حسب الورقة البيضاء سيقود تخفيض سعر صرف الدينار إلى تحسين التنافسية للسلع العراقية. لكن هذا الجانب الإيجابي غير أكيد ويقابله سلبيات عديدة.
يرى البعض أن سعر صرف الدينار لم يكن (قبل قرار التخفيض) يتناسب مع متانة الاقتصاد وإيرادات الدولة. 1182 دينار للدولار الواحد برأيهم سعر مرتفع أدى إلى تدني تنافسية المنتجات المحلية العراقية. لذلك تعتمد الدولة اعتماداً أساسياً على استيراد مختلف أنواع السلع بما فيها المواد الغذائية الرئيسة. وهكذا أفضى ذلك السعر المرتفع إلى تآكل النقد الأجنبي لأن البنك المركزي كان مضطراً لبيع الدولارات في السوق للدفاع عن سعر التعادل. ترى ما مدى صحة هذه المقولات؟
لماذا التخفيض؟
من الناحية النظرية يقود تخفيض سعر صرف العملة إلى هبوط سعر السلعة الوطنية في السوق الخارجية. الأمر الذي يشجع على زيادة الطلب عليها فترتفع الصادرات وتزداد فرص العمل أي يهبط معدل البطالة. كما يقود في الوقت نفسه إلى ارتفاع سعر السلعة الأجنبية في السوق المحلية. الأمر الذي يؤدي إلى تراجع الطلب عليها. فتنخفض الواردات ويتصاعد الطلب على السلع المحلية منخفضة السعر نسبيا. بتفاعل هذين العاملين يتحسن مركز الميزان التجاري ويزداد النقد الأجنبي ويرتفع معدل النمو.
لكن هذه الاستنتاجات تصح في البلدان الصناعية. بل تبين دراسات حديثة بأن تخفيض قيمة العملة في الدول الناشئة أدى إلى تقليص وارداتها لكنه لم يقد إلى زيادة صادراتها. وهكذا تهبط فاعلية التخفيض في البلدان النامية ويزداد هذا الهبوط في الدول الريعية كالعراق.
يعتمد البلد اعتماداً أساسياً على الصادرات النفطية. والخام كما هو معلوم يسعر بالدولار. وبالتالي فأن هبوط القيمة التعادلية للدينار لا يؤثر على هذه الصادرات. أما الصادرات غير النفطية فهي ضئيلة ولا تشكل في اغلب الأحيان أكثر من 5% من مجموع الصادرات. والقسط الأكبر من هذه الصادرات غير النفطية عبارة عن زيوت لمحركات السيارات تباع بالدرجة الأولى للإمارات.
بسبب السياسة الاقتصادية التي تعتمد على الإيرادات النفطية في جميع الأنشطة سوف يستمر العراق بالاعتماد على الواردات بما فيها الغذائية رغم تخفيض سعر صرف الدينار. لأن هذه السياسة لا تشجع الصناعات. لا توجد في العراق صناعات تحويلية مهمة. وبالتالي فأن اغلب الواردات لا تجد منافسة لها في السوق المحلية.
ومن زاوية أخرى ترى الورقة البيضاء أن سعر الصرف المرتفع (غير التنافسي حسب تعبيرها) أسهم في تراجع إنتاجية العمالة العراقية. وأوردت رسماً بيانياً لهذا التراجع. لكن الورقة اكتفت بهذا الرسم دون أن تربط بين انخفاض هذه الإنتاجية وارتفاع سعر الصرف.
وعند إجراء هذا الربط نخرج بنتائج عكسية تماما. ففي عام 1970 كان سعر صرف الدينار ثلاثة دولارات. وكانت إنتاجية العمالة تعادل بالضبط الضعف مقارنة بعام 2020. وفي عام 1998 هبط سعر الصرف بشدة دون أن تتحسن الإنتاجية بل بالعكس.
لو كان الهدف دعم التنافسية لأصبح من اللازم استخدام أدوات أخرى خاصة الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات. والواقع لم تجر الدولة في مشروع ميزانية 2021 أي تعديل على أسعار هذه الرسوم. كان من الضروري رفع أسعار هذه الرسوم. وهذا ممكن لأن العراق لا يتمتع بعضوية منظمة التجارة العالمية. وبالتالي له الحرية في تحديد الأسعار الجمركية التي يراها مناسبة. بطبيعة الحال تستوجب فاعلية الرسوم الجمركية معالجة الفساد المالي المستشري في المنافذ الحدودية.
تم تخفيض القيمة التعادلية للدينار لأسباب ترتبط بالعجز المالي المفرط وبتدهور الميزان الجاري خاصة خلال النصف الثاني من السنة المنصرمة وكذلك تفشي الفساد المالي. يهدف التخفيض إلى تمويل هذا العجز بالإصدارات النقدية. ثم حاول المسؤولون إضفاء سمات إيجابية على هذه العملية فوجدوا فكرة التنافسية وضرورة الحفاظ على النقد الأجنبي.
سلبيات عديدة
وحتى على افتراض صحة هذه الإيجابيات فأن السلبيات أكبر منها بكثير. لأن هبوط القيمة التعادلية للدينار يعني انخفاض القوة الشرائية لجميع المواطنين المنخفضة أساساً خاصة أصحاب الدخول الثابتة والضعيفة. وعندما لا تزداد المرتبات بنسبة تعادل على الأقل نسبة التخفيض يتدهور بالضرورة مستوى المعيشة. ومن باب أولى يزداد هذا التدهور عندما تنخفض المرتبات والدخول الأخرى بسبب الضرائب المباشرة وغير المباشرة التي ارتفعت بشدة في ميزانية السنة الحالية.
في العراق وبفعل تخفيض قيمة الدينار لا يقتصر ارتفاع الأسعار على السلع المستوردة بل يشمل أيضا السلع المحلية. وتشير المعلومات إلى أن أسعار بعض السلع ارتفع بنسبة تفوق نسبة التخفيض البالغة 22%. علماً بأن الواردات تعادل 17% من الناتج المحلي الإجمالي. وهي نسبة عالية تشير إلى ضخامة الدور السلبي الذي يلعبه التخفيض في الحياة اليومية للمواطنين. وعلى هذا الأساس لا يقود تخفيض قيمة الدينار إلى تحسن التنافسية بل قد يؤدي إلى العكس.
يتطلب الدفاع عن سعر الصرف تدخل البنك المركزي الأمر الذي يؤثر على حجم النقد الأجنبي. لكن التخفيض لا يعفيه من التدخل مجددا. لأن العوامل التي تفضي إلى تدهور آخر للدينار لا تزال قائمة. سيستمر إذن استنزاف النقد الأجنبي. التعويم الحر وليس التخفيض هو الذي يقود إلى عدم تدخل البنك المركزي في دعم القيمة التعادلية للعملة.
ما العمل؟
ظهرت في الآونة الأخيرة دعوات للعودة إلى سعر الصرف القديم. والواقع أن هذا الإجراء لن يعالج الأزمة المالية للبلد. تخفيض قيمة الدينار نتيجة منطقية وحتمية للأزمة الخطيرة. كان من اللازم التصدي للعوامل التي أدت إلى هذه الأزمة وليس إلى نتيجتها.
خُفض سعر صرف الدينار بسبب تدهور الميزان الجاري لا سيما الميزان التجاري وبسبب سوء إدارة المالية العامة. ينبغي إذن التخلص من الريعية عن طريق زيادة كمية المنتجات الزراعية والصناعية وتحسين نوعيتها بحيث تستطيع سد الحاجات المحلية والمساهمة بفاعلية في الصادرات.
أما من الناحية المالية فإن المشكلة تربط بالنفقات العامة العقيمة بل المضرة كالقسط الأكبر من الإنفاق العسكري بما فيه مصروفات الحشد الشعبي. وكذلك النفقات ذات الطابع الطائفي خاصة مصروفات هيئات الأوقاف. أضف على ذلك الخسائر الفادحة الناجمة عن الفساد المالي المستشري وعن الكلفة الباهظة للنظام الفيدرالي الفاشل. بعد معالجة الريعية والتصدي لهذه العوامل المالية يمكن وضع سياسات مالية ونقدية وتجارية واستثمارية سليمة تسهم في تحسين تنافسية السلع العراقية.
صباح نعوش
باحث اقتصادي