الذي تعيش معه في بيت واحد وترتبط معه في بطاقة التموين وتجهل عنه الباقي ؟ يحيرني سكونه المغلف بالصمت وكتمان انشغاله، كان بئراً عميقاً... لا يمكن أن تلج ارتدادات ظلمته، ولا يمكن أن تصيغ السمع لقرقعة القاع الفائرة بأعماقه، كان مغلقاً مع أصداء الأصوات... لا يدعني أتعرّف على هذا الملكوت الذي تسبح فيه تلك الأرواح قبل رحيقه، جعلني مع هذه التركة وحيداً كما كان هو يفعل، ثمّ يُبادرني بالسؤال، لا أعتقد أنك لا تعرفه، ويهمل الإجابة ولا ينتظرها ولا يقف عند هذا البعد النفسي للواعج التي تتناهشه ولا يتغاضى عن إصغائي وهو يفضفض ما بداخله المكتظ بتلك الأصوات المشحونة بنزعة الاِشتباه والاِشتياق، فهذه الأمانة؛ لا أدري إن كنتُ جديراً بحملها أو أنّي لا أليق لرعايتها، وفي كلا الحالين؛ أعيش غواية الأضداد وأردّد مع محمد بن عبد الجبار النفري الذي مات في مصر 354هـ وظلّ مجهولاً عنّا إلى غاية ما أدركه المستشرق "آرثر أربري" عام 1934 ليلقي الضوء على فلسفة أقواله وغُرْبته النفسية، وأسفاره المتعدّدة في الأمصار (...) فأجبتُ ضاحكاً: لا تبتئسْ صاحبي، فأنتَ تخرج من معطف "رزاق"، فأجابني بلا مبالاة: وهل تظنّ ؟ »
تتداخل مرايا السيرة في هذا المقال الذي كتبه الأستاذ "عباس خلف" بمناقشات نقدية عميقة خاصة بالأثر: جمرات التدوين.. التداخل في مستويات السرد... وهو الأثر الذي يحكم عليه عباس – في جريدة العرب اللندنية- العام 2002 بقوله: فجمرات التدوين شأنها شأن تضمن الروايات التي كتبت بتصور ذهني مسبق، أيْ أَنّها ولدتْ من مخاض قراءات سابقة عليها، وهي باعتقادي لا ينطبق عليها مفهوم عبد الله الغذامي بأنها رواية من إنتاج ذاتها، أيْ أنها تسعى على ضوء القراءات السابقة أن تدخل منافساً للروايات المشكلة عن المتصور الذهني لسبب بسيط جدّاً، كل التجارب العالمية تحمل هذا التصور وانفردت خصوصيتها في التعبير عن ذاتها، ولا نجد حرجاً في هذا التنوع من الكتابة؛ لأنه سوف يتضمن زمن النص ولا يتجاوز روحية المكان، وهذا ما جعل جمرات التدوين تتمتع بهذ الخصوصية لاِعتمادها الكلي من عتبة النص إلى الشخصيات؛ وحتة موضوعها الأساس مرتبط بنوازع شخصية ذاتية، بغض النظر إن كانتْ تُدار برغبة المؤلف أو المؤلف الضمني – ثمة موجهات خارجية لا مناص من تأثيرها في مجرى الحدث – بمعنى؛ أنّ صورة الطين وحجم المعاناة وتأثيرها؛ هي الإطار الكلي لاِستراتيجية الكتابة (..... ) في نصوص محمد؛ لا أثر للنسقية، الأفعال لديه؛ تتماهى على السطوح وتتظاهر بإيحاءاتها، هذا التظاهر يحمل خلطة من البؤر التي يستند عليها الروي، منها الأسطوري والخرافي والغيبي والاِفتراضي، إضافة إلى تشكلات أبنية معرفية وثقافية، تُغلّفُ هذه البؤر؛ لِغرض استنطاقها ومحاكاتها، وبهذا يتحول الخطاب السردي إلى جهاز مفاهيمي كما يقول فوكو: عابر للزمن، لا يستهلك بالآنية والحالات الطارئة، ويصبح كل شيء في النص وسيلة للتفكير والتعرية، أيْ أن له قابلية مرنة للتأويل من جهة والغوص في الأنساق المضمرة من جهة أخرى أو ما يُسمّى بالمسكوت عنه. فأغلب الشخصيات في أعمال محمد الروائية؛ ولدت من ثيمة الحرب والحصار المدمر، ثم أعقبها الغزو الأمريكي الذي نسف فيها أخلاقيات الحرب بالجهل والهمجية والطيش والتلذذ بصور البشاعة، وإذن هذه الشخصيات؛ جاءت رافضة وحجاجية أحياناً وتهكمية أحايين أخرى، وهي تمثيل للكوميديا السوداء؛ ( جنون، عنصرية، شوفينية، إرهاب) هيمنة الإكراهات وإفراط سطوتها بحدّ ذاته؛ يُشكلُ خطاباً ذهنياً ومرجعاً حقيقياً للذاكرة...»
بعد حديثه عن نصوص أخرى للمرحوم "محمد علي النصراوي" مثل البرقيل وكتاب الهامش ومدونة ألواح الرؤيا ولوسيفر؛ يخلص الأستاذ عباس إلى ما عنونه بـ : "حجاجية النقد" يؤكد فيه ما يلي: « أكسبتْهُ القراءات الحديثة؛ متعة خالصة في تحليل النص...وأخذ ينشغل بنظام الرموز والعلامات والاقتباسات (... ) التصور الفلسفي الذي تبناه محمد؛ كأثرٍ غائب؛ يبحث فيه المتلقي للعثور عليه،كما أشار إلى ذلك في كتابه طيف المنطقة المقدسة، حيث تتحول الكتابة عند محمد؛ إلى وشم صامت في الظاهر؛ مدسوس ومراوغ وماكر في الخفاء، ويمكن أن يكون جزءً من عملية هدم ونقيض؛ بالنسبة للقارئ، لكي يتجنب سمّ الكتابة. في إشارة لهذا التاب قلتُ في العدد الأول من جلة الرقيم 2013 ، مثلما لم تتبرأ الأسئلة المؤسسة لطبيعة الخوض في صراع المجاهيل وبعدياتها في عالم الكتابة؛ كذلك ينقل الكتاب الحاوي لمضامين هذا الطيف؛ شكل هذه الأسئلة عبر منافذ تواجدها في النصوص السابقة، تلك النصوص التي تروي قيمة حضور المعرفة إزاء ما بلغت إليه الكتابة، فلا يمكن الإفلات من أسرار ما يكتب في الحواشي ( الهوامش ) إنها من دون شكّ؛ تُدخلنا في فضاء الصنعة، ذلك الفضاء الذي يتسع إلى قابلية إظهار المكنون القابع في قيعان؛ لا تستدل عليها إلا بمعناها ولا يمكن أن تظهر إلا بمنسوب لا يخلو من إدراك كنهه ؛ انها نصوص تروي فعلها الإيهامي والاستيهامي ».
تنتهي هذه الشهادة النقدية من طرف الأستاذ عباس خلف، بتسليط الضوء على مسألة التجربة والتخيّل؛ في نص "البرقيل" وكتاب الهامش، ومدونة ألواح الرؤيا، هذه الأخيرة، لخّص "عباس" رأيه فيها بقوله: « ...إن أهمّ ما تحلت به أحداث هذه الرواية؛ ، أنها تخطتْ الحقيقة وزعزعتْ منطق الواقع المزيّف، الواقع الذي لا يحتمل أن نراه أكثر من بهتان لا يقين فيه...» ويضيف: « وهكذا يتسرّب النص لدى محمد بتمثّلاته من التجربة الذاتية المشحونة بالرفض والتذمر والانفعال، إلى أفق يُحايث الافتراض ويتشكل على غراره ومن نسيجه؛ مقولات لها القدرة على أن تعيد الاعتبار للزمن الغائب كشاهد على حقيقة شابها التزوير والتحريف والتصحيف..»
وبعد...، ألم أقلْ في البدء : لولا وجود الكتابة... كيف كنّا سنعيش في ظل التساؤلات المقدّمة على خارطة المشهد بكل تجاوزاته...! وتظلُّ الكتابة "شهادة" عن تواجدنا لفترة معينة في فضاء يُسَمّى الحياة....