أ. د. حسين حامد حسين
"عواد محيسن "، رجل خذله العالم، او انه على الاقل يصر مع نفسه بعناد على اعتقاد كهذا. فمنذ ان صرح له "عراف القرية" سيد خضر فالح ، بانه سوف يموت خلال ستة اشهر نتيجة لاصابته بذات المرض الذي قضى من قبل على بعض رجال القرية أمثال سعدون الحطاب وثامر بن السركال وعباس حاتم ، وعواد محيسن منذ ذلك الحين رجل ماتت في ذاته الحياة وانتحر معها الامل والبهجة . فعواد هذا يشعر بأن وجوده وكما كان دائما "هامشيا" وغير مهم لأي أحد، إلا انه اليوم اصبح اكثر يقينا من أن حتى وجوده الضئيل ذاك كثير عليه ويجب ان ينتهي. ومن اجل ذلك، وكرد فعل للشعور اللامتناهي باللامبالات راح عواد يهيم على وجهه كل يوم قبل شروق الشمس ، وقبل ان يستيقظ اول ديك في القرية ليعلن للعالم عن ميلاد صباح جديد لا يحمل فرقا كبيرا مع أمسه.
أطلق عواد للحيته العنان ، واقسم بضريح (السيد عبد الباقي) الذي يعد "كعبة القرية" أن لا يمسن جسده الهزيل ماءا بعد اليوم. فعواد محيسن اختار الهزيمة طوعا بعد ان اوصلته قناعته الشخصية أن القرية بكل ما فيها هي مصدر نحسه والسبب وراء كل شقائه .
راح عواد محيسن يهيم وحيدا في البساتين والحقول قريبا من مجرى الفرات الهادئ في ذلك القسم الجنوبي من العراق بعيدا عن فضول أهل قريته وأسئلتهم الثقيلة عن مرضه وملابساته. ومع ان هذا الوضع الجديد لعواد محيسن لم يخلق أي حالة خاصة من الرثاء تجاهه من قبل قريته ولم يؤثر على العلاقات الاجتماعية البسيطة المتداولة لا من بعيد ولا من قريب ، إلا انه ربما كان مصدرا للتندر أو الحديث العابر في مجلس الرجال في مضيف الشيخ (عبيد) عن رجل طيب فقد عقله.
في بيته الطيني ، كان(عواد محيسن) قد عاش سنواته الاربعين الماضية في القرية فلاحا مغمورا قليل الاختلاط بالاخرين لا يعرف عن هذا العالم سوى حقله الصغير و(ضوية) زوجته الراحلة ومضيف الشيخ (عبيد) الذي كان يؤمه في مناسبات خاصة متباعدة . أما دار (سيد خضر فالح) عراف القرية ، فقد زاره عواد مرتين فقط، كانت ألاولى قبل زواجه من (ضوية) ليسأل عن طالعه وملائمة نجمه لنجمها ، والثانية كانت قبل بضعة شهور حينما بدأ عواد يتبول دما ، عندها ذهب مذعورا طالبا من السيد البركة والنصح.
واليوم وبعد رحيل زوجته "ضوية" المفاجئ والتي لقيت حتفها نتيجة لدغة افعى في الحقل ، واشتداد مرض عواد القاسي عليه، فقد نمت في اعماقه خيبة أمل مريرة رفض معها الحياة وتمرد عليها. فعواد محيسن رجل وحيد مفعم بالاسى وسوء الطالع .
والايام العشرة الماضية عند اشتداد أزمة مرضه واضطراره الى ملازمة الفراش ، كانت خير دليل على وحدته وضياعه . فلم يطرق بابه أحد لالقاء التحية أو حتى الاستفسارعن صحته وعما اذا كان بحاجة الى اي شيئ ، ولا حتى "بهية" والدة زوجته الراحلة ، تلك الانسانة الطيبة التي طالما كانت تتفقده بين الحين والاخر إكراما "للزاد والملح القديم" . فبعد عشرة ايام من الألام العسيرة التي قضاها عواد في وحدته صمته ، بدا ِعواد كشبح.
في بيته الصغير ذات مساء ، تمدد عواد في فراشه القديم والذي و لا يزال يعتقده حاملا بعضا من رائحة زوجته المرحومة ، ومضى محدقا بما حوله من سكون ووحدة وتفاهة حياته . راح يستذكر ، كما في كل مرة ، "ضوية" ، تلك المرأة الطيبة التي رحلت سريعا وتركته وحيدا في عالم صعب وغير عابئ بكل شيئ ، وتذكر أنه وبمناسبة زواجه قبل عشرين سنة ، ق اشترى فراش الزوجية هذا مع لحاف ومخدتين . ولم يستطع عواد مقاومة تلك الذكرى فاجهش في البكاء :
"لماذا كان ينبغي أن ترحل ضوية سريعا هكذا ؟"
تذكر كيف انه كان يحدثها عن اشواقه لها أيام الخطوبة ، فكان يرى تورد خدودها الطافحه بالوجد نحوه. وكيف كانت تحدثه عن امانيها ان يتقدم لخطبتها ، وكيف قد نذرت لذلك نذرا أن تقدم لخطبتها . وكيف انها قامت فعلا بوضع الحناء على باب دار (سيد خضر فالح) عراف القرية ، بعد ان تمت الخطوبة . كانت تحدثه عن وجدها له ، وكيف انها كانت عندما تحاصرها الاشواق من اجله ، تتذرع لأمها بحجج من اجل الذهاب الى حانوت القرية الصغير لشراء اشياءا ما ، وحيث كانت تمر في طريقها بجانب الحقل الذي كان يعمل فيه، فيبتسم لها عواد ، حينذاك تضطرب ضوية وتتعثر قدميها ، وتغشاها قشعريرة لذيذة . وكانت تقول له انه كان يرافقها في احلام يقظتها ، وكانت تتسائل مع نفسها ، :
"أهذا هو "الحب" الذي يتحدث عنه الناس؟!
لقد كانت ضوية عالم عواد البهيج . وكانت خير معين له في اعمال الحقل. كانت شابة نشطة لا تخلوا من رقة ، وكان قلبها مفعما بالطيبة والتفاؤل. كانت تحبه بقسوة، فهي وحدها فقط من احبه في كل حياته المنزوية. وكان عواد يحلوا له الاجابة بفخر وزهو على تساؤلات الشيخ "عبيد" عن احوالهم العائلية ، "انها من طينة طيبة" . فقد ورثت ضوية كل طيبة امها "بهية" .
كان عمرضوية خمسة سنوات عندما قتل والدها زاير"عليوي" في احدى المعارك بين عشيرته وعشيرة اخرى بعد خلاف حصل بين العشيرتين نتيجة لدخول مواشي القرية لترعى في ارض تلك العشيرة . فكان في ذلك سببا كافيا لقتل عدد من الرجال من الطرفين، كان من بينهم زاير عليوي، الانسان الطيب المتقي. كانت تلك الحادثة قد وقعت قبل حوالي عشرين سنة مضت، ولكن، لا تزال الماشية حتى هذا اليوم اعظم حظوة من كل حياة وكرامة انسانية!!
كان عواد أنذاك في العشرين من العمر عندما تقدم لخطوبة ضوية . وقضى موت والد ضوية الى تأجيل زواجهما لسنة كاملة. فكانت سنة حداد طويلة جدا لعواد ، فيا لنحسه ،
"ربما كانت حتى اطول من عمر سيدنا نوح"، هكذا كان يحدث عواد نفسه دائما! حينذاك حاول بعض الاشرار في العشيرة التدخل لفسخ الخطوبة على اعتبار ان عواد كان مصدر نحس للقتيل زاير عليوي. ولكن بهية ، المرأة الطيبة اصرت على اتمام الزواج بعد عام الحزن. وفي الاسبوع الاول بعد سنة الحداد ، تزوج عواد من ضوية رغما عن الجميع.
ولكن النحس كان صديقا حميما لعواد . فبعد الزواج بأشهر قليلة ، وعندما كانت ضوية تعمل بالحقل بالقرب من زوجها عواد، لدغتها افعى سامة . فاستغاثت بزوجها، وهرع اليها وقام بقتل الافعى ، لكنه لم يفلح في اسعاف زوجته الشابة . وعند نقلها الى المستوصف الطبي، فارقت ضوية الحياة .
بعد موتها ، عاش عواد في ازمة نفسية شديدة ولم يتعافى إلا بعد اكثر من عام كامل. وبعد تعافيه بفترة اصيب بمرض البلهارزيا وراح يتبول دما. وقضى عواد محيسن لياليه الأرقة وحيدا "كالعادة" يصارع الام مثانته المقروحة ، وظلت الحمى والوحدة تعبث به كمن تلقى لعنة . وبدا عواد بعد تلك اليالي الطويلة المضنية بشكل مقرف، احدودب جسده الطويل وبدت عيناه غائرتين وبرز أنفه بفضول خلف لحية رمادية تضفي على سحنته الداكنة سمرة مشوبة باخضرار غير مأهول. ومع نفاد صبره وتضايقه من اسئلة اهل القرية الملحة ونظراتهم المحرجة لهيئته الجديدة ، قرر تحاشي تلك العيون الثاقبة المتسائلة بصمت عن رحيله الابدي. وقرر عواد الانزواء والانطواء على ذاته. فعواد محيسن هو كل ما تبقى لعواد محيسن. فكانت الواحات والبساتين المحيطة بالقرية هي المأوى الذي كان يلقي عواد فيها بجسده الهزيل وروحه المتعبة ، وكان الفرات الجميل رفيقا صامتا لوحدة عواد محيسن ولوعته.
وتمر الايام مسرعة ، وبمساعدة "بهية" التي ابتاعت له من المدينة بعضا من العقاقير والمسكنات اجتاز ازمته المرضية نوعا .
في احدى الامسيات عندما كان "عواد محيسن" في بيته وقد انتهى توا من صلاة العشاء ، سمع قريبا من بيته أهازيجا لمجموعة من الرجال . وكانت النسوة تطلق زغاريدا صاخبة ، وثمة لغط وحركة غير اعتيادية ناشطة في القرية. وفجأة سمع عواد طرقا على باب بيته. فتح عواد للطارق ليجد امامه بعضا من رجال القرية. وفهم عواد ان الرجال يتهيؤن للذهاب الى المدينة حيث هناك انتفاضة شعبية عارمة ضد نظام "صدام" ، وهم ينتخون بعواد للانضمام اليهم .
"الرجال قد احتلوا المدينة ، وسيطروا على مركز الشرطة واستولوا على مخازن الاسلحة". أخبروه الرجال.
لم يفكر "عواد محيسن" طويلا. نسي مرضه وهزاله وحزنه . اجتاحه شعور غامض باللاجدوى من الحياة ، فلا فرقا كثيرا إن عاش أو مات . همس مع نفسه "لست افضل ممن ماتوا" .
وبسرعة وجد عواد نفسه يجهز حقيبته الصغيرة بقليل من اشياء يحتاجها ، وقفز مع الرجال في الشاحنة الكبيرة . اطلقت النساء الزغاريد تحية للرجال وهن يفرغن جرار الماء خلفهم تفاؤلا بسلامة العودة.
مضى اسبوع . وظلت النساء في القرية في ترقب وتوجس من اجل سلامة ازواجهن. وفجأة ، كان المذياع يحمل انباء اقتراب جيوش صدام من المدينة. واستعد الرجال وهم يرددون الاهازيج . وارتفع الحماس وتسامت الكرامات. وعندما اقتربت دبابات النظام ، راح الرجال يتساقطون كالدمى.
كانت معركة غير متكافئة على جميع ألاصعدة والمقاييس، لكنها كانت معركة رجال حقيقيون ضد الدكتاتور ألنذل . كانت معركة الثأر لشرف عراقي صادره الطاغية .
وعندما جيئ بالنعوش الى القرية ، كان نعش عواد محيسن من بينهم.
في مجلس الفاتحة المقام على ارواح الشهداء في مضيف الشيخ "عبيد" ، كان الصمت ثقيلا وقاسيا والجميع مطرقون يمضغون ألاسى .
ومن الدار المجاورة للمضيف، شق الصمت نحيب "بهية" ونشيجها الطويل بين النساء . واطلق الرجال الحسرات وتهامسوا بحزن:
"كان المرحوم عواد رجلا عظيما ... لم ندرك مقدار كبرياءه ، لقد قسونا عليه...!!"
جامعة تكريت /كلية الطب
1990- المجموعة القصصية القصيرة وبعنوان:
(الخريف النضر)...