د. ميسون البياتي
ما زلنا في أجواء الربيع الأوربي الذي بدأ منذ العام 1848 وانتهى تقريباً خلال عام 1872 بعد توحيد بسمارك وغاريبالدي للأمتين الألمانيه والإيطاليه . نتحدث اليوم عن رجل تتنازع على حمل إسمه 4 دول هي بريطانيا التي تعتبره واحداً من أهم كتابها في بداية القرن العشرين , الأمبراطوريه الروسيه التي كانت تحتل أرضه التي ولد عليها , أوكرانيا مسقط رأسه , بولونيا ولاء جده ووالده وولاؤه هو أيضاً . لكن قصة حياته تخبرنا عن روح عاشت الغربه والإغتراب بمعاني كثيره فكريه وعقليه وثقافيه , غربة الوطن , فقد الأهل والأحبه , ثم السياحة في العالم كأي طير مهاجر , المكان الوحيد التي عثر فيه كونراد على نفسه كان: الكتب والكتابه
جوزيف كونراد
منذ الغزو المغولي لروسيا الذي اضعفها كثيراً أصبحت أوكرانيا تحت سيطرة دوقية ليتوانيا الكبرى ، ثم دخلت الكومنولث البولندي الليتواني . أدت اضطرابات القوزاق إلى تمرد الأوكرانيين على الكومنولث والسعي إلى الاتحاد مع روسيا التي شاركوا معها الكثير من ثقافتهم ولغتهم ودينهم فعادت اوكرانيا للحكم الروسي بموجب معاهدة بيرياسلاف في عام 1654 وبطبيعة الحال فهذه العوده الى الحكم الروسي لم ترضِ الجميع لأن قسماً من الأوكرانيين كانوا يفضلون البقاء مع مملكة بولونيا
نزح عدد كبير من الأوكرانيين اليهود الى منطقة الحدود مع بولونيا وإستوطنوا فيها بسبب القلاقل التي وقعت في اوربا خلال ربيع الثورات الأوربيه وسكنوا مقاطعات كانت تحتلها مملكة بولونيا سابقا ً. ولد جوزيف كونراد عام 1857 أي بعد بداية ربيع الثورات الأوربيه ب 9 سنوات أي أنه طفل من أطفال جيل الثورات الأوربيه ولادته كانت في مدينة بيردتشيف التي تقع في اوكرانيا تحت الحكم الروسي إلا أن عائلته الأوكرانيه كانت تعتبر نفسها بولونيه . تم منحه اسمه الأول جوزيف وهو اسم جده لوالدته , اما اسمه الثاني كونراد فقد أُخذ من قصيدة حماسيه لشاعر بولوني تتغنى بالمشاعر القوميه
كان الطفل الوحيد لأبولو كورزينيوسكي - كاتب ومترجم وناشط سياسي وثوري - وزوجته إيوا بوبروفسكا . لعبت عائلة كورزينيوفسكي دوراً مهماً في المحاولات البولندية لاستعادة اوكرانيا . خدم (كونراد الجد) في حملة نابليون على روسيا والتي كان هدف نابليون منها إجبار قيصر روسيا ألكسندر الأول على وقف التجارة مع بريطانيا مما كان سيدفعها برأيه لقبول الصلح مع فرنسا , أما الهدف السياسي الرسمي المعلن من الحرب فكان تحرير بولندا من التهديد الروسي. لذلك أطلق نابليون اسم (الحرب البولنديه الثانيه) على حملته لكي يكسب تعاطف البولنديين وليوفر غطاءاً سياسياً وعسكرياً للحمله
أما (كونراد الأب) فكان وطنياً شرساً ينتمي إلى الفصيل السياسي الأحمر الذي كان هدفه عودة اوكرانيا الى بولندا ، وإصلاح الأراضي وإلغاء نظام العبوديه
أما (كونراد الإبن) فقد لاحقه لوم البولونيين له حتى بعد وفاته لأنه اختار المنفى وكف عن المقاومه ومنح الإنكليز شرف أن يكون واحداً من أعظم كتابهم , على أن يمنح هذا الشرف لبولونيا ولغتها
عام 1861 انتقلت العائله الى وارشو وتطوع الأب للمقاومه ضد روسيا فتم اعتقاله وسجنه في قلعه وارشو . عام 1865 توفيت والدة كونراد بالسل . حين خرج الأب من السجن بذل قصارى جهده لتعليم ابنه في المنزل وجلب له كتباً كثيره من تأليف فكتور هوغو وشكسبير وكتب في الشعر البولوني لكن الأب سرعان ما توفي بالسل هو ايضاً تاركاً إبنه يتيم الأبوين بعمر 11 عام , عندها كفله خاله
كان كونراد بصحة سيئه ووضعه الدراسي غير مرضي لكن خاله لم يتوقف عن الإنفاق عليه والعنايه به , عدم نظامه كان يسمح له بالجلوس كيفما اتفق في أي مكان ويلبس كيفما اتفق , مع سوء وضعه الصحي والدراسي جعل خاله يفكر في اهمية أن يتعلم الولد صنعة يعيش منها فقرر أن يجعل منه بحاراً يجلب من رحلاته بعض البضائع التي يتاجر بها
عام 1873 وكان كونراد بعمر 15 سنه ارسله خاله الى مدرسة داخليه تدرس باللغة الفرنسيه مكث فيها 10 اشهر , كان متقدماً فيها من الناحية الفكريه رغم الشكوى من عدم انضباطه وأنه كان يعاني من صداع شديد ونوبات عصبيه
في العام التالي ارسله خاله الى مرسيليا في فرنسا من أجل مهنة كونراد التجاريه البحريه المخطط لها على متن السفن التجاريه الفرنسيه , كما منحه 150 فرنك شهرياً. وعلى الرغم من أن كونراد لم يكمل دراسته الثانويه ، إلا أن إنجازاته تضمنت إتقان اللغه الفرنسيه بلهجة صحيحه، وبعض المعرفه باللاتينيه والألمانيه واليونانيه ومعرفة جيده بالتاريخ ، وبعض الجغرافيا ، وربما بالفيزياء. كان يقرأ جيداً في الأدب الرومانسي البولندي . كان ينتمي إلى الجيل الثاني في عائلته الذي كان عليه أن يكسب لقمة العيش خارج ممتلكات الأسره. لقد ولدوا وترعرعوا في بيئة المثقفين العاملين، وهي طبقة اجتماعية بدأت تلعب دوراَ مهماً في أوروبا الوسطى والشرقيه
في مرسيليا ، عاش كونراد حياة اجتماعيه صاخبه ، مما أدى إلى استنفاد ميزانيته في كثير من الأحيان , وفي اواخر عام 1877 توقفت مسيرة كونراد البحريه بسبب رفض القنصل الروسي تصديق الوثائق اللازمه له لمواصلة خدمته , نتيجة لذلك ، سقط كونراد في الديون ، وفي مارس 1878 حاول الانتحار لكنه نجا وتلقى مساعده ماليه إضافيه من خاله ساعدته على استئناف حياته الطبيعيه وبعد 4 سنوات في فرنسا وعلى متن السفن الفرنسيه ، انضم كونراد إلى البحريه التجاريه البريطانيه في أبريل 1878 وكان قد بدأ تعلم الانكليزيه قبل ذلك بوقت قصير وبقي يتحدث الإنكليزيه حتى نهاية حياته بلكنة بولونيه
على مدار 15 عام عمل في مجموعه متنوعه من السفن كأحد أفراد الطاقم (مضيف ، متدرب ، بحار) حتى وصل في النهاية إلى رتبة القبطان وكانت قيادته الوحيدة في 1888-1889 حين قاد البارجه أوتاغو من سيدني إلى موريشيوس . في العام 1894 إعتزل البحر ليتفرغ للكتابه عام 1896 تزوج كونراد من امرأة إنكليزية تدعى جيسي جورج . كان للزوجين ولدان ، بوريس وجون . كانت جيسي فتاة بسيطة من الطبقة العاملة، أصغر من كونراد 16 عام , بالنسبة لأصدقائه ، كان اختيار هذه الزوجه لا يمكن تفسيره ، وموضوعاً لبعض الملاحظات المهينه وغير اللطيفه لأن كونراد لم يكن يحبها بل كان يريد امرأة تعتني به وتنظم شؤونه فقط
غلاف رواية النصر لجوزيف كونراد
نأتي الآن الى كتابات جوزيف كونراد ولماذا تعتبره بريطانيا واحداً من أعظم كتابها رغم أنها لا تصرح عن السبب , والباحث قليل الإطلاع قد يجد كونراد وحيداً في شكل كتاباته التي اعتمدت اغلبها على مرويات من مشاهداته في رحلاته , لكني كباحثه جاده ومطلعه في اكثر من اختصاص اقرر أن جوزيف كونراد هو واحد من 4 اعتمدت عليهم بريطانيا عند اشتداد صراعها مع الأمريكان على المصالح حول العالم لنشر تغريداتها في زمان لم يتوفر به تويتر وهؤلاء هم: جوزيف كونراد , إج . جي ويلز , روديارد كيبلنغ , إيان فيلمنغ
الأول كان جوزيف كونراد بحار مغامر يسافر حول العالم ويكتب قصصاً من مشاهداته يحملها كل معاني الصراع وكما سنرى , إج . جي ويلز كاتب روايات وقصص قصيره تعد من روايات الخيال العلمي لكنها مفعمه بقصص الصراع , بعد لقائه روزفلت وستالين في 1934 نشر روايته (الإرهاب المقدس) 1939 تحدث فيها عن اسلوب صعود الطغيان في العالم قبل حتى الإعلان عن تأسيس الحرب البارده . ثم روديارد كيبلنغ البريطاني المولود في الهند , كلنا نتذكر قصة (الحلاق الثرثار) التي قرأناها له في كتاب الصف الرابع الإبتدائي , قصصه القصيره تزخر بمواضيع كانت بريطانيا تهتم بها حول العالم من الصين الى الهند الى اي مكان آخر فيه مصالح. الرابع إيان فيلمنغ هو كاتب روايات وقصص جيمس بوند المحمله برموز هموم الصراع البريطاني الأمريكي حول العالم لفترة ما بعد الحرب العالميه الثانيه , بدأ بنشرها منذ العام 1953 وكانت الولايات المتحده تقرأ تلك الروايات وتحولها الى سيناريوهات محمله بتعليقات وردود على الموقف البريطاني يقوم ممثلون بتحويلها الى افلام ما زالت بريطانيا تحرص على متابعتها
https://www.bbc.com/arabic/inthepress-50204023
كتب جوزيف كونراد 13 روايه و 28 قصه قصيره , أغلبها تدور في البحر ويرويها بحار عجوز اسمه مارلو يشارك في بعض أحداث رواياته أحياناً . في العام 1902 نشر جوزيف كونراد روايته (قلب الظلام) .. لماذا ؟
نهر الكونغو يقسم البلاد الى ضفتين . تستعمر بلجيكا الضفه الشرقيه (كونغو كينشاسا) وتستعمر فرنسا الضفه الغربيه (كونغو برازافيل) حين مدَّت الولايات المتحده طمعها للإستحواذ على الكونغو رغبت بريطانيا الحليفه اللدوده أن تضع لها العصي في العجله فنشر كونراد روايته التي تحدثت عن علاقه بين راوي حكاياته مارلو وتاجر العاج كورتيز ورحله على الأقدام 200 ميل في العمق الإفريقي داخل الكونغو حيث بؤس الكونغوليين تحت يد مستعمريهم الحاليين , فكيف بهم اذا بدلوا مستعمراً بمستعمر !!
ليت جوزيف كونراد بقي حياً ليشهد مأساة الكونغو في الستينات تلك التي صُرع فيها بياتريس لومومبا بدم بارد , وتفجرت طائرة داغ همرشولد الأمين العام للأمم المتحده في سماء الكونغو لأنه قرر وضع حد لتلك المذبحه , المذبحه التي شاركت بها الولايات المتحده بإرسال ثائرها جيفارا لتدريب مليشيا النمر الابيض التي تعمل ضد السلطات لتصعيد القتال واجبار بلجيكا على المغادره , وبعد ان انهى ثائرها مهمته كان دوره بالنسبة لها قد انتهى فأعدت له ميتة مجيده تليق بسمعته كثائر عند وصوله الى بوليفيا
تأخر إقتباس الولايات المتحده لهذه الروايه وتحويلها الى فيلم سينمائي حتى العام 1979 حين قام المخرج الأمريكي كوبولا بإقتباس الروايه والتلاعب بها في سيناريو مزج أصل الروايه التي كتبت في مجاهل الكونغو ليحولها الى فيلم سينمائي يتحدث عن حرب امريكيه في مجاهل فيتنام عنوان الفيلم (القيامه الآن) والفيلم من بطولة مارلون براندو , روبرت دوفال ومارتن شين
https://www.youtube.com/watch?v=FTjG-Aux_yQ
في العام 1998 صنفت مودرن لايبرري البريطانيه الروايه بالمرتبه 67 كأفضل روايه باللغة الإنكليزيه في القرن العشرين
الروايه التاليه التي نشرها جوزيف كونراد هي ( العميل السري ) عام 1907 . في هذا العام تم توقيع الوفاق البريطاني الروسي بين بريطانيا وروسيا القيصريه لغرض تطويق اوربا من الشرق والغرب ووقف التغلغل الأمريكي فيها ووقف القلاقل التي تحدثها تغذية الأمريكان للصراعات التي تقع بين الجماعات الأناركيه والجماعات الماركسيه والجماعات التي تسمي نفسها ثوريه واشتراكيه تزعم دعمها حقوق الفقراء ضد رأسمالية أوربا وبرجوازيتها . تتحدث الروايه عن المستر أدولف فيرلوك وعمله كجاسوس وتقع احداثها في لندن بعيداً عن البحر . قام كونراد بنفسه بتحويل الروايه الى مسرحيه ليتم فيما بعد تحويلها الى أفلام ومسرحيات واوبرات في عروض شتى . صنفتها مودرن ليبرري البريطانيه بالمرتبه 46 كأفضل عمل كُتب بالأنكليزيه في القرن العشرين
https://www.youtube.com/watch?v=Ori49OT6uXg
الروايه التاليه كانت رواية ( النصر ) أو ( النصر : قصة جزيره ) نُشرت عام 1915 روايه سايكولوجيه فيها الكثير من الألم والمراجعه أحدثتهما الحرب العالميه الأولى وفيها صور انواع عديده من المعاناة التي عاشها جوزيف كونراد بنفسه . بطل الروايه ( أكسل هيست ) شاب يعيش في لندن ربته زوجة أبيه الأرمله بعد وفاة والده , اما والدته فهو لم يعرفها أبداً حين كبر قليلاً أصبح متجولاً في العالم وبلا جذور , قادته خطاه الى جنوب شرق آسيا الى أندونيسيا وجزيرتها جاوه في ميناء سوربايا . يتعرف هيست على القبطان موريسون ومشاكله مع السلطات بسبب عجزه عن تسديد بعض الرسوم للسلطات فيقوم هيست بإقراضه بعض المال لفك ضائقته , نشأت عن ذلك علاقة متينة بينهما عززت الروح المعنويه لدى هيست التائه بلا جذور وساعدت على تأسيس مشروعهما المشترك ( شركة فحم المدار الإستوائي ) يقوم موريسون بزيارة لندن ويموت فيها بينما يبقى هيست في منجم الفحم في جزيرة سامبوران يرافقه خادمه الصيني وانغ . يتعرف هيست على عازفة تدعى لينا ويحبها لكنها تموت على يد جماعه تعتقد ان هيست يخبيء ثروه كبيره , يلاحق هيست القاتل ويقتله لكن هيست يموت بعد أن يطلق خادمه الصيني النار عليه
في العام 1919 تم تحويل الروايه الى فيلم صامت من إخراج موريس تورينور , في العام 1930 تم تحويلها الى فيلم ( الجنه الخطره ) إخراج ويليام ويلمان , عام 1940 اخرجها جون كرومويل , 1987 تحولت الى فيلم ( جنة الشيطان ) وهو فيلم ألماني بطولة يورغن بروكنو وسوزانا هاميلتون وسام ووترستون
قام ريتشارد رودني بينيت بتحويلها الى اوبرا تم عرضها لأول مرة في دار الأوبرا الملكيه كوفنت غاردن في ابريل 1970 , عام 1976 أعلن سيدني بولاك نيته اخراجها كفيلم لم يكمل إنجازه حتى اليوم , عام 2015 بثت اذاعة بي بي سي نسخه اذاعيه عن الروايه قام هارولد بينتر بإعدادها , قامت قناة
نيتفليكس بإقتباس الروايه في الجزء الخامس من مسلسل مايندهينتر
https://www.youtube.com/watch?v=xuBCqjp3LWk
نشر جوزيف كونراد عام 1911 رواية ( تحت عيون غربيه ) كتبها في ثلاثة أجزاء للرد على رواية دويستوفسكي ( الجريمه والعقاب ) وجهة نظر دويستوفسكي في روايته أن طالب القانون المولع بالعدل كناموس له , حين يرتكب جريمة قتل فالمجتمع الذي دفعه الى الجريمه أولى منه بالمحاسبة والعقاب , لكن كونراد في الجزء الأول من روايته يظهر لنا بطله رازوموف الطالب المحبوب هو من قام بالوشاية بزميليه اللذين قتلا وزير الدولة الذي يعامل الناس بوحشيه وبعد معرفته بإعدامهما في نفس اليوم يصاب رازوموف بلوثه تشبه تلك التي اصابت راسكولينيكوف في الجريمه والعقاب فيكتب وصايا ( إصلاحيه ) لكنها ليست ثوريه تعثر عليها الشرطه عند تفتيش بيته وينتهي الجزء الأول
في الجزء الثاني من الروايه ينتقل رازوموف من سان بطرسبيرغ الى جنيف وهناك يتعرف على اخت واحد من اللذين وشى بهما ووالدتها , هذا الجزء لا يحتوي على احداث مهمه لكنه يناقش بعمق معنى الثوريه والثوره والعنف والقتل والدم وضياع حقوق الطبقات المستضعفه في موجات العنف للإستحواذ على السيطره والسلطه , والأفكار وليدة حاجة مجتمعاتها , والافكار المتسلله من الخارج , فيه وصف دقيق للغليان الذي ساد اوربا قبل انفجار الحرب العالميه الأولى
في الجزء الثالث من الروايه نكتشف أن اخت الطالب الذي اعدم ووالدتها كانتا متعاطفتين مع رازوموف ظناً منهما ان رازوموف كان أحد رفاق فقيدهما , في الوقت الذي كان رازوموف موفداً من الحكومه الروسيه للتقرب منهما بغية تعريفه ببقية اعضاء التنظيم لتتم ملاحقتهم
في الجزء الرابع يعترف رازوموف لأخت زميله المغدور أنه وقع في حبها منذ أول نظره لكنها لا تتجاوب معه فيخبرها أنه هو من وشى بأخيها عندها تخبر الثوار عنه فضربوه حتى فقد سمعه , ولأنه لا يسمع فبعد أيام تدهسه سيارة مسرعه فيتهشم , ليقضي بقية حياته مقعداً في جنيف بعيداً عن سان بطرسبيرج التي يحبها , والدة زميله المعدوم تتوفى أما الابنه فتتطوع للعمل الخيري . ما أراده كونراد من هذه الروايه هو القول أن الطبيعه البشريه السيئه هي أصل الشرور ولا يجدي معها حتى لو كنت دارساً للقانون لكنه وهو يناقش هذه الفكره يعرض بطريقه صوره مفصله للوضع في اوربا هذا الوضع الذي سيبقى سائداً حتى ستينات القرن الماضي نطالع صوره في : العادلون , المجانين , اسطورة سيزيف لألبير كامو , وثلاثية دروب الحريه لجان بول سارتر : سن الرشد , وقف التنفيذ , الحزن العميق
بقية اعمال جوزيف كونراد تجري كلها على هذه الشاكله , لكن البيان السياسي الأكثر شمولاً وطموحاً الذي أدلى به كونراد هو مقالته عام 1905 بعنوان (الأوتوقراطية والحرب) سبب المقال هي الحرب الروسية اليابانية حيث نشر المقال قبل شهر من معركة مضيق تسوشيما . يبدأ المقال ببيان حول ضعف روسيا غير القابل للشفاء وينتهي بتحذيرات ضد روسيا المعتدي الخطير في حرب أوروبيه مستقبليه . توقع اندلاع عنف في المستقبل القريب في روسيا لكن افتقارها للتقاليد الديمقراطيه وتخلف جماهيرها جعلا من المستحيل أن يكون للثورة تأثير مفيد . اعتبر كونراد أن تشكيل حكومة تمثل الشعب في روسيا أمر غير ممكن وتوقع الانتقال من الحكم المطلق إلى الديكتاتوريه (وهو ما وقع بالفعل) . أما اوربا الغربيه ففي رأيه هي ممزقه بسبب العداوات الناتجه عن التنافس الاقتصادي والأنانيه التجاريه ومن العبث أن تسعى ثورة روسيه للحصول على المشوره أو المساعده من أوروبا الغربيه الماديه والأنانيه التي سلّحت نفسها استعداداً لحروب أكثر وحشية بكثير من تلك التي وقعت في ربيع الثورات الأوربيه
نشأت عدم ثقة كونراد في الديمقراطية من شكوكه فيما إذا كان نشر الديمقراطية كهدف بحد ذاته يمكن أن يحل أي مشاكل . كان يعتقد أنه في ضوء ضعف الطبيعه البشريه والطابع (الإجرامي ) للمجتمع ، فإن الديمقراطية توفر فرصاً لا حدود لها للدماغوجيين والدجالين والفاسدين ولهذا حافظ كونراد على مسافة تفصل بينه وبين السياسات الحزبيه ، ولم يصوت أبداً في الانتخابات البريطانيه , واتهم الديمقراطيين الاجتماعيين في وقته بالعمل على إضعاف الشعور القومي الذي كان همه المحفاظه عليه , برأيه أن الديمقراطيه هي محاولة حل الهويات الوطنيه في بوتقة غير حقيقيه وكتب يقول ((أنظُرُ إلى المستقبل من عمق ماضٍ شديد السواد وأجد أنه لم يبق لي شيء سوى الإخلاص لقضية ضائعه ، لفكرة بدون مستقبل)) كان إخلاص كونراد اليائس لذكرى بولندا هو الذي منعه من الإيمان بفكرة الأخوه الدوليه التي اعتبرها في ظل هذه حياتنا المعاصره مجرد تمرين لفظي واعرب عن استيائه من حديث بعض الاشتراكيين عن الحريه والأخوه في العالم بينما يلتزمون الصمت بشأن بولندا المقسمه والمظلومه
قبر جوزيف كونراد في روسيا
توفي جوزيف كونراد عام 1924 بنوبة قلبيه وأقيم قداس جنازته في كانتربري ودفن فيها , ثم توفيت زوجته ودفنت الى جانبه , قبريهما اليوم من الهياكل المدرجه على قوائم الصيانه والإدامه السنويه احتراماً لقيمة رجل تعتبره بريطانيا واحداً من أعظم كتّابها خلال القرن العشرين
د. ميسون البياتي