مرة أخرى تسجّل إسرائيل هدفا على الشعوب العربية يضاف إلى أهدافها السابقة التي نجحت بواسطتها في تحويل بوصلة العداء العربي لإسرائيل الى عداء عربي لأطراف اسلامية اخرى، كإيران وحزب الله والحشد الشعبي العراقي وصار الكثير من العرب يرجمون هذه الجهات ويلعنون كل من يدافع عنها.
الهدف الجديد سجلته اسرائيل في شباك الشعوب العربية بعد أن أعلنت عن خسائر قالت انها لحقت بها بعد ان استهدفها الجيش العراقي بأوامر من صدام حسين بعشرات الصواريخ عام 1991.
وكالعادة وبدل أن يكون الخبر مناسبة للتذكير بجرائم اسرائيل ووجودها غير الشرعي في المنطقة، سارع العرب الى التشتت بين مترحمٍ على صدام وبين شاتمٍ له، ويقينا ان عناصر الموساد الاسرائيلي يضحكون بفرح غامر وهم يشاهدون العرب على هذه الحال.
وقبل أن نتحدث عن صدام وما جرّته سياساته الكارثية من ألم ودمار وتراجع وضياع فرص التقدم على كل من العراق وايران والقضية الفلسطينية بمساندة الدول العربية التي طبّعت مع اسرائيل اليوم وأدارت ظهرها للفلسطينيين.
دعونا نعرج على الوثائق التي رفعت اسرائيل الحظر عنها والتي تشير الى مقتل 74 مُستوطنًا وأصابة 230 آخرين، وتدمير نحو 7440 وحدة سكنيّة، وكل هذا بسبب 39 صاروخا بالستيا اطلقت من العراق عام 1991!.
جملة من التساؤلات تطرح في ضوء هذا الكشف الاسرائيلي عن هذه الوثائق، فلماذا تكشف اسرائيل عنها الان، ومن يجبرها على ذلك لو أرادت إخفاءها، ولماذا لا تكشف عن خسائرها في الحروب الاخرى وخصوصا التي خاضتها ضد حزب الله، فهي قد خسرت ايضا لكن خسائرها ظلت طي الكتمان؟.
والسؤال الاخر هل ان الصواريخ العراقية البالستية التي كانت سيئة الدقة وقليلة التدمير بتقدير كل خبراء الاسلحة في حينه، ضربت فعلا مدنا اسرائيلية ام انها سقطت في اماكن خالية كما نقلته وسائل الاعلام في وقته.
واذا كانت الصواريخ العراقية سقطت فعلا في أماكن مأهولة ودمرت اكثر من 7000 منزل إسرائيلي، وهو دمار إن وقع لايمكن إخفاؤه، فلماذا لم يسرّب الفلسطينيون صورة ماحدث لوسائل الاعلام، لاسيما من يقيم منهم تحت سلطة الاحتلال الاسرائيلي، ولِمَ لمْ نسمع منهم من يقول شيئا عن هذا الدمار المزعوم من قبل؟.
فاذا كانت اسرائيل قد عتمت على الحدث لأنه لايصب في صالحها كما يزعم البعض، أفليس من المنطقي أن يُسرّب الفلسطينيون خبره لوسائل الاعلام وهم الحريصون على إحراج الاحتلال؟ فلماذا لم ينقلوا هذا الخبر في وقته ولم يسربوه والعراق كان في حينه بحاجة الى أي دعم اعلامي وان كان ضئيلا؟.
ثم أن الصواريخ التي تنطلق من قطاع غزة هذه الايام وتصيب مدنا ومستوطنات اسرائيلية يتم نقل اخبارها عبر وسائل الاعلام دون قيود وتحت عدسات الكاميرات، فلماذا منعت اسرائيل النقل الاعلامي لخسائر الصواريخ التي استهدفتها عام 1991 ولا تمنع نقل أضرارها من الصواريخ الفلسطينية؟.
فإذا كانت تريد من وراء السماح بتداول اخبار خسائرها من صواريخ الفلسطينين هذه الأيام كسب التعاطف الدولي، فالحال أنها لو كشفت عن خسائرها من الصواريخ العراقية لحصدت المزيد من هذا التعاطف، وهي الحريصة على ارتداء ثوب المظلوم دائما؟.
أيها السادة، إن اسرائيل تخدعنا هذه المرة ايضا، وتعزف انغام الانقسام الطائفي في المنطقة العربية ليرقص البعض دون دراية لحجم اللعبة، وطبعا لها جيوشها الالكترونية التي تذكي العداء بين العرب والمسلمين من خلال تصنيفهم بين سني وشيعي والحقيقة ان من أوجد الطائفية عند العرب هي اسرائيل وأمريكا لتصلا الى ما وصلتا اليه من نجاحات في تفتيت المنطقة .
وما اعلانها قبل ايام عن خسائرها المزعومة التي نجمت عن صواريخ عراقية اطلقت عليها في زمن صدام حسين، الا قذيفة اعلامية الهدف منها تعميق الانقسام بين الشعوب العربية بعد أن هدأ قليلا الضجيج الطائفي في المنطقة، لاسيما وأنها تدرك أن العرب انقسموا بين معارض لصدام وبين مؤيد له منذ سنوات وتريد اليوم إشغالهم بهذه الحكاية من جديد للتغطية على أمر ما.
نحن نتمنى طبعا ان ُتدمر كل المستوطنات الاسرائيلية وان يختفي كل المستوطنين من ارض فلسطين المقدسة، وتعود فلسطين حرّة أبية لأهلها الفلسطينين، ولسنا في وارد التقليل من خسائر الاسرائليين. ولكن ليس من الحكمة أن تنطلي علينا هذه الخدعة الاسرائليلة بعد كل ما مرّ على ظهورنا من ويلات بسببها، فننفخ في بقايا جمر منطفئ لنُشعلَ نارا نحترق بها.
أما لماذا نستبعد حدوث الدمار والخسائر في صفوف الاسرائليين بسب الصواريخ العراقية بالحجم الذي أعلنت عنه اسرائيل، فلأن هذه الصواريخ البالستية العراقية كانت سيئة الدقة ونحن العراقيون اعرف بذلك من غيرنا ولامجال للمزايدة في هذا السياق.
وبالعودة إلى موضوع اختلافنا حول صدام حسين، فالقصة ليست طائفية، أو بالأحرى يجب أن لاتكون طائفية، فصدام حكم العراق منذ 1968 ولغاية 2003 نائبا للرئيس ثم رئيسا، وقد بدأ البعثيون حكمهم بحرب مع الاكراد في شمال العراق.
ثم انقلبوا على الاحزاب العراقية وخاضوا ضدها حرب اعدامات ونفي وسجن وتفردوا بالسلطة بعد ان قضوا على ما كان يعرف بالجبهة الوطنية، وفي 1980 شن صدام حربا على ايران ومزّق اتفاقية أبرمها هو نفسه معها عام 1975 برعاية الجزائر وتنازل بموجبها عن نصف شط العرب للإيرانيين .
تصوروا هو نفسه من تنازل عن نصف شط العرب وأراض عراقية أخرى لشاه إيران، ثم عاد ليطالب الايرانيين بما تنازل عنه بعد خمسة أعوام من توقيع الاتفاقية مستغلا الإطاحة بالشاه ونجاح الثورة الاسلامية التي ركلت الوجود الاسرائيلي الامريكي خارج ايران.
لقد عشنا تلك الفترة ونتذكرها بتفاصيلها، فإيران فوجئت كما فوجئنا نحن في العراق بالحرب تندلع دون سابق انذار، اذ في كل الدنيا هناك مقدمات للحرب وتوتر يسبق دوي المدافع وتهديد ووعيد أو تلويح بالقوة، فالحرب ليست لعبة في عالم افتراضي، إنها دمار وموت وخراب واستنزاف اقتصادي، وكل العقلاء يتركون فرصة لتدخل الخيرين قبل ان يخوضوا غمار الحرب.
لكن العالم استيقظ مطلع ثمانينيات القرن الماضي على اعلان العراق الحرب ضد ايران وتوغل جيشنا مئات الكيلومترات داخل الاراضي الايرانية دون مقاومة تذكر، وهذا ما يؤكد عدم استعداد ايران للحرب وأنها فوجئت بها ولم تكن مستعدة لها.
تصوروا أن وزير النفط الايراني كان يزور حقول عبادان في جنوب غرب ايران عام 1980 ولم يعلم ان الجيش العراقي يسيطر على المدينة وأسُر واقتيد الى العراق وتوفي في السجون العراقية.
ثم أن صدام نفسه اعترف ان الحرب كانت مؤامرة غربية - عربية لاشغال جهود العراق وايران الخيرة وبامكان اي شخص ان يعود الى الانترنت ليسمع ذلك على لسانه بالصوت والصورة.
وبعد ثمان سنوات من كارثة الحرب وافق صدام على العودة الى اتفاقية عام 1975التي مزقها أمام شاشات التلفاز، ولم يحصل العراق على شط العرب ولم يستعيد اراضيه التي طالب بها صدام واعلنها مبررا لخوض الحرب.
وبعد أقل من عامين من انتهاء حربه مع ايران هاجم صدام الكويت واحتلها ودمر شعبها ولحقت بالعراق كارثة انسانية رهيبة لم تحدث الا في الحربين العالميتين حيث دمرت بناه التحتية واستباحت طائرات 33 دولة جيشه المنسحب مشيا وظلت جثامين الجنود والضباط في الصحارى سهما للحيوانات المفترسة.
وهُزم صدام ايضا في حربه ضد الكويت بعد أن هُزم في حربه ضد إيران، وخرج العراق من حربين مدمرتين مدمرا خاويا منكسرا بعد أن كان قوة يُحسب لها الف حساب، وفُرض على العراق حصار اقتصادي شامل دفع بالعراقيين الى بيع اعضائهم بهدف توفير لقمة العيش لأسرهم، ثم بعد ان تأكد لامريكا والغرب ان العراق اصبح ضعيفا خاويا وليس مستعدا للقتال تحت قيادة أهلكته بالحروب والتخبط والطغيان غزوا العراق واحتلوه.
والباقي تعرفونه جيدا، فهل صدام بطل قومي لانه اطلق 40 صاروخا بالستيا ضد اسرائيل ام انه بطل قومي لانه حارب ايران ثمان سنوات واحتل الكويت وتسبب بتجويع العراقيين وهم من أنبل وأكرم وأشجع الشعوب العربية؟.
هل انه بطل لأنه دمّر الجيش العراقي وتسبب باحتلال العراق، أم أنه بطل لأنه لم يدّخر جهود العراق لتحرير فلسطين، وحارب دولة ايران التي اغلقت سفارة اسرائيل في طهران واستبدلتها بالسفارة الفلسطينية؟.
هل إنه بطل قومي لأنه شتت شمل العرب ومزق صفوفهم ومهّد للمؤامرة الامريكية - الاسرائيلية الرامية لجعل اسرائيل قوة اقليمية عظمى ومهّد للتطبيع، أم أنه بطل لأنه دفن عشرات الآلاف من العراقيين في اكثر من 300 مقبرة جماعية؟.
دعونا نسأل أخوتنا الفلسطينيين: ماذا جنيتم من شعارات صدام القومية سوى أنها كانت عناوين لصحفكم؟ وهل وقف صدام مع القضية الفلسطينية حقّا كما وقف حزب الله وإيران والحشد الشعبي في العراق مع هذه القضية الكبرى؟.
لكم اليوم في العراق ولبنان وايران رجال يساندون القضية الفلسطينية دون منّة ويعتبرونها قضية عقيدة قبل ان تكون قضية سياسة، ويدفعون لذلك ثمنا باهضا، وتستهدفهم دول الغرب ودول التطبيع التي تعرفونها.
فنرجوا ان لاتنطلي عليكم حيل اسرائيل فتقعون في فخ الطائفية ويهاجم بعضكم اصدقاء ومناصرين لقضيتكم دون وضوح في الرؤية، ففي لقاء متلفز قال رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي يوم امس ردا على سؤال حول التطبيع إن" العراق لايطبع مع اسرائيل ومن يطبع من العراقيين مع الاحتلال فعليه ان يحفر قبره بيده".
هذه المواقف المساندة للقضية الفلسطينية تصدر من الحشد الشعبي ومساندين له. ولكن للاسف الشديد تمكنت اسرائيل واعلام دول التطبيع من اقناع بعض الاخوة الفلسطينيين بان الحشد الشعبي مليشيات طائفية، ولو كانت الطائفية هي السبب في رفضنا لصدام وانتقادنا له، لما عارض الشيعة احتلاله الكويت واعتبروه جريمة مع ان الكويت دولة سُنية.
الحكاية لا علاقة لها بالطائفية، واسرائيل ومن معها هم من يدفعون بهذا الاتجاه لتمزيق الشعوب العربية والاسلامية واضعافها، ولابد أن نضّيع هذه الفرصة عليها.