مقالات

أ. د. عبد علي سفيح

مفهوم العبادة عند الإمام علي (ع)

02/04/2022 07:52
   قال الامام علي(ع): " ربي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك. إن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد. وإن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار. وإن قوماً عبدوا الله حباً(شكراً) فتلك عبادة الأحرار ". هذا القول المأثور والمشهور الذي ينسب للامام علي، استوقفني طويلاً حين قرأت وتأملت في هذا الكلام، فرأيته نصاً فلسفياً عميقاً محوره مفهوم العبودية. وبما أننا نحيي هذه الليالي المباركة من شهر رمضان، شهر الطاعة والغفران بالعبادة الخالصة لرب العالمين، رغبت أن اشارككم في هذا الحوار الروحاني المعرفي الفلسفي.     أخترت هذا النص أو القول للامام علي، لأن في طياته كثير من الحكم، ويمثل الخطة الدنيوية والآخروية التي يجب أن يضعها الإنسان لنفسه.     تعطينا أقوال وحكم الإمام علي الإحساس بأننا ممكن أن نفهم قوله، وندرك أبعاده بدون بذل جهد كبير، لكن الحقيقة هي أعمق مما نتصور. هذه السهولة البلاغية تخفي وراءها هندسة عظيمة من الفلسفة العميقة. تفسير النص: السؤال الذي ممكن أن نطرحه: هل ممكن القول بأني أعبد الله ليس لأنه يستحق العبادة بل أعبده خوفا من ناره وطمعاً في جنته، اي طاعة مشروطة؟. هذه الطاعة لا يمكن أن نسميها بالعبودية لله سبحانه، بل للبشر. وقول الرسول (ص) واضح في هذا الجانب، فعى الرغم من أن الله سبحانه وتعالى غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر، إلا أنه أستمر في العبادة غير المشروطة فقال " أفلا أكون عبداً شكورا ". أي مفهوم العبودية عند الرسول(ص) غير مشروطة لاستحصال الجنة ولا وقاية من النار. هنا تظهر للسطح إشكالية كبيرة وهي: أن القرآن الكريم في مواضع عديدة يبين خلاف ما نعتقده ونقوله. أي العبودية لله مشروطة بالثوابت والعقاب، ومنها قوله تعالى: " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً " ( السجدة: 16). " أدعوا ربكم تضرعاً وخيفة إنه لا يحب المعتدين " ( الأعراف:55). " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاضعين " ( الأنبياء: 90).      هذه الإشكالية تقودنا إلى تفكيك النص ومن ثم إعادة تركيبه حسب منهج الفيلسوف دريدا، أي فصل النص إلى أمرين مستقلين كل منهما منفك عن الآخر، والجسر الرابط بينهما هو مفهوم العبودية. الأمر الاول: وجوب الثواب والعقاب. العبودية لله سبحانه هي حصيلة الخوف من دخول النار والطمع في الجنة. هذه العبادة هي شأن معظم الناس، لأن العامل النفسي يهيمن على الفكر البشري. وإذا وجد الخوف، وجده معه الطمع والرغبة. الخوف من الاملاق والفقر يلازم الطمع في الثراء والغنى. كذلك الخوف من الرسوب في الإمتحان، يلازم الطمع في النجاح. في هذا الأمر، مفهوم العبودية لله سبحانه هي العبودية لله الحاكم. هنا الله سبحانه هو الذي يحكم بالثواب والعقاب، والخير والشر، والغنى والفقر، وبالهلاك والنجاة. فمفهوم الحياة البشرية في هذه الحالة تصبح وكأنها ساحة الإنسان المتهم في محكمة العدل الإلهي منتظراً الحكم عليه. الأمر الثاني: قول الامام،" إني وجدتك أهل للعبادة...تلك عبادة الأحرار"، يدل على وجوب القيام بحق الربوبية بغض النظر عن الثواب والعقاب. أي العبودية لله سبحانه غير مشروطة. هذا الجزء من النص يعطي لله سبحانه مفهوم الخالق وليس الحاكم، لأن الخالق لا يحكم. لتوضيح جوهر هذه الفكرة سوف نعطي بعض الأمثلة ومنها: الشخص الذي أكتشف الكهرباء، أو أخترع السيارة، أو التليفون، لم يضع شرطاً مسبقاً لمن يستخدمه، ولا على من يستخدمه، لانه اخترع هذه الآلة لخدمة الناس. كذلك الله سبحانه، خلق الإنسان، لا ليحكم عليه في الدنيا بل تركه حراً في اختياره، ولهذا سميت الآخرة بيوم الحساب والعقاب، أو دار الجزاء. وهناك آيات بينات تعزز هذا التفسير بقوله تعالى: " فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون "( الزخرف:83). وقوله تعالى: " لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون "( هود:22).
  هنا أيضا تواجهنا إشكالية أخرى في هذا التفسير وهي: أن الله سبحانه خالق كل شيء، وهو مالك الملك، ولا يحدث في ملكه شيء إلا بإذنه، ولذلك فحكمه وأمره هما اللذان يجب أن ينفذوا في كل شيء، وقوله تعالى: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ..." ( الأحزاب:36). هذه الآية تبين بوضوح، ان الله سبحانه هو الخالق والحاكم في الحياة الدنيا والآخرة. إذن، كيف نستطيع حل هذه الاشكالية، علما بأننا قلنا مسبقاً، أن النص يحتوي على أمرين منفصلين؟. الجواب: الأمران، الأول ( بوجوب الخوف والطمع)، والثاني ( بعدم وجوب الخوف والطمع)، أمران متصلان. ولتوضيح هذه الفكرة نضرب عدة أمثلة منها: الله سبحانه، خلق الإنسان، وقدر له مراحل العمر، والجوع والعطش، وما على الإنسان إلا أن يخضع لهذه القوانين ويحترمها ان أراد الحياة. كذلك حكم عليه وأصبح العمل قدره. ما من حيوان او انسان إلا حكم عليه الجد والسعي لكي يعيش. هذا النظم والسنن الكونية فرضت على الإنسان وما عليه إلا الطاعة. هنا الله سبحانه هو الحاكم. والطاعة هي السلامة، لأن العقل هو الفيصل في الرشاد إلى الطريق الصحيح. أما كيفية التحرر من الثواب والعقاب، هو ليس أبعادها عن العبودية، بل هو التحرر من نتائج هذه العبودية. أي إعمل جاهداً لكي أحرز قصب السبق في الخير والرزق والعافية، إلا أن النتيجة لم أقرها أنا بل الله سبحانه هو المقدر. ومهما كانت النتيجة فهي خير لي. هنا ندخل مساحة الله هو الخالق وهي مساحة الإيمان اي القلب وليس العقل. لتوضيح هذه الفكرة نأخذ مثال على ذلك: قوله تعالى: " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون "( التوبة:51). كذلك قوله تعالى للرسول(ص): " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " ( الانفال:17). هذه الآيات تبين بوضوح بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق والحاكم، وكل شيء يسير بقدرته، وهو يقر النتائج مهما كانت نوايا البشر. من هذا الاستنتاج ممكن القول بأن ثنائية الخالق والحاكم هي تعبير عن ثنائية العقل والإيمان، وما الإيمان إلا هو أن يكون الإنسان حراً من نتائج عمله، لأن النتائج تخص مساحة وقدرة الخالق وليس المخلوق. أي إن القيم الروحية هي القيم التي تقهر شبح الخوف. إن الإمام علي(ع)، لم يدخل يوما في جوفه الخوف، ولم يقابل الخوف في حياته، لأنه كان حراً ويدرك ما يقسمه الله له هو الخير. 

مشاهدة الموقع بالنسخة العادية